ظاهرة التسرب المدرسي في التعليم الابتدائي
أبعاد المشكلة أسبابها وعلاجها عراقيا
2018-12-26 07:06
" إذا عرفنا كيف فشلنا نفهم كيف ننجح"
ارنست همنغواي
أن إحدى دوافعي للبحث في هذا الموضوع هو التصريحات الرسمية التي نقلها موقع سومريون نت، والتي صدرت عن مديرية تربية محافظة ذي قار، إحدى محافظات العراق الجنوبية، والتي أكدت إن نسبة تسرب التلاميذ في التعليم الابتدائي بلغت (8) الآلاف متسرب من مجموع 30 ألف تلميذ في المدارس الابتدائية في العام 2007. وأضافت المصادر نفسها أن نسبة التسرب في العام الماضي 2008 بلغت 69%. ومن الجدير بالذكر أن هذه المحافظة هي من المحافظات التي تتمتع " بالأمن النسبي "، والذي نقصد به هنا محدودية أعمال العنف والتفجيرات والعمليات الانتحارية، ولا نقصد بذلك مفهوم " الأمن الشامل".
وإذا كانت هذه النسبة العالية جدا من التسرب في محافظة " مستقرة "، والتي تتمتع بخدمات واهتمام متواصل كما يجري على ألسنة المسئولين فيها، فما هو حال المحافظات الأخرى الأقل استقرارا أو التي ينعدم فيها الاستقرار !!!، وهل أن أسباب ذلك تكمن فعلا فقط في "التفكك الأسري " كما يردده على مسامعنا " ذوي الاختصاص " في المحافظة، وتحميل الأسر مسؤولية التسرب واعتبارهم السبب رقم واحد، وأين هي انعكاسات تحسين الخدمات التربوية للحد من هذه الظاهرة، وهل المشكلة ذات أبعاد تربوية فقط !!!.
لعله من نافلة القول أن دول العالم تولي اهتماما ورعاية بالتعليم من منطلق أن التعليم هو أساس تقدم الأمم ومعيار تفوقها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وعن طريق التعليم يكتسب الفرد المعرفة وتقنية العصر والقيم والاتجاهات التي تحيط بشخصه من جميع الجوانب وتجعله قادرا على التكيف والتفاعل الايجابي مع البيئة والمجتمع. وأن اتساع القاعدة الشعبية لقطاع التربية والتعليم وتحوله إلى اكبر القطاعات الاجتماعية تجمعا للعنصر البشري دفع العديد من الحكومات المتقدمة والنامية إلى تبني استراتيجيات شاملة تزيل الطلاق التقليدي بين المدرسة والعمل والحياة وإحكام ربط هذا القطاع بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد عززت هذا التوجه الدراسات الكثيرة التي بينت أن التربية ليست " خدمة استهلاكية " تقدم للناس بل هي توظيف مثمر للموارد يؤتي ثماره مضاعفة ويؤدي، إن أحسن استخدامه، إلى عائدات اقتصادية تفوق العائدات الاقتصادية للمشروعات الصناعية والزراعية وسواها، وهي ذات اثر طويل الأمد.
وقد أكدت دراسات دنيون الأمريكي وريداوي البريطاني وستروملين السوفيتي، أن الزيادة في الإنتاج لا تعود فقط لزيادة رأس المال واليد العاملة، بل يرجع إلى عوامل التقدم التقني وما وراءه من إعداد وتدريب وتعليم للموارد البشرية.
