الجودة التربوية: مدخل أساسي لتحقيق التنمية
مجلة الكلمة
2020-02-29 04:20
بقلم: إدريس بوحوت-باحث في التواصل والتنمية من المغرب
من المواضيع والعناوين التي عرفتها أدبيات التربية في العقد الأخير، نجد مصطلح «الجودة» الذي أصبح يفرض نفسه في الحقل التربوي وبإلحاح[1]، والرهان على الجودة نراه، في الحقيقة، رهاناً استراتيجيًّا، وخياراً حساساً، بصفته شرطاً هامًّا لا يمكن الاستغناء عنه في كل المبادرات التربوية الإصلاحية لتحقيق التنمية في التربية.
لكن أي جودة نقصد ونعتبرها شرطاً في التنمية والتغيير؟ وما تجلياتها ومؤشراتها؟ وما شروط تحقيقها؟
- 1 –
مفهوم الجودة
الجودة مأخوذة من جذع (ج. و. د) الشيء فهو جيد: يطلق على الإتقان والإحكام. يقال في اللغة: أجاد الشيء وجوَّده: أتقنه فصار جيداً، «وأجاد الرجلُ إجادة أتى بالجيد من قول أو فعل»[2].
يعتبر مفهوم الجودة، من المفاهيم التي رحلت من عالم الاقتصاد إلى حقل التربية بعد أن طوَّره أستاذ الإدارة الأمريكي دومنج (W.E.Deming) في «نظرية: الرقابة الإحصائية على الجودة».
وحتى يتسنى لنا وضع مقارنة بين المنظور الاقتصادي والتربوي لمفهوم الجودة، يجدر بنا الإشارة لمفهوم الجودة أولاً من منظور اقتصادي/ إداري ثم تربوي.
أولاً: الجودة حسب دومنغ: تعني «إتقان السلعة عند تقديمها للمستفيد أو المستهلك بصفة دائمة أو بسعر مناسب. ومن منظور إداري، تتلخص الجودة الشاملة في تفعيل أسلوب إداري معين يهدف إلى تحقيق النجاح طويل الأمد، من خلال إرضاء الزبناء أو المستفيدين بصفة دائمة ومستمرة ومطردة»[3].
ثانياً: الجودة في التربية: لا يخفى عن ذي لب، أننا حين نتحدث عن الجودة في التربية فإننا سنستحضر أساساً الجانب المعياري، بالدرجة الأولى؛ أي استحضار مواصفات الخريج أو «السلعة»، تجوزاً، إن صح التعبير، قياساً على المنظور الاقتصادي. لذا نجد أن من اهتمامات الميثاق الوطني للتربية والتكوين -باعتباره يشكل التحول الجذري في المنظومة التربوية المغربية- تركيزه على الجودة بصفتها المدخل الأنسب لتحديث المنظومة التربوية لتتبوأ مكانتها اللائقة والمشرفة لأبنائها ولبلدها. إذا كانت الجودة «عامة، هي القدرة التي تتصف بمجموعة من الخاصيات الذاتية والموضوعية، والتي تلبي حاجيات وانتظارات معينة. أما التربية فتتمظهر جودتها من خلال الإنجاز والأداء الفعلي حسب عدد المقبولية للكفايات التعليمية التعلمية أو الإدارية التربوية..»[4].
ومن المفاهيم المتداولة في حقل التربية الدالة على الجودة التي نحن بصدد الحديث عنها، نجد مفهوم الفعالية، كما ذكر ذلك إدريس جحيدي بقوله: «والحديث عن جودة التعليم يحيل على مصطلح هام، وهو مصطلح فعالية التدريس الذي انطلق الاهتمام به نتيجة بروز المقاربة الإيكولوجية للتدريس، وهي مجموعة أبحاث رصدت متغيرات المدرس بطرق تجريبية مثل شخصيته وأفعاله وتكوينه السابق، وقد جاءت كرد فعل على الأبحاث التي كانت تهتم بموضوع «المدرس الجيد»[5].
ونزعم أن جودة الخريج، في نظرنا، تحتاج إلى تراكم كمي ونوعي آخر من «جودات»، وإلى شروط تربوية وبيداغوجية دقيقة كما سيأتي بيانه.
إن الجودة في العملية التعليمية-التعلمية تحتاج إلى مقاربة شمولية تراعي أولاً خصوصيات المتعلم (النفسية والسلوكية، والإدراكية، والوجدانية، وكذا قدراته العقلية، ومهاراته الفكرية والإبداعية).
