لماذا فشلت انظمة التعليم الحكومي المركزي؟
حاتم حميد محسن
2015-10-26 12:13
يصف الاقتصادي لانت بريتشت التحديات التي تواجه التعليم في الدول النامية. وبما ان العديد من المشاكل التي يشخصها هي ملازمة لأنظمة التعليم المركزي التي تديرها الدولة، لذا يمكن اعتبار كتابه هذا مساهمة كلاسيكية اصلية عظيمة القيمة، ومن النوع الذي يُسمى بـ "التحررية التطبيقية".
الكاتب بريتشت لا يدعو الى اخراج الدولة من التعليم. فهو لا يقدّم أكثر من الدعم المتواضع القائم على فكرة القسائم للاقتصادي ملتن فريدمن(1). يرى الكاتب ان الاصلاحات الموجّهة نحو السوق التي اعتمدتها شيلي كانت اعلانا عن الفشل. وفي نفس الوقت، هو لديه الاعتقاد الراسخ في نقده لسياسات التعليم الشائعة لدى المؤسسات التعليمية.
بريتشت يعرض اول حكاية عن الاجتماع الذي شهده في مدينة اوتار برادش- المقاطعة الهندية الفقيرة، بين مدير المدرسة والقرويين الساخطين. المدير يرد على شكاوي القرويين كالتالي:
"انه ليس عيبنا، نحن نقوم بما نستطيع تجاه اطفالكم. ولكن من الصواب القول انكم اغبياء وحمير. ابناء الحمير هم ايضا حمير. نحن لا يمكننا تعليم اولادكم. هم جاؤوا من بيوتكم الى المدرسة وهم اغبياء وعليكم ان لا تتوقعوا انهم سيعودون اليكم وهم اذكياء".
وعلى الرغم من قلة مثل هؤلاء الاغبياء، لكن العديد من التربويين ذوي الطلاب الضعيفي الانجاز يميلون للقول "انه ليس ذنبنا". هناك اعتقاد واسع النطاق بان فقدان القدرات الادراكية لدى الطفل وعدم وجود دعم من العائلة هما مشكلة يصعب التغلب عليها.
الكاتب يدعم بقوة استخدام تجارب العينات العشوائية في تقييم سياسات التدخل في التعليم، وكتابه مليء بنتائج مثل هذه التجارب التي معظمها اجريت في الدول النامية. العديد من هذه التجارب فشلت في ابراز نتائج هامة للتدخل الحكومي. ورغم ان الكاتب لم يذكر هذا، لكن هذه النتائج تؤكد وجهة النظر الساخرة والفجة لمدراء المدارس.
ربما المثال الاكثر اثارة حول النتائج المخيبة للتدخل الحكومي هو نسبة التسجيل في المدارس ذاتها. هو يكتب:
ان الحقيقة المدهشة هي ان متوسط البالغين في الدولة النامية عام 2010 امضوا سنوات تعليم حوالي 7.2 قياسا بما امضاه متوسط البالغين في بلد متقدم عام 1960، والبالغ 6.8... هاييتي حاليا لديها سكان أكثر تعليما مما كان لدى فرنسا وايطاليا عام 1960.
وعلى الرغم من هذه الزيادة في عدد سنوات التعليم في الدول النامية، لكن هناك بالمقابل زيادة قليلة في المقدرة على القراءة وعمل الحساب. بريتشيت يصف تلك الظاهرة بالقول ان السنوات الاضافية للتعليم تؤدي فقط الى هامش صغير في المهارات الاضافية. أحد الامثلة على ذلك هو تنزانيا.
في نهاية السنة الدراسية السابعة في تنزانيا، كان فقط 41% من الطلاب متمكنين في مستوى تعليم السنة الدراسية الثانية.. وفي ظل الضحالة الحالية في التعليم، فان انجاز تعليم متوسط عالمي سوف لن ينتج تعليما عالميا بمستوى السنة الدراسية الثانية.
في الهند، نسبة طلاب السنة الخامسة الذين لا يستطيعون قراءة قصة في مستوى السنة الثانية كانت في تصاعد خلال السنوات السبع الماضية.