وعلى أساس هذه النظرة المتقدمة للتربية يجري رصد المزيد من الأموال لهذا القطاع في دول العالم المتمدن لأغراض تطويره والنهوض به لتحقيق اكبر قدر ممكن من الكفاءة الداخلية والخارجية له. وبالضد من ذلك فأن الإهدار التعليمي في هذا القطاع المتمثل في ابرز مشكلاته كالتسرب والرسوب، يعتبر من المشكلات المعرقلة لكفاءة النظام التربوي وتبديدا للجهود المبذولة لتطويره التي تعوق تحقيق أهدافه وتسبب في ضياع الجهد والوقت والمال، وينعكس أثره السلبي على الفرد والمجتمع وعلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
وقد أشارت إحصاءات التعليم في الدول العربية إلى أن الإهدار التعليمي يستحوذ على أكثر من 20% من مجمل ما ينفق سنويا على التعليم في هذه الدول، ورغم أن ظاهرة الإهدار في التعليم ذات طابع عالمي وتعاني منه معظم دول العالم، إلا أن المشكلة تكمن في الفرو قات الكبيرة بين حجم انتشاره من دولة إلى أخرى وكذلك الاختلاف الكبير في طبيعة الأسباب التي تقف ورائها، ففي الدول المتقدمة تتراوح نسبة التسرب بين 0ـ1% وهي تكاد تكون معدومة، وان أسبابها في هذه الدول تقع خارج مسؤولية النظام التربوي أو النظام السياسي والاقتصادي، وتنحصر أسبابها هنا على مستوى نوعي وضيق جدا، كأن تكون مرتبطة بإشكاليات في الأسرة أو في ذات التلميذ، عدا ذلك فأن صرامة الإجراءات المتبعة للحيلولة دون التسرب والتبعة القانونية لذلك تحصر الظاهرة في حدودها الدنيا. وهو عكس ما يجري في الكثير من دول العالم ومنها الدول العربية، حيث أن التسرب هنا يقوم على خلفية اقتصادية وسياسية وتربوية، وعلى هذا الأساس أخذت الجهود الدولية في العمل على خفض نسب الإهدار كما أكدت توصيات المؤتمرات الدولية على الأعضاء وفي اليونسكو بالعمل على تقليل نسبة الإهدار العالمية.
مفهوم التسرب ودلالته:
تتعدى الآثار الكارثية للتسرب والرسوب إلى جميع نواحي المجتمع فهي تزيد معدلات الأمية والجهل والبطالة وتضعف البنية للاقتصادية للمجتمع والفرد وتزيد الأتكالية وطول أمد الإعالة الأسرية والاعتماد على الغير، كما تفرز في المجتمع ظواهر خطيرة كعمالة الأطفال واستغلالهم وظاهرة الزواج المبكر، كما يؤدي إلى زيادة حجم المشكلات الاجتماعية كانحراف الإحداث وانتشار السرقات والاعتداء على ممتلكات الآخرين مما يؤدي إلى ضعف المجتمع وانتشار الفساد فيه إلى جانب فساد الكبار!!!، وما تسببه أيضا هذه المشكلة من أثار سلبية في نفسية التلميذ وتعطل مشاركته الفعالة والمنتجة في المجتمع.
أن التركيز على التسرب في التعليم الابتدائي لا يعني بكل الأحوال إهمال ما يتم تسربه في مراحل التعليم الأخرى( متوسط، ثانوي وجامعة ) بل هي أكثر بكثير سواء من حيث الإعداد المطلقة الخاصة بالتسرب أو من حيث نسب الاستيعاب التي تقابل الفئة العمرية في هذه المراحل( وخاصة في ظروف العراق الخاصة جدا)، إلا أن هناك ما يبرر التركيز على التسرب في التعليم الابتدائي لاعتبارات نفسية وتربوية وإنسانية. فالطفولة الأولى تؤسس لشخصية الإنسان وتبقى حاضرة بقوة في مراحل تطورها لاحقا مهما اختلفت وتنوعت المتغيرات التي تحيط بها والظروف التي تمر بها، وهي مرآة الفرد في الصحة والمرض. وأن مطلب " الطفولة السعيدة " بالإضافة إلى كونه مطلبا لذاته، إلا انه يسهم في تشكيل مراهقة مقبولة، ويساعد في اختيار نمط دراسي أو عمل يعكس فعلا إمكانيات الفرد الذاتية، بل ويسهم في إرساء ملامح شيخوخة تتمتع بقدر من الهدوء المطلوب والموازنة مع ما تبقى من ديناميات وقدرات وقابليات، بل ويساعدنا على الإجابة على أسئلة البقاء والعناد أو تقبل ميكانزم الموت بسلاسة !!!.والأهم من ذلك تربويا فأن تأمين التعليم الأساسي لهذه المرحلة العمرية المهمة يعتبر جهد الحد الأدنى من " الأمن التربوي " لتزويد الطفل بالمهارات الأساسية اللازمة في القراءة والكتابة والعادات الأساسية اللازمة لتكيفه ضمن هذه المرحلة من التعليم ومنع تسربه وردته وانضمامه إلى جيش الأميين ، وبالتالي يشكل تعميم التعليم وألزاميته والقضاء على التسرب احد العوامل الأساسية لتجفيف منابع الأمية.
وعلى هذا الأساس وانطلاقا من تلك الأهمية جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليؤكد في المادة(26):( لكل شخص حق في التعليم، ويجب أن يوفر التعليم مجانا، على الأقل في مرحلته الابتدائية والأساسية، ويكون التعليم الابتدائي إلزاميا، ويكون التعليم الفني والمهني متاحا للعموم، ويكون التعليم العالي متاحا للجميع تبعا لكفاءتهم)، كما أكدت المادة (29) من اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة على حق الطفل في التعليم، حيث أكدت المادة المذكورة أن التعليم هو ( الذي يعمل على تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكانياتها وتنمية احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والمبادئ المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة...الخ)، وكذلك ما ذكر في مواد أخرى ذات الصلة.