ثم ثانياً، ضرورة الانفتاح على المجال السوسيوثقافي والمحيط الاقتصادي، لتحديد الحاجيات المطلوبة، وسد الخصاص والعوز الاجتماعي والثقافي في الحرف والمهن والوظائف... إلخ، لتحقيق التنمية الشاملة، والتغيير الجذري بفضل التربية/ قاطرة التنمية.
«فالجودة هي الحرص على إنجاز العمل بالشكل اللازم، وعلى الدوام والتحسيس المستمر لمجموع العمليات في كل مجالات العمل ومستوياته، والاستعانة بالأساليب الوقائية في التصدي للمشاكل قبل وقوعها، وتحقيق انخراط كل العاملين في المشروع بأعلى المستويات الإنتاجية، والإحساس بالرضا على عملهم وكذا تمكينهم من مجموع الصلاحيات المطلوبة لممارسة عملهم، وتنمية روح الولاء لديهم تجاه المؤسسة، مع استحضار الرفع من المردودية والأرباح والاهتمام بالتخطيط الاستراتيجي، والتجديد اللازم وتثمين سياسة القرب مع العامل والزبون والمستفيد»[6]. ومن خلال ما سبق، ندرك أن هناك خيوطاً رفيعة بين الجودة في بعدها الاقتصادي، والجودة في بعدها التربوي التنموي.
ولعل الجدول المقارن أسفله يوضح لنا العلاقة القائمة بين المجالين:
|
المجال الاقتصادي |
المجال التربوي |
الأهداف: |
الإتقان |
التحسين المستمر |
|
تحقيق الربح/النجاح |
التركيز على حل المشكلات قبل وقوعها |
|
إرضاء الزبون/المستفيد |
تحقيق الإنتاجية/المردودية/ الأرباح |
|
العمل الدؤوب والمستمر |
الحرص الدائم |
الخصائص: |
تفعيل أساليب الإنتاج وتطويرها |
- الاندماج والانخراط في الواقع |
|
استحضار المستفيد |
اعتماد سياسة القرب |
ولعل قراءة فاحصة للجدول تجعلنا نخلص إلى ما يلي:
* وجود ترابط وثيق بين ما هو اقتصادي وما هو تربوي[7].
* كل من الاقتصاد والتربية، يراهنان على إرضاء الزبون/المستفيد. (اقتصاد التعليم).
* ربط الورش الاقتصادي بالحاجة المادية (السلعة)؛ في حين نلاحظ ارتباط التربية/المدرسة بـ(السلعة) أيضاً، لكن سلعة تختلف هنا عن النوع الأول وتنحصر في «صناعة الإنسان» المناسب، وإعداد الجيل الصالح الذي يحمل مشعل التنمية في الواقع ليضيء دهاليز المعاناة، والفقر، والتدليس... وليملأ الفراغ المعنوي في المؤسسات الرسمية، ومؤسسات المجتمع المدني المتعطشة والفقيرة لهذا النوع من الصناعة البشرية الفذة.
- 2 -
الجودة التي نقصد
ولعل المقارنة السابقة لمفهوم الجودة، قد تجعل القارئ يشاطرنا الرأي بأن الجودة التي نحن بصدد الحديث عنها، في سياق هذا البحث، يمكن إيجازها في جودة الخريج/ الإنسان/ الطالب؛ الحامل للمواصفات والكفايات التربوية والأخلاقية، وكفايات علمية وعملية وفكرية. ونرى أن الصواب، من وجهة نظرنا، أن نَسِمَ هذا العملَ الجبارَ الذي أفاضت فيه الأدبيات التربوية مما يكفي من الأوصاف المطاطية تارة، والجزافية طوراً بـ«صناعة الإنسان المبدع».
فإن كان هناك من الباحثين من ينكر قياس الجودة في حقل الصناعة، على نظيرها في حقل التربية –كما زعم ذلك دكتور نخلة وهبة– في مستهل مقدمة كتابه قائلاً: «نلفت الانتباه هنا وقبل أن نباشر فصول الكتاب المختلفة، بأن الجودة في حقل التربية، تختلف عنها في حقل الصناعة»[8].
نعم، قد نتفق مع الباحث، مبدئيًّا، في التمييز الحاصل بين الصناعتين، وخاصة من حيث نوع المخرجات؛ بحيث تكون مادية استهلاكية في الصناعة، ومعنوية إنسانية في الصناعة التربوية؛ أي ذات بعد إنساني تنموي. لكن وكما أوضحنا من خلال الجدول المقارن، تبقى العلاقة وأوجه التشابه قائمة أيضاً، والتي تتجلى في التخطيط:
* للنجاح المادي و/ أو المعنوي.