امثلة محددة عن التدخلات الحكومية التي فشلت في تحقيق نتائج كمية هامة في التجارب البحثية تضمنت التالي:
- دفع رواتب عالية للمعلمين
- حيازة جميع المعلمين لشهادة الدبلوم
- جميع المعلمين حاصلين على تدريب حديث بمستوى التعليم الجامعي
- المزيد من كتب المناهج الدراسية للطلاب
- توفير طاولات لجميع الطلاب
- حجم الصف لا يتجاوز الـ 25 طالب.
- وفي مجال الانفاق على التعليم المدرسي يكتب بريتشيت:
... البيانات الاساسية تفصح عن الصورة الاكبر للقصة: الدول لديها بالضبط نفس نتائج التعليم المتحققة في مختلف مستويات الانفاق. وان الدول كان لديها مختلف المحصلات التعليمية وبنفس مستويات الانفاق... الولايات المتحدة تنفق 105 ألف دولار (بسعر القوة الشرائية بعد تعديل سعر الصرف) على كل طفل وبولندا تنفق 39 ألف دولار، وهما يحصلان تقريبا على نفس النتائج. وعكس ذلك بالنسبة لإسبانيا التي تنفق 74 ألف دولار وفنلندا اقل من 71 ألف دولار، لكن مع ذلك تفوقت فنلندا على اسبانيا بخمسين نقطة (نصف الانحراف المعياري للطالب).
هو لاحظ بان إنفاق الولايات المتحدة على التعليم قد تصاعد، لكن نقاط التقييم الوطني للتقدم في التعليم (NAEP) لم ترتفع بين عامي 1971 و2004. دول اخرى من مجموعة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تبيّن تحسنا مشابها في أدنى الحدود، وأحيانا مع زيادة هائلة في الانفاق.
غير ان هناك بعض النتائج تشير الى تحسّن قوي في التعليم، يشير الكاتب الى الدراسات التي تبيّن ان الارشاد التعليمي والتوجيهات التصحيحية المنتقاة بعناية يمكنها إحداث اختلافا كبيرا. ايضا، من الامور المفيدة هي وضع بيانات أداء الطلاب امام الآباء، خاصة في المدارس الخاصة.
هو يكتب:
الباحثون في باكستان قاموا بتجربة اختاروا فيها بعض القرى فيها جرى اختبار كل طفل في السنة الدراسية الثالثة، كما جرى تزويد الآباء "بكارت تقرير" لكل من المدارس العامة والخاصة. العديد من المدارس الخاصة التي كانت "سيئة" في التقرير الاولي تحسنت بشكل كبير بمعدل 0.34 من تأثير الحجم (effect sizes)، والعديد من المدارس الخاصة التي كانت سيئة جرى غلقها، اما المدارس الخاصة الجيدة التي بقيت مفتوحة فهي لم تتحسن كثيرا رغم قلة الاجور التي تتقاضاها، كان هناك تحسن متواضع في المدارس الحكومية ولكن دون حدوث اغلاق. مكتسبات التعليم في المدارس الحكومية السيئة كانت فقط 0.078 من تأثير الحجم اي اقل بمقدار 4.5 مرة من مكتسبات التعليم في المدارس الخاصة السيئة.
في الواقع، ان المؤلف طرح عدة مسائل تسير بالضد من الرؤية المثيرة للجدل التي تنظر بمحاباة للتعليم الذي توفره الحكومة. وفي تحليله لتجربة اخرى اجريت في باكستان، يقول الكاتب:
الشيء الملفت هو ليس فقط ان المدارس الحكومية تبحث عن ريع، او انها تدفع لمدخلات العمل واجور المعلمين اكثر مما هو مطلوب، انها تبدو في الحقيقة مختزلة للقيمة: المعلم في نظام الحكومة يحقق اسوأ انتاج في تعليم الطفل قياسا بمعلم معتمد كليا على ذاته.
يرى المؤلف ان الحل هو ان نسمح لأنظمة وظيفية لتتطور محليا من الضغوط البيئية للنجاح. هذا النظام البيئي يحتاج للانفتاح على التنوع والتجريبية، والتخلي عن السيطرة، وستكون المكافأة ولادة نظام تعليمي يناسب عالم اليوم. المشكلة هي ان المدرسية schooling ليست ذات التعليم learning. انظمة المدارس تميل للمركزية وتعاني من التقليدات المتأصلة بتصاميم الاعلى – الادنى. العديد من الدول النامية تقلد سطحيا انظمة ناجحة في دول اخرى، تماما كما تقلد الافعى غير السامة في مظهرها للأفعى السامة.