ومشكلة التسرب في العراق إلى جانب مشكلات أخرى في قطاع التربية والتعليم، منها ما يتعلق في مشكلات المناهج والإدارة التربوية وطرق التدريس وإعداد الكادر التدريسي ومشكلات التخطيط التربوي لهذا القطاع ومستويات استجابته لحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومشكلات توزيع الخدمات التربوية جغرافيا وعلى ضوء الحاجة الماسة لمختلف مناطق وأقاليم البلاد، وجميع هذه المشكلات ذات طبيعة متشابهة في البلاد العربية يطلق عليها اصطلاحا " أزمة التربية العربية "، إلا إن العراق في العقود الأخيرة وبسبب تعرضه لعوامل الحروب والحصار والانهيار الاقتصادي والاحتلال وتدمير مؤسسات الدولة وبنيتها التحتية والسياسات الطائفية، انفرد بأزمة خانقة وحادة تنفرد بخصوصية عالية عن نظيرتها في الدول العربية ونستطيع أن نطلق عليها " أزمة التربية العراقية "، سواء من حيث خصوصية الأسباب أو الإبعاد المدمرة لها.
ففي الوقت الذي حقق فيه العراق تقدما ملموسا في عقد السبعينيات على مستوى استيعاب الأطفال، فحسب تقرير اليونسكو أمتلك العراق قبل حرب الخليج الأولى نظام تعليمي من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة قدرت نسبة المسجلين فيه بالتعليم الابتدائي ما يقارب 100% مقارنة بأعداد الأطفال في سن التعليم الابتدائي، وحسب تقرير المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1973 فأن معدل التسرب في التعليم الابتدائي قد هبط في العراق إلى ما يقارب 5% بين الصف الأول والخامس الابتدائي، وكان هذا أوطأ معدلات تسرب في الدول النامية. ثم نال العراق في نهاية السبعينيات جائزة اليونسكو على حملة محو الأمية. وقد ساهمت في ذلك الطفرة المالية المتحققة من العوائد النفطية والتي وسعت من حجم الإنفاق على التعليم، وكذلك الدور الكبير والمتميز الذي لعبته الحركة الوطنية وفي مقدمتها قوى اليسار في التعبئة لنشر التعليم والثقافة في صفوف أبناء المجتمع وتعزيز الدور التعبوي عبر نشاطها وصحافتها العلنية، وخاصة في ميدان محو الأمية، ونقل تجارب الشعوب العالمية عبر صحافتها اليومية وخلق المزاج العام المواتي لتنفيذ ذلك.
وإذا قارنا ما تحقق في السبعينات في العراق اليوم في بعض الدول العربية سنجد قيمة ما تحقق على ارض الواقع آنذاك، حيث على سبيل المثال اليوم يبلغ معدل التسرب في عموم الدول العربية من20ـ25%، وفي سورية مثلا تبلغ نسبة التسرب 11.5% ، وتصل أعلى النسب في محافظة حلب بواقع 24% ثم تنخفض هذه النسبة في المحافظات الأخرى وتختفي في البعض منها. إلا إن الحروب الكارثية التي أقدم عليها النظام العراقي آنذاك وما سببته من استنزاف للموارد المالية والبشرية قد الحق أفدح الإضرار بقطاع التربية والتعليم، ويكفي إن نشير هنا إلى إن نسبة القادرين على القراءة والكتابة في البلاد عام 2003: الذكور 55%، الإناث 23%. وبلغت خسائر هذا القطاع أكثر من أربع مليارات دولار شملت كل عناصر وأبعاد العملية التربوية ومستلزماتها ومؤسساتها ومراحلها المختلفة.
أن التسرب يمثل مظهرا من مظاهر الهدر التعليمي أو الفاقد في التعليم، إلى جانب مشكلة الرسوب المتكرر، ويعتبر نتيجة لضعف نتاج العملية التربوية وينشأ عن مشكلات تربوية واجتماعية تؤدي إلى عجز النظام التعليمي في الاحتفاظ بالملتحقين به كافة لإتمام دراستهم في مرحلة دراسية ما (وخاصة في التعليم الابتدائي).