* إعداد العدة المادية و/ أو المعنوية.
* وجود مخبر (الورشة-المدرسة).
ومهما يكن، فإن تنمية الإنسان هي «صناعة» من العيار الثقيل تحتاج هي الأخرى إلى عدة شروط ومواصفات دقيقة، لتؤتي أكلها حسب الوقت والحاجة المطلوبين. لكن يبقى الإشكال في الجانب الإجرائي أو الكيفية التي نحقق بها هذه الصناعة الثقيلة، وهو ما سنبينه في الفقرة التالية.
- 3 -
كيف نحقق الجودة/ الصناعة الثقيلة؟
في نظرنا أن «سؤال الكيف» أو الجانب الإجرائي في أي مشروع مادي أو إنساني أو تنموي، أصبح مؤكداً لمقاومة الفشل الذريع لأي مشروع، وتجاوز كل المعيقات التنموية التي تقف حجرة عثرة في مسيرة التنمية في المجال التربوي، ثم لتحديد الآليات والميكانيزمات الضرورية، التي من شأنها معاضدة وتقوية جوانب الخلل والضعف قبل انهيار «المشروع»، والوقوف على قارعة منتصف الطريق التنموي الذي نصبوا جميعاً إليه.
وإذا كانت أدبيات إعداد المشاريع تقتضي إخضاعه للمراحل الخمس أو الست المعروفة[9]، حتى يكتمل المشروع وخاصة مرحلة التتبع والتقييم، فإننا من وجهة نظرنا نقترح نوعين من الاقتراحات.
النوع الأول من الاقتراح
1- إعداد تقرير بشكل دوري ومنتظم لقياس الجودة التعليمية والتربوية.
2- ضرورة اتصاف هذه التقارير بالحياد والموضوعية.
3- إحالة هذه التقارير على الجهات المعنية[10]، للتدخل المعنوي لمعالجة ورأب الخلل قبل استفحاله.
4- ضرورة تقوية وتعزيز قنوات التواصل الهادف بين هيئة التدريس/الهيئة الساهرة على تنفيذ البرامج والمناهج بشكل مباشر بجميع الأسلاك التعليمية من القاعدة إلى قمة الهرم التعليمي (أي التعليم العالي) وخاصة في الجامعات ذات الاستقطاب العمومي.
قد يعترض معترض عن هذا النوع الأول من الاقتراحات قائلاً: إن اقتراح إعداد تقارير[11]، من هذا الشكل جار في المؤسسات التربوية، وعليه سيكون هذا الاقتراح هو تحصيل حاصل.
نعم، قد يكون المعترض محقًّا في اعتراضه، وهو على صواب ونتفق معه، لكن قد نسائله أيضاً، ما نسبة الموضوعية والشفافية في هذه التقارير؟ وما فحواها[12]؟ ثم ما مصير هذه التقارير، وكذا درجة حظوتها لدى الجهات الرسمية؟
لذا أرى أن القصور الذي يعتري هذه التقارير يتجلى أساسا في الجوانب التالية:
النمطية القاتلة: غياب روح التجديد وترك المبادرة الحرة للمدرس للتعبير عن مشاكل التعليم الحقيقية، لدرجة أن بعض المدرسين -سامحهم الله- لا يكلف نفسه أي عناء، ويكتفي بنسخ التقارير المنجزة في السنوات الماضية.
المصير المجهول: إن وُجدت تقارير جدية في أحسن الأحوال، والتي تكشف عن الوضع الحقيقي لوضعية الجودة في التعليم، فإنها قد تقابل بالتجاهل والامتعاض أو اللامبالاة، ونترفع في هذا المقام أن نسميها بسلة المهملات!!.
محدودية المفعول: لا ننكر، أو نجحد ما تقوم به «الفئة المخلصة» في قطاع التعليم والتواقة إلى التجديد والتغيير، وفاء لواجب المهنة والغيرة عليها، والتي تصب جام غضبها في مثل هذه الفرص الذهبية -فرص إعداد التقارير أو اللقاءات التربوية- لسرد المشاكل التربوية انطلاقاً من القلب النابض للعملية التعليمية/ الفصل الدراسي.
ويمكن الاستدلال على ما قلناه بدليلين اثنين:
الدليل الأول: التصنيف الأخير الذي فوجئ به المغرب في التقرير الذي أصدم الجميع[13]، والمبادرة إلى المخطط الاستعجالي (2009–2012م)، فلو أن التقارير الدورية الداخلية أثبتت جدواها ونجاعتها لما استفحل الأمر إلى ما هو عليه، حيث اكتشف المشهد التربوي وأصبح حديث العامة، فضلاً عن الخاصة.
