هل ستثبت الطاقة الشمسية المُستمدَّة من الفضاء جدارتها عندما تصبح محط الأنظار؟
موقع للعلم
2022-12-14 06:01
بقلم: ليونارد ديفيد
من الوارد أن يكون ابتكار أولى الخلايا الكهروضوئية التي تستمد طاقتها من ضوء الشمس مباشرةً على يد المخترع تشارلز فريتس في ثمانينيات القرن التاسع عشر قد دفع البعض إلى التكهن بأن ذلك الإنجاز سرعان ما سيأتي بثورة في مجال إنتاج الكهرباء على مستوى العالم، وهو تكهُّن منطقي؛ إذ يُعَد ضوء الشمس الأقل تكلفةً والأكثر نظافةً وانتشارًا من بين مصادر الطاقة جميعها، لكن بعد مرور حوالي مئة وأربعين عامًا على بزوغ نجم الطاقة الشمسية، وبالرغم من التطورات التقنية الهائلة –والمتواصلة- التي جعلت الطاقة الشمسية أعلى قدرةً وأقل سعرًا من أي وقت مضى، فإن نسبة الاعتماد على الطاقة الشمسية في توليد الكهرباء حول العالم لا تزال أقل من خمسة في المئة، يرجع ذلك إلى أن الطاقة الشمسية -على تعدُّد مزاياها- لها عيوب قد تحول دون الاستفادة منها على أكمل وجه، ومن أهمها العيب المتمثل في أنه ما من لحظةٍ تمرُّ على الكوكب إلا والظلام يخيم على النصف غير المواجه للشمس منه.
كان مهندس الطيران الأمريكي بيتر جليسر قد تحدث بالتفصيل في عام 1968 عن حلٍّ محتمل للمشكلات المرتبطة بتلك العيوب، وهو حلٌّ اهتدى إليه بالتفكير "خارج الإطار" والتطلع إلى ما وراء الغلاف الجوي للكرة الأرضية؛ فبدلًا من بناء مزارع شمسية عملاقة فوق مساحات شاسعة من الأرض التي ستصبح معرضةً للأخطار البيئية التي ينطوي عليها التوسع في توليد الطاقة الشمسية، اقترح جليسر نقل الخلايا الكهروضوئية إلى مدار الأرض على متن أساطيل من الأقمار الصناعية التي تعمل بالطاقة الشمسية، وهناك، عند المدار، حيث لا يخفت ضوء الشمس بفعل الغيوم ولا يتأثر بتعاقُب الليل والنهار، يمكن جمع ذلك الضوء بكفاءة قصوى، ثُمَّ بثه في موجات دقيقة إلى "هوائيات تقويم" أرضية (أو ريكتينات)، وهكذا، فحين تعود الموجات الدقيقة إلى الأرض، يمكن تحويلها إلى كهرباء وضخها في شبكات توزيع الطاقة المنتشرة في جميع أنحاء العالم.
آنذاك، كانت تكلفة إطلاق الرحلات إلى الفضاء مرتفعةً للغاية، أما أداء الخلايا الكهروضوئية فكان منخفضًا للغاية، واستمر ذلك الوضع عقودًا، مما حال دون تنفيذ فكرة جليسر المبهرة على أرض الواقع، ولكن مع التقدُّم التقني الذي نشهده اليوم، وفي ظل تزايُد الحاجة إلى الطاقة النظيفة، اكتسبت فكرة توليد الطاقة الشمسية من الفضاء زخمًا جديدًا، كان من بين مؤشراته تدشين مشروعات تجريبية في هذا الاتجاه في الولايات المتحدة والصين وأوروبا واليابان، وإذ ترتفع موجة جديدة من موجات البحث العلمي في هذا المجال، ثمة سؤال يظل مطروحًا ومفاده: هل ستُثبِت الطاقة الشمسية المُستمدَّة من الفضاء جدارتها عندما تصبح محطَّ الأنظار؟
التطلُّع نحو المستقبل
في الولايات المتحدة، تدرس وكالة «ناسا» الآفاق الحالية والمستقبلية لتوليد الطاقة الشمسية من الفضاء دراسةً متمعنة، وذلك على خلفية النمو السريع في صناعة ارتياد الفضاء والتهديدات المرعبة المرتبطة بتغير المناخ، وفي هذا الصدد، يقود نيكولاي جوزيف -مُحلِّل السياسات في مكتب التقنية والسياسات والإستراتيجية التابع لوكالة «ناسا»- فريقًا من الباحثين العاكفين على استكشاف أبعاد عملية توليد الطاقة من الفضاء، وذلك ضمن دراسة تابعة لمكتب التقنية والسياسات والإستراتيجية، وتختص بالنظر في هذه الطريقة دون غيرها من طرق توليد الطاقة، ويقول جوزيف إنه من المنطقي أن يُجري مكتب التقنية والسياسات والإستراتيجيّة مثل هذه الدراسة، نظرًا إلى الاهتمام العالمي المتزايد بما تنطوي عليه الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء من مزايا كامنة قد تُغيِّر مسار حياتنا.