وان التسرب باعتباره انقطاع التلميذ عن المدرسة انقطاعا نهائيا قبل أن يتم المرحلة الإلزامية، فأن سقف التعليم الإلزامي يختلف من دولة إلى أخرى، فمنها من يدين بالإلزام لمدة 9 سنوات دراسية، وبعض أخر يكتفي بإلزامية تعليم أمدها 6 سنوات ( مدرسة ابتدائية ) كما هو الحال في العراق وفقا لقانون التعليم الإلزامي رقم 118 لسنة 1976، والذي يشمل الفئة العمرية من( 6ـ11) سنة، والذي لا يزال ساري المفعول إلى اليوم، علما أن إمكانيات العراق المادية والمالية تكفي لمد سقف الإلزام حتى إلى مرحلة التعليم الثانوي كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة والمتمكنة. مع العلم أن الدستور الحالي جاء ليكرس ما ورد في القانون المذكور أعلاه، حيث ينص على أن :" التعليم عامل أساسي لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية، وتكفل الدولة مكافحة الأمية.والتعليم المجاني حق لكل العراقيين في مختلف مراحله". وعلى خلفية عدم وجود مدة إلزامية محددة من التعليم لجميع دول العالم فأن تعريف اليونيسيف لعام 1992 للتسرب يؤكد بأنه:"عدم التحاق الأطفال الذين هم بعمر التعليم بالمدرسة أو تركها دون إكمال المرحلة التعليمية التي يدرس بها بنجاح ، سواء كان ذلك برغبتهم أو نتيجة لعوامل أخرى، وكذلك عدم المواظبة على الدوام لعام أو أكثر".أي إن التعريف لا يشير إلى فترة إلزامية مناسبة، تاركا ذلك إلى إمكانيات الدول المختلفة.
ويجب الحذر من بعض الإحصائيات التي تشير إلى ارتفاع نسبة استيعاب الأطفال في عمر المدرسة الابتدائية، حيث أن التسرب من المدرسة لاحقا يحصد هذه النسب ويضعف نتائج الاستيعاب، بل يصل بها إلى حافة الانهيار شبه الكامل لمؤسسة التعليم الابتدائي.فقد اظهر المسح المدرسي الذي نفذته وزارة التربية عام 2004 بدعم من اليونيسيف إن الملتحقين بالمدارس الابتدائية في العراق بلغت 86% من الأطفال بعمر التعليم الإلزامي، أي كان هناك 600 ألف طفل غير ملتحقين، وقد اظهر المسح أن حوالي 24% من الأطفال يتسرب من المدارس قبل إتمام المدرسة الابتدائية الإلزامية.كما أن هناك إحصائيات حديثة نسبيا تشير إلى أن نسبة عدد التلاميذ الذين يلتحقون بالمرحلة الأولى ويصلون إلى الصف الخامس قد ارتفعت عام 2006 لتصل 90%، إلا إن هذه المؤشرات غير مطمئنه ولا تعكس حقيقة هذا الانجاز عند النظر إلى كل محافظة على انفراد، لأن هذه النسبة العالية هي تعبير عن متوسط النسبة المئوية في عموم العراق ولا تعكس حقيقة الأوضاع الجارية في مختلف المحافظات، ناهيك عن أن الاستقرار النسبي لإقليم كردستان قد يعكس جزء كبير من هذه النسبة !!!.
فمحافظة ذي قار، على سبيل المثال فقط، هي من المحافظات التي تصلح للقياس في استقرار بعض مظاهر الأمن، الذي يعتبر كشرط لازم لاستقرار العملية التربوية وانتظام المواظبة والحضور والاستمرار في الانتقال السلس والهادئ إلى السنوات التالية أو إلى المراحل التعليمية تباعا، إلا إن المؤشرات الإحصائية لا تعكس حقيقة ذلك، فقد بلغت نسبة التسرب في هذه المحافظة للعام 2007 بمقدار 27% استنادا إلى الإحصائيات التي تشير إلى أن هناك 8 ألاف متسرب من أصل 30 ألف في المدرسة الابتدائية، أما في العام الماضي 2008 فقد بلغت نسبة التسرب، أكثر من ضعفين، أي 69%، أي بمعنى أخر أن من كل 100 تلميذ دخل المدرسة عام 2007 تسرب منهم نهاية العام 27 تلميذا، وفي العام الذي تلاه 2008 تسرب 70 تلميذا من 100 تلميذ دخل المدرسة ، وعلى هذا الأساس نلتمس أبعاد هذه الظاهرة الخطيرة المتمثلة في هجر مقاعد الدراسة والانقطاع النهائي عنها.وعلى ما يبدو فأن نسب التسرب هذه مستخلصة فقط من أعداد المسجلين في هذه المرحلة في بداية كل عام وتسربوا في نهايته، ولم نعثر على دراسات ميدانية حديثة بهذا الخصوص تستند إلى التقنية العلمية المعروفة في دراسة التسرب، والتي تسمى" بطريقة الأفواج " والتي تبين لنا بشكل تتبعي هذه الظاهرة ابتداء من الصف الأول ابتدائي إلى الصف السادس ولم يتخرجوا أو انهوا فقط الصف الخامس، وتوضح لنا أيضا حجم التسرب في كل سنة.واستنادا إلى هذه الطريقة فقد نتوقع نتائج مأساوية ارتباطا بالمعلومات الإحصائية المذكورة أعلاه، وما يتسرب من الأعداد الباقية أو من الأعداد التي تلتحق للتو بالتعليم الابتدائي وهكذا.