الدليل الثاني: مصير التقارير المنجزة في المؤسسات التعليمية سنة 2005، في إطار منتديات الإصلاح، وخاصة المنتدى الوطني حول الارتقاء بجودة التعليم، والذي كان من بين أهدافه، كما صرح بذلك وزير التربية الوطنية السابق، خلال افتتاح هذا المنتدى في (18 فبراير 2005) بقوله: «إننا نهدف منه وراء تنظيم هذه الدورة الثانية من منتديات الإصلاح إلى تحقيق الأهداف التالية:
* تعميق التفكير حول أهمية الجودة في الرفع من مستوى مردودية النظام التعليمي...
* استبيان محاور وطبيعة العمليات والمهام والمسؤوليات للارتقاء الميداني»[14].
لا شك في أن منتدى الإصلاح الذي ركز في هذه الدورة على الجودة، أُنجِز كما أُنجزت التقارير في مختلف المؤسسات التربوية على المستوى الوطني. فلماذا إذن وصل الأمر إلى ما وصل إليه؟ علماً أن هذه التقارير أنجزت في صميم عشرية الإصلاح (2000-2009)، ثم لماذا الدعوة إلى المخطط الاستعجالي الذي «يحتضر»، بل باء بالفشل؟
نترك الإجابة للقارئ عموماً، ولمن تسول له نفسه الاعتراض، ليبقيا سؤالين استفزازيين، ومحفزين للمزيد من التمحيص والبحث والدقة.
النوع الثاني من الاقتراح
في ضوء سؤال الكيف المطروح سلفا، ورغبة في الصناعة الإنسانية الإبداعية/التنمية الإنسانية الحقيقية، فإن هذا الاقتراح يرتبط أساساً بمساءلة الذات، ويمكن صياغة السؤال هنا على الشكل التالي: كيف يمكن للإنسان/المدرس أن يسهم في صناعة الإنسان/المتعلم المبدع؟
قد يبدو السؤال منذ الوهلة الأولى معجزاً، أو على الأقل محرجاً! وكيف لا، والأمر يتعلق «بصناعة الإنسان المبدع»؟! ثم من جهة أخرى ما عسى الإنسان أن يفعل في النسق المتكامل/المادي والمفاهيمي، والعدة البيداغوجية داخل المنظومة التربوية؟
بعيداً عن المقاربة الموغلة في التنظير، وتجنباً لسياسة المشجب[15]، التي ابتلينا بها؛ حيث أصبح معظم من يتولى مسؤولية التربية والتعليم يتفنن في فبركة، وحبك الأعذار والتبريرات الوهمية أحياناً. وعذل الجهات الأخرى التي تعد الشريك في مسؤولية التربية (الجهات الرسمية، وباقي الفرقاء والشركاء الذاتيين أو الاعتباريين) -وإن كان في تقديرنا أن هذه الجهات غير مبرأة مما يحصل في حقل التربية– حتى لا يُحمل ما قلناه على مَحمل الإطلاق، ويتعسف المتعسفون في تأويله بتأويلات بعيدة؛ فإننا نوجز هذا الاقتراح في مبدأين أساسين هما:
1- المبدأ القيمي: أرى أن هذا المبدأ يمثل الجوهر، والأس الأساس في الصناعة/التربية[16]، بوصفها عملاً إنسانيًّا، ورسالة عظمى يتحملها المربي/ رجل التربية. وبإيجاز شديد فإن هذا المبدأ يتجلى في تحمل مسؤولية التدريس بأمانة وإخلاص تامَّين. مع التفاني في أدائها، بغض النظر عن باقي الحيثيات الأخرى.
لأن المبدأ الرسالي لهذه المهمة تجعل من يقوم بأدائها مخلصاً ومحتسباً أجر ذلك عند الله، أو بعبارة فالتعويضات الربانية المرجوة عند هؤلاء «الصناع الحقيقيين» تتلخص في الطمع في نيل الثواب الأخروي ونيل رضا الله عز وجل، الذي وعدهم وعد صدق بقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[17].
2– المبدأ الثاني: يرتبط أساساً باختيار مهنة التدريس/الصناعة، عن قناعة ورغبة صادقة، ثم «العشق» إلى درجة الوله لخدمة الإنسانية، ولتحقيق مبدأ الاستخلاف في الكون، التنمية التي وسيلتها الإنسان، كما يعتبر محورها الرئيس.