قول جوزيف: "ظلت فكرة الطاقة الشمسية المُستمدَّة من الفضاء مثارًا للاهتمام عقودًا من الزمن، ولكن صناعة المركبات الفضائية التي قد تستفيد من هذه الطاقة وإطلاقها ظلَّ أمرًا باهظ التكلفة إلى الحد الذي حال دون تحقيق الفكرة"، ويستدرك جوزيف فيقول: "ثمة فرصة اليوم لكي يتغير هذا الوضع في ضوء ما جرى خلال العقد الماضي من تطورات تقنية ونمو في صناعة ارتياد الفضاء... فمن الأهمية بمكان أن نعيد النظر بصورة دورية فيما هو مطروح من الأفكار الجيدة، وأن نستكشف الخيارات المتاحة صوب تنفيذها، وعليه، فإن وكالة «ناسا» في حاجة إلى أن تكون على علم بجميع السيناريوهات الممكنة في هذا المجال؛ لأن ظهور الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء سيتقاطع مع العديد من اهتماماتنا الأخرى في الوكالة ويؤثِّر فيها، كما ينبغي للوكالة أيضًا الاطلاع على كل جديد فيما يخص تقنيات الفضاء ودراسة جميع جوانبها، بعبارة أخرى، ينبغي أن نتطلَّع دائمًا نحو المستقبل".
هذا المستقبل، بالنسبة لوكالة «ناسا»، قد يشهد الاستفادة من الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء في نشاطات تُدار خارج كوكب الأرض، ومن ذلك دعم برنامج «آرتميس» الواعد، وهو برنامج تابع للوكالة يستهدف إطلاق رحلات مأهولة لاستكشاف القمر؛ فعلى سبيل المثال، يمكن لتوافُر الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء في محيط القمر أن يُسهم في تعزيز وجود قواعد مأهولة بالبشر على سطح القمر وتفعيل الأنشطة الاستكشافية الأخرى هناك، والأكثر طموحًا من ذلك هو أنه يمكن في يومٍ ما الاستفادة من الطاقة التي تُبَثُّ من هناك في إرسال المركبات الفضائية إلى وجهات تتطلَّب السفر بين الكواكب، بل بين النجوم أيضًا، وذلك دون تكبُّد عناء حَمْل الوقود المُحرِّك لهذه المركبات على متنها.
هل يقدم توليد الطاقة الشمسية من الفضاء حلًّا سحريًّا لجميع مشكلات الطاقة؟
أما على الأرض، فنجد أن البعض يرى في الطاقة الشمسية المُستمدَّة من الفضاء وسيلةً مثاليةً لبلوغ صافي انبعاثات صفري من الغازات الدفيئة مع الاحتفاظ بمخزون ثابت ومستدام ووفير من الطاقة؛ فعلى النقيض من الكهرباء المُستمدَّة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح الأرضية، وكلاهما أكثر تعرضًا للتغيرات الناجمة عن تقلبات الظروف المحيطة، يمكن أن تعمل الطاقة الشمسية المُستمدَّة من الفضاء على مدار الساعة (لتوفر بذلك ما يُسمى بـ"طاقة الحِمل الأساسي")، كما أنها تتيح توزيع الكهرباء توزيعًا مرنًا وسريع الاستجابة عبر شبكات الطاقة وفيما بينها (فيما يُعرف بـالطاقة "القابلة للتمدُّد والانتشار").