ولأغراض الفائدة العلمية أرى ضرورة توضيح سريع لبعض معالم هذه الطريقة: يحسب التسرب هنا بآليتين، الأولى طريقة " الأفواج الظاهرية" وهي أن ننظر إلى أعداد التلاميذ في صف معين في سنة معينة ثم نقارنه بعدد تلاميذ الصف التالي في السنة التالية والفارق نرده إلى التسرب بعد أن نطرح منه أعداد الراسبين ومثل هذا الأسلوب لا يقدم سوى تصور ظاهري لحجم التسرب إذ قد يأتي إلى الصف التالي وافدون جدد من مدارس أخرى قد يفوق عددهم العدد الحقيقي للفوج، ولهذا يتم اللجوء إلى الطريقة الثانية " الأفواج الحقيقية " وهي تعني أن ننظر في فوج معين من الطلاب" بأسمائهم وأشخاصهم "وأن نتابع تطور أعداد هذا الفوج عبر السنة التالية ثم السنوات الأخرى من المرحلة، وعند ذلك يتضح لنا النقص الحقيقي الذي يطرأ ، ونستخرج التسرب بعد حذف الرسوب وحسابه بشكل صحيح.
أسباب التسرب:
أن العوامل التي تؤدي إلى التسرب من التعليم الابتدائي في العراق هي ذات خصوصية عالية ارتباطا بظروف العراق الشاذة والاستثنائية، وهنا يمكن فرزها بمنظومة الأسباب الآتية :
1 ـ الأسباب الاجتماعية والثقافية، وتشمل :
* تصدع وانهيار التركيبة الاجتماعية والقيمية وتعرض الأسر العراقية إلى انهيارات كبرى تجسدت في : ازدياد نسب الأطفال اليتامى وفقدان الرعاية الأبوية، انتشار ظاهرة التسول والتشرد في الشوارع والطرقات، ازدياد نسب الأطفال الذين يتعاطون المخدرات والمسكرات، محنة الأطفال غير الشرعيين أو مجهولين النسب ، الأطفال المهجرين قسرا من ديارهم ومناطق طفولتهم إلى مناطق أخرى داخل العراق وإشكالية التكيف للبيئة الجديدة، تعرض الأطفال إلى عمليات الخطف والابتزاز واستخدامهم كرهائن مقابل مبالغ مالية أو صفقات أخرى لتصفية حسابات شخصية وسياسية، عمليات التحرش الجنسي والاغتصاب والمتاجرة بالأطفال، الأطفال مرتكبي الجنح والجرائم المختلفة، ازدياد نسب الأطفال ذوي الإعاقات المختلفة العقلية والجسمية وانعدام الرعاية التربوية الخاصة بهم، وجميع هذه الظواهر هي من الإشكاليات المستفحلة وتشكل عوامل طرد وليست جذب للمدرسة وما يترتب على ذلك من انقطاع وعدم مواظبة أو تسرب نهائي من المدرسة.
* تدهور المكانة الاجتماعية للتعليم لدى الأسر أو الوالدين بشكل خاص، واعتباره ليست بتلك الدرجة من الأهمية، وهذا أيضا ناتج من ضغوطات الواقع، وإعادة ترتيب سلم الأوليات، كأن يعتبر الحفاظ على الأرواح أو الشرف أهم بكثير من التعليم ، وبالتالي احد عوامل الانقطاع عنه وعدم الاستمرار فيه والتسرب منه، إلى جانب طبعا عدم توفر الوعي الثقافي اللازم لدى الكثير من الأسر بعدم إدراكهم لمدى الضرر لاحقا من جراء انقطاع أطفالهم عن المدرسة.