قد يبدو هذا المبدأ مشوباً بالطوباوية، عند البعض، ويبعث على الامتعاض والاشمئزاز، هذا احتمال راجح، بل أصبح قناعة عند فئة من المدرسيين، لكن الأخطر في الأمر عند هذه الفئة، أنها غالباً ما تكون فاشلة، وغير موفقة في رسالتها، والتجربة تثبت هذا في الساحة التربوية.
ويكفي فقط أن ننصت للتلاميذ والطلاب، حتى في شهاداتهم البريئة في مراحل التعليم الأساسي، وكم من الطلاب/التلاميذ كان ضحية هذا النوع، والعكس صحيح، إن قلبنا المعادلة؛ كم من متعلم أُنقذ من عنق الزجاجة، حتى أصبح إطاراً يعد له ألف حساب، بفضل فئة أخرى من المدرسين أحبت عملها وعشقته، فتفانت فيه، فرُزقت التوفيق في أداء مهمتها، فكان الفتح والتوفيق متعديين إلى كل من تتلمذ على أيديها.
فالمدرس «هو أساس العملية التعليمية وعليه يعتمد نجاحها أو فشلها.. وقد أصبح الآن بعد أن كان ناقلاً للمعلومات ومقدماً للمعارف، مكوناً لشخصيات التلاميذ، وموجهاً لنشاطاتهم، ومكسباً للسلوك الإنساني المرغوب، ومكوناً للمواطنين، ومحققاً للتغيير المنشود..»[18].
والمقام لا يتسع، لعرض نماذج حية من التاريخ الإسلامي، ابتداء من المعلم الأول، محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، مروراً بالجيل القرآني الفريد ثم السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين. ولمن أراد الاطلاع والاغتراف من ينابيع الفكر التربوي عند الرواد؛ صانعي الأمة، فنرشده رجوعاً إلى التراث الفكري التربوي/ المنبع الصافي منذ عهد النبوة إلى اليوم.
- 4 -
شروط تحقيق الجودة التربوية
بالإضافة إلى ما ذكر، وسعياً وراء الجودة التربوية المنشودة، وتعزيزاً للمقترحين السابقين، نرى أنه لا بد من توفر شروط ذاتية وموضوعية لتحقيق هذه الجودة نجملها فيما يلي:
1- الإخلاص التام في أداء الرسالة التعليمية.
2- الإعداد الجيد لأطر التدريس، سواء في التكوينين الأساسي والمستمر.
3- عدم بخس حقوق أطر التدريس.
4- تفعيل الخزانة التربوية التي يشكو معظمها «التهجير» والفراغ.
5- تحديث الإدارة التربوية، وإعادة النظر في مسطرة وكيفية تسليم المناصب الإدارية لمن يرغب فيها.
6- ربط التعليم بالتنمية.
7- مأسسة التخطيط التربوي بشكل متوازٍ مع التخطيط الاقتصادي والاجتماعي لتحقيق التنمية الشاملة.
8- توظيف التكنولوجيا الحديثة في مجال التدريس والتعليم.
9- إيقاف زحف الأمية.
10- تجاوز الموقف الاجتماعي السلبي من تعليم وتعلم المرأة.
11- تحرير التعليم من التبعية للنماذج الاستلابية، وانطلاقها من الواقع، ومراعاة حاجيات الفئة المستهدفة، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل فئة.
12- وضع فلسفة عربية محكمة للتربية حتى تضطلع بأدوارها التنموية.
13- إعادة الاعتبار لمادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية، ثم الانفتاح على لغات ومواد أخرى.
وعلى الجملة، نقول: إنه ما أجمل أن يردد المرء شعارات فضفاضة، ويتغنى بعبارات رنانة، من قبيل الجودة، والتنمية، والتحديث.. لكن في المقابل ما أقبح الانتكاسة، وأقسى الارتكاسة، حين يتفطن النبيه الكيّس إلى الجوفائية الموغلة في مثل هذه الشعارات وهي مركوسة متنكصة؛ لأنها خيّبت ظن من يأمل فيها أن تنتشله من البيئة الوبيئة؛ بيئة التخلف والجهل، إلى مجال أرحب وأوسع؛ مجال العلم والمعرفة والرقي والحضارة.
وعليه، فإن الجودة تبقى أهم تحدٍّ يواجه المنظومة التربوية، فإن استطاعت التغلُّب عليه ستنال حظها في مسار وسيرورة التنمية التي يعتبر العنصر البشري رائدها الأول، ابتداء وانتهاء، ووسيلة وغاية، وإلَّا غرقت في العمه وفي بحور التخلف والتقهقر، التي لا منجاة منها إلَّا بتوافر عوامل وشروط معينة، وبتضافر الجهود من كل الغيورين والمهتمين بالحقل التربوي.