يقول مارتن سولتاو، المُحلِّل في شركة «فريزر-ناش» للاستشارات Frazer-Nash Consultancy والرئيس المشارك لمبادرة «الطاقة من الفضاء» Space Energy Initiative ومقرها المملكة المتحدة: "تتميز الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء عن غيرها من أنواع الطاقة الأخرى بقدرتها على توفير كلٍّ من الطاقة الأساسية والقابلة للتوزيع على نطاق مدنٍ بأكملها، ما يجعلها إحدى أهم التقنيات الجديدة في مجال الطاقة النظيفة"، ويُردف سولتاو قائلًا: "هناك ميزة أخرى لهذا النوع من الطاقة، وهي أن إعادة هندسة الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء لا تتطلب وجود شبكات كهربائية، ومن هنا، بنينا تصوُّرًا يقوم على وضع هوائيات التقويم الأرضية بالقرب من التوصيلات البينية للشبكات القائمة بالفعل، كأن نضعها في مواقع مجاورة لمزارع الرياح البحرية الموجودة حاليًّا على سبيل المثال"، ومن هذا المنطلق، تسعى مبادرة «الطاقة من الفضاء» -بوصفها شراكة بين الحكومة ورواد الصناعة والبحث العلمي- إلى بناء أسطول من مركبات الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء ثُمَّ ربط هذه المركبات بشبكة الطاقة في المملكة المتحدة بحلول أربعينيات القرن الحالي، ووفق تصوُّر المبادرة، من المتوقع أن يكون إنتاج الكهرباء لكل مركبة فضائية ضمن هذا الأسطول مساويًا تقريبًا لما تنتجه أي محطة توليد طاقة تعمل بالفحم أو الوقود النووي.
غير أن تحقيق أيٍّ من التصورات السالف ذكرها يستلزم خوض جولات صارمة من الاختبارات في الفضاء، لذلك تعتزم مبادرة «الطاقة من الفضاء» بدء عملها بإطلاق مركبة تجريبية بحلول عام 2030، بحيث تختبر إمكانية تنفيذ هذه التصورات داخل مدار الأرض قبل إطلاق أسطول الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء المنشود بأكمله.
يقول سولتاو: "لعل أهم تقنيتين ينبغي الانشغال باختبارهما والتحقق من إمكانية تنفيذهما في الفضاء في مرحلة مبكرة هما الاعتماد على الروبوتات في تجميع تلك الهياكل الضخمة [أي الألواح الكهروضوئية الشمسية] وإرسائها دون تدخُّل بشري، وبث الطاقة من الفضاء إلى الأرض بمستويات عالية بالقدر الذي يسوِّغ حجم الجهد المبذول في هذه العملية"، ويضيف: "هناك الكثير من القضايا المهمة الأخرى التي يجب تناوُلها، ومنها بيئة العمل التي ستخلقها اللوائح المُنظِّمة لاستخدام كلتا التقنيتين، وكذلك عملية تخصيص الأطياف الترددية لبث الطاقة من هذا النوع".
وضع التقنيات المتطوِّرة قيد الاختبار
جدير بالذكر أن مبادرة «الطاقة من الفضاء» ليست الوحيدة التي تسعى لإجراء اختبارات عملية تتحقق من كفاءة الأجهزة ذات الصلة بـالطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء على أرض الواقع؛ إذ تلاحق مشروعات كثيرة أخرى المساعي نفسها في جميع أنحاء العالم.
على سبيل المثال، شيَّدت الأكاديمية الصينية لتكنولوجيا الفضاء وجامعة سيديان في الصين هيكلًا ضخمًا من الألواح الكهروضوئية الشمسية لعرض التقنيات الجديدة التي يمكن الاعتماد عليها في تركيز ضوء الشمس والنقل اللاسلكي للطاقة، يحمل المشروع الاسم الرمزي "جوري" باللغة الصينية، أو "مطاردة الشمس" بالعربية، ويستعين في مهمته ببرج فولاذي ارتفاعه 75 مترًا تم بناؤه في جنوب حرم جامعة سيديان، وقد تم تصميم هذا المرفق الجديد لاختبار تقنية نظام «أوميجا» OMEGA، أو المصفوفة الدائرية لتجميع الطاقة، والتحقُّق من كفاءتها، وهو نظام يهدف إلى تكثيف ما يُجمع من الطاقة الشمسية في المدار الثابت للأرض.