* تدهور الأوضاع الصحية وانتشار الأمراض المختلفة كأمراض الجهاز التنفسي وأمراض الكلى المزمنة والكبد والسرطان والايدز وحالات ضعف السمع والبصر والتشوهات الخلقية، وجميعها عوامل تدفع نحو الانقطاع المدرسي كخطوة نحو التسرب منه نهائيا.
2 ـ الأسباب الاقتصادية:
وتتلخص أبرز ملامح تأثيرات الوضع الاقتصادي في ظاهرة التسرب فيما يأتي:
* انشغال الأسرة بتغطية متطلبات الحياة الاقتصادية والمعيشية الأساسية، يدفع الكثير منها إلى الاستعانة بأطفالها وزجها في سوق العمالة واستخدامها كدخل إضافي، ونحن نعرف جيدا ضيق فسحة العيش في العراق، حيث تشير الإحصائيات إلى أن 40% من الشعب العراقي يعيش تحت مستوى الفقر( حسب إحصائية وزارة حقوق الإنسان العراقية )، ومليون أسرة تعيش على معونات شبكة الحماية الاجتماعية التي تتراوح بين( 70ـ 130 ) دينار شهريا( حسب وزارة العمل والشؤون الاجتماعية العراقية ).وهذا بدوره يشكل عوامل ضغط على الأطفال لترك الدراسة.
* ضعف الغطاء الاقتصادي المتمثل بالمدعومات المالية المناسبة والتسهيلات كأجور نقل أو تقديم وجبات طعام أساسية للطلبة الفقراء أو تقديم القرطاسية المدرسية مجانا أو ملابس وتجهيزات مختلفة، مما يسبب إثقال كاهل اسر التلاميذ وخاصة الفقيرة، مما يضطرها إلى سحب أولادها من المدارس.
* ضعف مخصصات قطاع التربية والتعليم من الميزانية العامة، مما يؤدي بدوره إلى ضعف الإنفاق على التعليم الابتدائي لتوفير مستلزماته من كوادر تعليمية وأبنية صالحة وكتب منهجية وقرطاسيه ولوازم مدرسية ولتغطية مختلف نشاطات هذا القطاع، إلى جانب ضياع وإهدار وسرقة أموال هذا القطاع، والتي لا تخضع للتدقيق والمراقبة الكافية، أسوة بغيره من قطاعات الدولة.وفي هذا السياق وإثناء كتابتي لهذا الموضوع اطلعت على خبر نشره موقع سومريون نت بتأريخ 20ـ 09 ـ 2009 يفيد بتشكيل لجنة تحقيق في محافظة ذي قار "الآمنة والمستقرة " للكشف عن اتهامات باختلاس مبلغ 205 مليون دينار بمديرية تربية المحافظة، بناء على مطالعات قدمت من لجنة مكافحة الفساد في المحافظة، علما أن عمليات الاختلاس " تمت بين شهري تموز وأيلول الجاري "، ومن الضروري التذكير هنا أن عدد المدارس المبنية من الطين والقصب والخيام في هذه المحافظة يبلغ 200 مدرسة، وأن نسبة الأمية فيها 57% من مجموع سكانها البالغين قرابة المليونين !!!!.
3ـ الأسباب التربوية:
ويمكن بلورة أبرز الاتجاهات التربوية التي تدفع باتجاه تسرب التلاميذ وتركهم المدرسة على النحو التالي:
* عدم ارتباط المناهج بحاجات المجتمع وعدم تلبيته لميول الأطفال وهواياتهم وكذلك ضعف كفاءة المعلم من حيث الإعداد والتدريب وضعف كفاءة الإدارة التعليمية، وقصور الإشراف والتوجيه، والاعتماد على أساليب التقويم القائمة على الامتحانات التقليدية وقصور الإمكانات التربوية من مبان وتجهيزات وفرص النشاط المختلفة.
* عدم احترام شخصية التلميذ وميوله واهتماماته المختلفة وضعف التوجه لدراسة الفروق الفردية بين التلاميذ وتكييف المنهج وطرق التدريس لها، وعدم استغلال أوجه النشاط المدرسي الصفي واللاصفي في جذب التلاميذ إلى المدرسة.
* الرسوب المتكرر وعدم متابعته من قبل إدارة المدرسة أو ذوي التلاميذ مما يضعف ثقة التلميذ ويفقده المتعة من وجوده في المدرسة ويثبط حافزه على متابعة الدراسة.
