تغذية المدن بالطبيعة
بروجيكت سنديكيت
2018-06-14 04:10
كارلو راتي
بوسطن ــ منذ كتب الشاعر اليوناني القديم ثيوكريتوس أنشودته الرعوية التي تغنى فيها برومانسية الحياة الريفية، ظل الناس يفكرون مليا في كيفية بناء مدن تنسجم مع محيطهم الطبيعي. ولكن في ظل النمو غير العادي الذي تشهده المناطق الحضرية في مختلف أنحاء العالَم، أصبحت الحاجة إلى مدن أكثر اخضرارا شديدة الإلحاح. وما يدعو إلى التفاؤل أن الإبداع والتكنولوجيا من الممكن أن يساعدا في إيجاد هذا التوازن الذي ظل بعيدا عن المنال لفترة طويلة.
كان سد الفجوة بين الحضر والريف محور اهتمام مخططي المدن منذ أمد بعيد. وفي القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، شهدت المدن الأوروبية نموا غير مسبوق مع انتقال أعداد ضخمة من الناس من الريف إلى الحواضر المزدهرة حديثا. ومع نمو هذه المدن، أصبحت مكتظة بالسكان وملوثة، مما ألهم جيلا جديدا من المفكرين للبحث عن حلول.
كان البريطاني إبنسر هاورد واحدا من هؤلاء الحالمين، والذي صاغ في عام 1898 مصطلح "المدينة الحديقة" ــ والتي عرفها بأنها تتألف من مجتمعات سكنية مبنية حول مزيج من المساحات المفتوحة، والمتنزهات، والمصانع، والمزارع. وسرعان ما أصبحت لندن محاطة بالضواحي الخضراء المصممة لإيجاد التوازن بين الإسكان العالي الجودة والمساحات الخضراء الوفيرة. وكان شعار هاورد جلب المدينة إلى الطبيعة.
بعد بضعة عقود من الزمن، وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، استحضر فرانك لويد رايت "المدينة المزرعة"، التي استند تصميمها إلى تصور للتنمية الحضرية يوازن بين البيئة المبنية والحياة البرية. وفي أوروبا، كان تشارلز إدوارد جينيريت، وهو مهندس ومصمم معماري عُرِف باسم "لو كوربوزييه"، يرسم رؤاه للمدن الفاضلة التي تطوق بلا توقف العالَم الطبيعي.
ولكن برغم أن كل واحدة من هذه الأفكار كانت ثورية في وقتها، فإنها فشلت لأنها كانت تعتمد بشكل كبير على السيارات وكانت تروج للتمدد الحضري. الواقع أن أغلب التوسع الحضري المبكر في الغرب كان يتسم بأنماط تنمية اصطدمت بالطبيعة، ولم تكن متصلة بالمساحات والمتنزهات الخضراء، بل بأشرطة لا نهاية لها من الشوارع المرصوفة الجامدة. ومع إدراك المخططين لأوجه القصور التي اتسمت بها علاجات القرن العشرين، سعوا إلى عكس المعادلة: كيف يمكن إعادة الطبيعة إلى المدينة؟
كان الخط العالي في مدينة نيويورك، وهو عبارة عن طريق أخضر مرفوع بني من قاعدة سكك حديدية محولة وافتتح في يونيو/حزيران 2009، أحد المشاريع الأولى التي استوعبت هذا الطموح الجديد في التخطيط الحضري. ومن جسر الحدائق (الذل لم يعد موجودا الآن) في لندن إلى حديقة السماء في سيول، يجري الآن تصميم المشاريع بحيث تدمج الطبيعة على نحو أفضل في النسيج الحضري.
وتُعَد حدائق الخليج في سنغافورة بين الجهود الأكثر طموحا. ففي بستان الأشجار في الحديقة، تحصد الخلايا الكهروضوئية الطاقة من الشمس، ويجري تخزين مياه الأمطار في "مظلة" الأشجار الفولاذية لتغذية أبراج عمودية من النباتات. كما يتم جمع الهواء المجفف من الرطوبة للمساعدة في تبريد المباني المجاورة.
من ناحية أخرى، في ألمانيا، تعمل شركة بادئة بعنوان حلول المدينة الخضراء على بناء جدران متنقلة مغطاة بالطحالب لتنظيف الهواء الملوث والمساعدة في خفض درجات الحرارة. ومن مكسيكو سيتي إلى ميلانو يجري اختبار مفهوم سيتي تري الذي ابتكرته الشركة ــ وهو في الأساس نظام ترشيح طبيعي.
حتى أننا نشهد طفرة في الزراعة الحضرية، حيث يسهم التقدم في تقنيات الزراعة المائية والهوائية في تسهيل زراعة الخضراوات في الأماكن الضيقة. ورغم أن المدن لن تحل أبدا محل المناطق الريفية بوصفها المصدر الرئيسي للتغذية، فإن نسبة أعلى من الغذاء يمكن زراعتها في المناطق الحضرية. وبالفعل، تعمل مشاريع جديدة مثل "مزارع الشحن" في بوسطن و"إنفارم" في برلين على تسخير هذه التكنولوجيات لجلب الزراعة الحضرية إلى المزيد من الناس.
مع ترسخ حلول مبدعة كهذه، يحول المخططون للمناطق الحضرية اهتمامهم إلى مساع أكثر جرأة. ومن المفاهيم التي استكشفتها أنا وزملائي الأنظمة الإيكولوجية والمناخية الحضرية المصممة حسب الطلب. ففي ميلانو، كشفنا مؤخرا عن معرضنا للطبيعة الحية، وهو يتألف من جناح مساحته 500 متر مربع (5381 قدم مربع) يمكنه إعادة خلق أربعة مواسم في نفس الوقت تحت نفس السقف. وكان الهدف من المشروع إطلاق حوار حول التصميم المستدام، وتوضيح الطرق المدهشة التي يمكن بها دمج الطبيعة في مدن ومساكن المستقبل.
قبل أكثر من قرن من الزمن، تنبأ بفطنة الجغرافي الفرنسي إيليسي ريكلوس بأن الناس سوف يحتاجون دائما إلى "إمكانية مزدوجة للوصول إلى مسرات المدينة... وفي الوقت نفسه، الحرية التي تتغذى على الطبيعة". كان تصور ريكلوس المثالي حالما، وإن كان سابقا لأوانه. ولكن اليوم، وبفضل للتكنولوجيات الجديدة والتفكير الجريء، يتلاشى الانقسام بين المدن والحضر ببطء.