هناك أيضًا مبادرة «سولاريس» SOLARIS التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية، وهي خطة بحث وتطوير مقترحة مدتها ثلاث سنوات، وتهدف إلى دراسة فكرة توليد الطاقة الشمسية من الفضاء وما يتصل بذلك من تقنيات مهمة، وفي الوقت الحالي تنتظر هذه المبادرة البتَّ في أمرها خلال اجتماع مجلس وكالة الفضاء الأوروبية على المستوى الوزاري هذا الشهر، وقد عقدت وكالة الفضاء الأوروبية في الثامن عشر من شهر أكتوبر "يوم صناعات «سولاريس»" لتشجيع المشروعات وأعمال البحث والتطوير في مجال الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء، والتي يمكن أن تتحقَّق في الفترة ما بين عامي 2023 و2025، إذا ما حظيت بما يكفي من الدعم.
وفي اليابان، دأب الباحثون على دراسة موضوع الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقد وضع باحثون في وكالة استكشاف الفضاء اليابانية (JAXA) خطةً لابتكار طرق جديدة للتحكُّم في بث الطاقة وتجميع أجزاء الهياكل المكوِّنة للألواح الكهروضوئية الشمسية في مدار الأرض واختبار تلك الطرق، وفي أفضل الأحوال، سيُثمر هذا العمل عن ظهور أنظمة للطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء في غضون عقد أو عقدين، وبعيدًا عن التقييمات النظرية، خرج الباحثون اليابانيون في مجال الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء بتقنية تُعزِّز من دقة بث الطاقة من خلال أشعة الليزر والموجات الدقيقة، كما يقومون حاليًّا بإطلاق معدَّات للحصول على الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء محمولة على صواريخ دون مدارية، وذلك بغية جمع البيانات التقنية الضرورية.
وفي الولايات المتحدة، وبعيدًا عن وكالة «ناسا» واهتماماتها الفضائية المدنية، نجد وزارة الدفاع كذلك منشغلة انشغالًا كبيرًا بالاستفادة من الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء في إجراء العمليات العسكرية ودعمها في جميع أنحاء العالم، ومن أحدث الجهود في هذا الصدد مشروع «العروض والأبحاث التدريجية في مجال توليد الطاقة الشمسية من الفضاء» (SSPIDR)، التابع لمختبر أبحاث القوات الجوية الأمريكية، بالاشتراك مع شركة «نورثروب جرومان» Northrop Grumman للطيران والفضاء، ومختبر الأبحاث التابع للبحرية الأمريكية، وقد أجرى مشروع «العروض والأبحاث التدريجية في مجال توليد الطاقة الشمسية من الفضاء» مؤخرًا أول اختبار أرضي للمعدَّات التي ستدخل في تجربة طيران في الفضاء أُطلق عليها اسم «أراكني» Arachne، وتتمثل إحدى مهمات «أراكني»، والمزمع تنفيذها في عام 2025، في التحقُّق من القدرة على تكوين حزمة تردد لاسلكي وتوجيهها بدقة في مدار أرضي منخفض، والهدف من هذه الفكرة من وجهة نظر سلاح الجو الأمريكي هو "توفير طاقة مستمرة غير منقطعة، ومضمونة، ومعقولة من ناحية تكلفتها المادية، بما يساعد في تنفيذ مهمات قوات التدخل السريع".
وفي الوقت ذاته، ابتكر مختبر الأبحاث التابع للبحرية الأمريكية وحداتٍ خاصةً مُصمَّمة لتعزيز كفاءة تحويل الطاقة الشمسية إلى موجات دقيقة، وقد ظل جهاز الاختبار الذي يشتمل على هذه الوحدات -ويُطلق عليه اسم «وحدة هوائي التردُّد اللاسلكي الكهروضوئي»- محمولًا لأكثر من 900 يوم في الفضاء على متن طائرة X-37B الروبوتية السرية التابعة لسلاح الجو الأمريكي.
تفاوُتٌ في الاهتمام بتوليد الطاقة الشمسية من الفضاء
يقول بول جافي، مهندس الإلكترونيات في مختبر الأبحاث التابع للبحرية الأمريكية، وصاحب الخبرة الطويلة في العمل المرتبط بـالطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء: إن الموضوع جذب اهتمامًا متفاوتًا على مر السنوات الماضية، ولكن ما نشهده حاليًّا من تصاعُد في عدد المشروعات الخاصة بـالطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء يُعزى إلى ما جرى إحرازه من تقدم حقيقي ومؤثِّر في مجال تطوير التقنيات التي تتيح توليد هذا النوع من الطاقة والانتفاع به.