* انعدام أو ضعف العمل المشترك بين المدرسة وأهل التلميذ مما يضيع الفرصة للوقوف على المشكلات التي يعاني منها التلاميذ يوميا، وبالتالي لا يترك مجالا لحلها في الوقت المناسب، وأن تراكمها لاحقا يشكل حجر عثرة أمام استمرار التلميذ في المدرسة.
* عدم اعتماد الخرائط التربوية في توزيع الخدمات التعليمية جغرافيا ونشر المدارس الابتدائية على مقربة من السكن الأصلي، الأمر الذي يعتبر من المعوقات الأساسية في سهولة انتقال التلاميذ من والى المدرسة، مما يزيد من أعباء الطالب النفسية وتشديد مخاوفه من الإرهاب وإعمال القتل والاختطاف، ويشكل عبئا أخر يزيد من هموم وتفكير الأسرة وقلقهم على سلامة أطفالهم، مما يسهم في إحجام الولدين عن إرسال أولادهم إلى المدرسة.
* قصر اليوم المدرسي واعتماد الدوام الثنائي المزدوج أو الثلاثي مما يضعف الارتباط بين الطالب والمدرسة ويقلل من فرص ممارسة التلميذ للأنشطة الصفية والللاصفية لتلبية رغباته واحتياجاته للنمو المتعدد الجوانب، و بالتالي تصبح المدرسة مكانا للإقامة الجبرية أو ثكنة عسكرية يشعر فيها الطفل فيها بالجزع أكثر من الانشراح والموائمة، ويتحين الفرص للهروب منها.
* وهناك من الأسباب التربوية ذات الصلة بالنواحي الوجدانية بالتكيف النفسي للتلميذ، كما تتصل باتجاهاته وسلوكياته، هناك عوامل تتعلق بجوانب شخصية التلميذ، واستعداداته ومهاراته، وقدراته النفسية والعقلية، وقد أثبتت الكثير من الدراسات وجود ارتباط واضح بين بعض السمات الشخصية للتلميذ وتسربه من التعليم.
4 ـ الأسباب السياسية:
* أن مصير العملية التربوية كم هو معروف يرتبط وثيقا بالاستقرار السياسي الذي يبعث الأمل في مؤسسات الدولة وقيامها بأنشطتها على أسس موضوعية وحيادية، ومنها قطاع التربية والتعليم، فالنظام السياسي يلعب دورا مهما في إعادة توليد القيم الأخلاقية والاتجاهات الاجتماعية العامة، والنظام التربوي هو احد أدواته لتكريس هذه القيم ونشرها على نطاق واسع عبر الممارسات اليومية، من خلال المناهج والأنشطة المدرسية، وتشكل في هذا السياق ظاهرة التعصب الديني والطائفي والقومي احد القيم الأخلاقية والتربوية الضاغطة على وحدة نظام التعليم ونسيجه الاجتماعي، ويشكل هنا التسرب من التعليم والابتعاد عنه احد وسائل احتماء الأقليات في حالات الاحتقان الشديد وسببا في انقطاع الكثير من أبناء الأقليات والطوائف عن التعليم والعزوف عنه.
* تعرض النظام التربوي جراء سياسات النظام السابق الهوجاء وما تلتها من سياسات عشوائية على أيدي الاحتلال وما تبعتها من تكريس للمحاصصة الطائفية، إلى انهيارات كبرى في مراحله المختلفة، فقد تم تدمير اغلب المؤسسات التربوية من أبنية ومستلزمات وأجهزة، وقد تحول الكثير من المدارس إلى مجرد أربعة جدران وأماكن شكلية لإقامة التلاميذ، لا تشد الطالب إلى المجيء والمواظبة، بل إلى طرده من المدرسة، ناهيك عن اقتسام المدارس إلى مناطق نفوذ طائفي أو حزبي، فهي تعتبر في أذهان الكثير أماكن غير آمنه.
* أن تشديد قبضة الإرهاب والعمليات الانتحارية أطالت ألاف من الأطفال، وكانت أوقات الدوام الرسمي" بدايته ونهايته" فرصا مواتية لإيقاع الأذى وزرع الخوف لدى الأطفال وأسرهم، مما أدى إلى عزوف التلاميذ عن الدوام وعدم انتظامهم ثم تسربهم.
علاج التسرب:
أن الحد من التسرب والاقتراب من نهايته يستند إلى منظومة متكاملة من الإجراءات، وتشكل النوايا الحسنة والقناعة بالنظام الديمقراطي و قيمه الإنسانية مدخلا لازما لذلك ومظلة تحمي آلية التنفيذ، ولعل ابرز العلاجات الناجحة هي ما يأتي:
* الاهتمام بالمرافق والخدمات التعليمية مما يجعلها جذابة وشيقة ومرتبطة بواقع التلاميذ، وتحسين المعاملات والممارسات المتبعة في الاتصال التعليمي وبنائها على مبادئ التربية الحديثة القائمة على أساس أن التلميذ مركز اهتمام العملية التربوية، واستغلال خاصية يتمتع بها الأطفال عامة وهي الفضول والذهن المتفتح لاكتساب ومعرفة كل شيء.
