وزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصل
د. لطيف القصاب
2024-11-23 05:20
لعل من أبرز المكاسب التي جعلت دولا مثل إندونيسيا، وماليزيا، والأردن تدمج وزارات التعليم المختلفة لديها بوزارة واحدة فقط لا غير هي تعزيز الاتساق في تنفيذ السياسة التعليمية وبرامجها، وتحسين التواصل بين مختلف قطاعات التعليم، والاتفاق على نهج موحد لمواجهة التحديات التربوية والتعليمية، فضلا عن ترشيد النفقات العامة في تلك الدول الثلاث.
ولاشك في أن المكاسب المتقدمة تمثل أرباحا صافية للعملية التربوية والتعليمية معا، ومن هنا فقد كان من المتوقع للعراق أن يحذو حذو تجارب الدول المذكورة آنفا فيتخذ قرار الدمج أو الوصل هو الآخر، لاسيما مع كثرة الدعوات النخبوية المطالبة باختزال الوزارتين بوزارة واحدة.
لكن الأمر ما يزال موضوعا محتدما للبحث والنقاش، ولا يُتوقع أن ترسو سفينة الأخذ والرد في هذا السجال على مرفأ للحسم عما قريب، وذلك لاعتبارات عدة تختلط فيها العوامل الذاتية بالموضوعية، وقد يكون من أبرز تلك الاعتبارات على المستوى الذاتي ما يتمثل بمقاومة التغيير من لدن المستفيدين من الوضع القائم، وهم عادة المسؤولون أو الموظفون الذين تتملكهم دواعي الخشية من فقدان امتيازاتهم أو حتى وظائفهم! وموضوعيا فإن دمج وزارتي التربية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي بوزارة واحدة قد يؤدي إلى تشديد القبضة المركزية للحكومة الاتحادية.
وهذا ما يخالف النهج العام للدولة العراقية بعد عام 2003، وينبغي وضعه في عين الاعتبار قبل اتخاذ أي قرار، كما أن من دواعي التريّث قبل البت في عملية الدمج من عدمها ما يتمثل في أن الوزارة القادرة على استيعاب تفاصيل الوزارتين (الكبيرتين) ستجلب معها تعقيدات إدارية تزيد من حدّة البيروقراطية، وتخلق تحديات لم تكن معهودة من قبل في نطاق مجتمعيهما السابقين، كتلك التي تصاحب انتقال حملة الشهادات العليا من وزارة التربية للتدريس في الجامعات مثلا.
وتنبع الإشكالية في المثل الذي عرضنا له توا من طبيعة الفوارق التي تمس الفلسفة التعليمية في كلٍ من الوزارتين العتيدتين، إذ المستقر في الذهنية العامة للأستاذ الجامعي، وربما في أوساط كثير من الطلبة أيضا أن الطالب في المرحلة الجامعية مغاير لما كان عليه حاله سابقا، لاسيما في تلقيه للمادة العلمية، هذه المادة التي كانت تشتمل بمجملها على نظام تربوي قائم على التلقين والإرشاد بخلاف الطالب الجامعي الذي يُفترض أن يكون ذا توجه بحثي مستقل مستمد من الخطوط العامة للفلسفة المتبعة في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وهو الأمر الذي ينعكس بالضرورة على شخصيته، وطريقته الخاصة في تحديد كثير من خياراته وسلوكياته.
كما أن عملية الدمج (الناجح) ستستدعي تصميم هيكل إداري موحد يجب أن يكون مناسبا لجميع مستويات التعليم سواء الأساسي منه أو العالي، وهو تحدٍ نظري كبير بحدّ ذاته نظرا للاختلافات الموجودة في الأطر التنظيمية الخاصة بتوزيع المسؤوليات والمهام في كلتا الوزارتين.
ومع التوصية بالتريّث قبل البتّ في قرار الوصل أو الفصل فإن الرؤية المؤيدة لدمج الوزارتين بوزارة واحدة تستمد أرجحيتها من النظام التعليمي التكاملي الذي سيفضي في حال تطبيقه تطبيقا (مثاليا) إلى إيجاد جسر تكاملي متين يردم الهوة بين ما يتعلمه الطلاب في التعليم الأساسي وما يحتاجونه في التعليم العالي، لأن التكامل ينطوي بطبيعته على مخطط استراتيجي يأخذ بنظر الاعتبار أحوال الطلبة قبل وبعد مراحل التخرج، وهو الأمر الذي سيساعد في تهيئة ذهن الطالب لاتخاذ قراره الصائب في إطار مواصلة السير التعليمي وفقا للمسار المهني أو وفقا للمسار الأكاديمي.
وحينها سيصبح الانتقال بين المراحل الدراسية المختلفة انتقالا سلسا لا يختلف في أحسن الظروف عن انتقال الطالب من المرحلة الابتدائية إلى المتوسطة، ومن ثم ستتوافق نظرته (المصيرية) تجاه مرحلة الدراسة الإعدادية بفروعها الثلاثة (العلمية والأدبية والمهنية) مع ميوله الشخصية وما يطمح لاكتسابه من معارف ومهارات مستقبلا، وهي التجربة التي ستتكرر معه وبنضج أكثر من ذي قبل حين يعقد العزم على اختيار أحد المسلكين الرئيسيين: المسلك المهني والمسلك الأكاديمي.
وكلما كانت الاستراتيجية التكاملية المتبناة من طرف الوزارة (الموحدة) متقنة على المستويين النظري والعملي زادت همة الطلبة في ميدان تحصيل الدرس والمعرفة، وكانوا في مأمن من دوامة التفكير بمستقبلهم الاقتصادي، ومدى مواءمة تخصصاتهم لسوق العمل، والتجربة الماليزية في هذا المجال أفضل مصداق على هذا التصور، فقد أدركت الحكومات الماليزية المتعاقبة بأن البطالة في صفوف الخريجين لا تتمثل بوجود أعداد هائلة من المتخرجين-وهو حال مجتمع المتعلمين في العراق حاليا- بل إن المشكلة في جوهرها الحقيقي تكمن في عدم وجود انسجام بين مخرجات التعليم المختلفة من جهة وبين احتياجات السوق من جهة أخرى، وهي المشكلة التي ينبغي لوزارات الحكومة الأخرى أن تبادر كلا من موقعها لحلّها حلّا سريعا، ومن نافلة القول فإن وزارة التخطيط تتحمل القسط الأكبر، والأهم في سياق ابتكار أو بلورة الحلّ النموذجي المنشود.