يقول جافي: "لطالما كان سبب الاعتراض على توليد الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء سببًا اقتصاديًّا، وخاصةً فيما يتعلق بمسألة تكلفة الإطلاق"، ويضيف: "أعتقد أن الحكم لم يصدر بعدُ بخصوص الجانب الاقتصادي، فلا يزال هناك الكثير من التطوير الذي يجب أن يحدث في تقنيات الشبكات للوصول إلى مستوى المرونة والوفرة المنشود".
ويقول جافي إن اختبار أجهزة الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء واستعراض مدى كفاءتها في الفضاء قبل قطع أي تعهُّد بتطوير أنظمة متكاملة في هذا الصدد هو أمرٌ منطقي وله مسوِّغاته، ويشير إلى أن مثل هذه الاختبارات قد تُكلِّف مئات الملايين من الدولارات، وحتى بعد الحصول على تمويل يغطي تكاليف هذه الخطوة، فإن الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء لا تزال بحاجة إلى دعم سياسي مستمر؛ ذلك أن مجرد انطلاق هذه الاختبارات يتوقف على عوامل اقتصادية وتنظيمية بقدر ما يتوقف على التطور التقني، إن لم يكن أكثر.
يقول جافي: "في نهاية المطاف، يتلخَّص الأمر في تحقيق كل ذلك بطريقة تنافسية من حيث التكلفة بالمقارنة بالبدائل المتاحة".
ولا يزال جون مانكينز -وهو خبير تقني سابق في وكالة «ناسا» وناشط منذ مدة طويلة في الدعوة إلى استخدام الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء- متفائلًا بشأن آفاق الحصول على هذا النوع من الطاقة، ومن هنا، فلا عجب في أنه يشغل حاليًّا منصب الرئيس المشارك للجنة الدائمة المعنيَّة بالطاقة الشمسية الفضائية، والتابعة للأكاديمية الدولية للملاحة الفضائية.
في الماضي، كانت هناك ثلاثة عوائق مادية مُتداخلة تعرقل خطط توليد الطاقة الشمسية من الفضاء، وهي: التكاليف المرتفعة لصناعة الأجهزة اللازمة، والتأكُّد من أن هذه الأجهزة مناسبة لبيئة الفضاء، ثم وضعها في المدار، يقول مانكينز: "لقد زالت جميع هذه العوائق"، والفضل في ذلك يُنسب إلى التقدم في صناعة الروبوتات الفضائية، والقدرة على إنتاج مكونات الأجهزة الخاصة بتوليد الطاقة الشمسية من الفضاء على نطاق واسع، والانخفاض الكبير في تكاليف إطلاق هذه الأجهزة في الفضاء.
ويضيف أن التطور الإيجابي على هذه الأصعدة الثلاثة قد يكون من شأنه خفض تكاليف الاستثمار المبدئيَّة بمئات المليارات من الدولارات، مما ينتقل بالطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء إلى حقبة جديدة ستصبح فيها فكرةً قابلةً للتنفيذ من الناحية الاقتصادية، ويقول مانكينز إن هذا الأمر يمثِّل دافعًا أكثر من كافٍ لإثارة الاهتمام بالطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء، وتعظيم المشاركة في السعي للحصول عليها من مختلِف الدول اليوم.
تنبُّؤات متشائمة
ومع ذلك، لا يتفق الجميع على وجهات النّظر المتفائلة هذه حول آفاق الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء، أحد النقاد البارزين هو أموري لوڤينز، الخبير في سياسات الطاقة والمؤسس المشارك والرئيس الفخري لمؤسسة «آر إم آي» RMI (المعروفة سابقًا باسم «معهد جبال روكي» Rocky Mountain Institute)، وهي منظمة غير ربحية تسعى إلى تحسين ممارسات الطاقة حول العالم، ويشغل لوفينز أيضًا وظيفة أستاذ زائر في الهندسة المدنية والبيئيّة في جامعة ستانفورد، فضلًا عن كونه عالِمًا في معهد بريكورت للطاقة بالجامعة.