* منع تشغيل الأطفال منعا باتا وعبر إجراءات صارمة لعل أبرزها تفعيل العمل بقانون التعليم الإلزامي وتطبيق العقوبات الواردة فيه على أولياء الأمور، ويجب أن يقترن هذا الإجراء بدعم اقتصادي للأسر المعوزة وتحمل المدرسة الإنفاق التربوي على التلاميذ من مستلزمات وملابس وتغذية.
* توفير خدمات التوجيه والإرشاد النفسي والتربوي والاجتماعي للتلاميذ وأسرهم والتأكيد من قبل إدارات المدارس على ضرورة وجود المرشد الاجتماعي في المدارس لما يقدمه من مساعدة للإدارة التعليمية وللأهل في المشكلات المختلفة ومنها التسرب، وأن تكون هناك حصص أسبوعية أو شهرية من قبل هذا المرشد للأهل وللتلميذ لمناقشة عوامل التسرب وإمكانية الحد منها، والتأسيس الجيد لمجالس أولياء الأمور في المدارس.
* التأهيل المستمر للكادر التربوي وإعادة تأهيله على ضوء ما يستجد من معطيات في العلوم التربوية والنفسية، والتخلص من العناصر ألمزوره، أو التي لا تحمل مؤهلا تربويا وذات أداء ضعيف، والتي تكون معظم الأحيان سببا في التسرب لا في منعه.
* العمل على وضع خطط ملموسة لنشر شبكات رياض الأطفال في أرجاء العراق وخاصة في القرى والأرياف ، والتي لا تزال ضعيفة جدا، حيث لا تستوعب في أحسن الأحوال 7% من مجموع الأطفال في عمر 4 إلى 5 سنوات في عموم العراق، لما لها من أهمية استثنائية في خلق الاستعداد الايجابي للأطفال اتجاه المدرسة الابتدائية لاحقا والإقبال عليها والاستمرار فيها.
* وضع الخطط والمناهج التي تعتمد على المواهب والطموحات والقابليات لدى الأطفال والابتعاد عن مناهج الحشو والمليئة بالمعلومات ذات الطابع الكمي والتي تكره في نفس الطالب المدرسة والمادة الدراسية، ومحاولة ربط المنهج بالبيئة المحيطة عبر تطبيقات للمنهج في مختلف مجالات المجتمع المحلي.
* منح فرص إضافية للمتسربين سواء عبر مدارس مسائية أو نهارية أو مدارس متنقلة وخاصة في المناطق النائية والقرى والأرياف، أو مناطق التهجير والإقامة الجديدة للأطفال، وهي وسائل تعين الأطفال على عدم العودة إلى الأمية كاملة.
* استخدام الإعلام والصحافة اليومية الرسمية وغير الرسمية والمنظمات الاجتماعية المختلفة للتثقيف والتوعية بدور التعليم وخاصة الموجه منها إلى ذوي الأطفال والتركيز على ضرورة عودة أطفالهم إلى مقاعد الدراسة.
* الاستقرار السياسي والأمني وهو المطلب رقم واحد لاستقرار العملية التربوية وما يؤدي إليه من انخفاض نسبة العنف وتعزيز ثقة الأسر والأطفال بالنظام السياسي والتربوي، ويضمن يوم مدرسي هادئ خالي من القتل والاختطاف والارتهان.
* إنشاء دور لليتامى لإيوائهم وتأمين حياة آمنه لهم يتمتعون فيها بقدر من الرعاية الاجتماعية والاقتصادية وإنشاء مدارس خاصة لهم لتسهيل اندماجهم لاحقا في المدارس المنتشرة على مقربة من إقامتهم، كي يتسنى لهم التحصيل الدراسي في المرحلة الابتدائية على الأقل وحمايتهم من التسرب.
* إنشاء مدارس لمختلف المعوقين وتصنيفهم وفقا لدرجة وطبيعة إعاقتهم، كما هو معمول فيه دول العالم المتحضر، وإتاحة الفرصة لهم للحصول على قدر من التعليم والتربية والتي تنسجم مع قدراتهم العقلية والجسدية، ومنع تحولهم إلى أميين بالمطلق.