الكاتب ينتقد الاقتصاديين الذين يفسرون دور الحكومة في التعليم مرتكزين على نظريات المؤثرات الخارجية externalities.(2)
ان الهياكل الاساسية لأنظمة التعليم لم توضع وفقا لإعتبارات تقنية تقود الى خلق مهارات فعالة او وفقا لأي من افكار الاقتصاد العام حول المؤثرات الخارجية وفشل السوق... مركزية فرنسا، فدرالية المانيا، محلية الولايات المتحدة، و"الاختيار" في هولندا لم تكن نتيجة النقاشات حول الكفاءة التقنية النسبية لهذه الانظمة المختلفة وانما حول الاختلافات بين الدولة والسكان بشأن الافكار المتعلقة بالتأهيل الاجتماعي الشرعي.
يتساءل بريتشيت عن سبب توفير الحكومات للمدارس العامة بدلا من مجرد توفير التمويل لتمكين الآباء من تسجيل اولادهم في المدارس. هو يجادل بان الجواب هو ان التعليم برز في سياق الدولة القومية، وحيث تكون للحكومات مصلحة قوية بالقيم التي تترسخ عبر المدرسة. هو يلاحظ "ان الصعود التاريخي للمدرسة الحديثة كان في كل مكان ودائما محلا للصراع لأجل السيطرة على عملية التأهيل الاجتماعي."
الكاتب يرفض فكرة وجود وفرة حجم اقتصادية scale economies (3) في المدارس بحيث تبرر نظام التعليم المركزي. هو يلاحظ ان معظم مزودي الخدمات المهنية كأطباء الاسنان والمحامين والمهندسين يعملون في شركات صغيرة.
يعتقد الكاتب ان المدارس يمكنها ان تتعلم التحسن. هو مع ذلك يشير الى ان التعليم المرتكز على التجربة لا يحدث كثيرا في المدارس مثلما يحدث ضمن نظام يسمح بالدخول والخروج. دخول مدارس جديدة جيدة واغلاق مدارس قديمة سيئة هو أسرع الطرق الى التحسن.
في الختام، يعتقد الكاتب ان نظام المدارس المثالي هو الذي يمتلك خصائص النظام الحيوي المستقل وهي كالتالي:
- نظام منفتح: يتأسس على آلية لدخول وخروج مجهزي التعليم المدرسي.
- العمل محليا: هل ان اولئك الذين يديرون المدارس ويعلّمون فيها لديهم الحرية في الكيفية التي تعمل بها مدارسهم؟
- ضغوط الأداء: هل هناك محصلات كمية واضحة قابلة للقياس والانجاز؟
- الارتباط المهني: هل يشعر المعلمون بروح مهنية مشتركة وبالارتباط فيما بينهم؟
- الدعم التقني: هل المدارس والمدراء والمعلمين لديهم امكانية الحصول على الدعم التقني المطلوب؟
- المرونة المالية: هل يمكن للموارد ان تتدفق بشكل طبيعي (بدون عمل قرارات من الأعلى الى الادنى) الى المدارس والفعاليات التي اثبتت نجاحها؟
هو يقول ان هذه الخصائص يمكن تحقيقها بعدة اتجاهات مختلفة، بما في ذلك المدارس الموجهة من الجالية والمجهزين الخاصين للتعليم والسلطات الحكومية الصغيرة والمدارس المستقلة. الاتجاه الذي يعمل جيدا في بلد ما يعتمد على السياق الكلي الثقافي والمؤسسي.
من المفيد جداً الاطلاع على كتاب إحياء التعليم بسبب اعتماده على التحليل العملي المرتكز على التجربة والذي يدعم الحلول اللامركزية المستقلة. الكاتب يوضح وبدليل مقنع ان الاتجاه الحكومي معيب وان المعرفة المحلية الى جانب خيار "الخروج" يقدم أفضل الحلول. على الرغم من ان الكاتب ركز فقط على التعليم في الدول النامية، لكن تحليله ينطبق بنفس القدر على الدول المتقدمة وعلى جميع قضايا السياسة العامة.