يقول لوڤينز إن تكاليف الإطلاق "تظل عقبةً هائلة" أمام تفعيل فكرة الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء، وذلك على الرغم من تراجُع تكلفة نقل الحمولات الصافية إلى مدار أرضي منخفض بنحو 20 ضعفًا لكل كيلوجرام منها، وذلك عند مقارنة منحنى التكلفة إلى الأداء لمكوك فضاء تابع لوكالة «ناسا» مع ذلك الخاص بأحد المكوكات الفضائية من عائلة «فالكون» Falcon المدعومة من جهة شركة «سبيس إكس» SpaceX.
ويقول لوڤينز إن هناك مخاوف أمنية كذلك، مشيرًا إلى الأسئلة التي لا تزال مطروحةً منذ أول لحظة لفتت الأنظار فيها الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء في أواخر ستينيات القرن الماضي، ويستطرد لوڤينز فيقول: "تساءل بعض الناس في ذلك الوقت عما إذا كانت أسلحة الموجات الدقيقة الموجهة من الفضاء جزءًا من أهداف المتحمسين لهذا النوع من الطاقة"، ويضيف: "أما اليوم، فنحن على الأرجح قلقون أكثر بشأن إضافة مصدر طاقة مركزي فائق آخر إلى شبكة نقل طاقة ضعيفة للغاية وهشة بالفعل".
وعلى الرغم من أن الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء لا تزال فكرةً مثيرةً للاهتمام من الناحية النظرية، يرى لوڤينز أن ثمة تحديات كبيرة تقف دون تحقيق الفكرة على أرض الواقع، وهي تحديات تفرضها المستجدات على ساحة مصادر الطاقة المتجددة الأخرى، على سبيل المثال، تراجعت تكلفة مصادر الطاقة المتجددة الأرضية تراجُعًا كبيرًا وسريعًا؛ إذ أصبح سعر الجملة لطاقة الرياح والطاقة الشمسية على حدٍّ سواء ثلاثة سنتات أو أقل لكل كيلووات في الساعة، ومن ثَمَّ، تراجعت التكلفة الإضافية التي كانت سترافق دمج هذه المصادر "الأرضية" في الشبكات الموجودة بالفعل بطرق تضمن توصيل الطاقة بمعدل "ثابت"، يستنتج لوڤينز من ذلك أن منفعة الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء وميزتها التي يرَوَّج لها كثيرًا، وتتمثل في توافُرها المستمر على نحوٍ فعَّال بغض النظر عن تعاقُب الليل والنهار على كوكب الأرض، هي منفعة محدودة في مقابل تكلفتها، وفي ظل هذه الظروف، على حد قول لوڤينز، فإن الذهاب إلى الفضاء بحثًا عن ميزة أفضل مما تقدمه مصادر الطاقة المتجددة الأرضية من تكلفة منخفضة لكل كيلووات في الساعة أمرٌ عسير، إن لم يكن مستحيلًا.
ويقول لوڤينز: "باختصار، أعتقد أنّ الخلية الكهروضوئية ستوفر طاقةً أقل تكلفةً إذا حصلت عليها من سطح منزلك –حتى لو كنت تعيش في سياتل- مقارنةً بالحصول عليها من الفضاء"، ويضيف: "لست خبيرًا في أمور الفضاء، ولكن ليس من الواضح بالنسبة لي هل سيزول هذا العائق الأساسي في وجه الحصول على الطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء أم لا، ومن ناحية أخرى، من المتوقَّع أن تنخفض تكلفة الرياح الأرضية والخلايا الكهروضوئية بمعدل مرتين إلى ثلاث مرات أخرى، مما يجعل الطاقة التي نحصل عليها منهما مجانيةً تقريبًا".
ويتساءل لوڤينز عن السبب الذي قد يدفعنا إلى تحمُّل هذا القدر الكبير من المتاعب والنفقات لجمع ضوء الشمس من خارج الغلاف الجوي للأرض، "وهو منتشر على الأرض بالفعل، ومجاني، ويسقط على سطحها كما يسقط المطر على جميع البشر دون تفرقةٍ أو تمييز"، وعلى غرار جميع الأسئلة التي تتعلَّق بالطاقة الشمسية المستمدَّة من الفضاء، لا يزال البحث جاريًا عن إجابة قطعية تحسم هذا السؤال الفلسفي.