الحرية الأكاديمية بين النظرية والتطبيق
د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
2015-03-05 07:59
الحرية بمعناها العام تعني الملكة الخاصة التي تميز الإنسان عما سواه من حيث هو موجود عاقل مدرك لما يصدر عنه من قول أو فعل نابع من إرادته هو لا إرادة مفروضة عليه، والحرية تعني الانطلاق بعيداً عن القيود الخارجية والاملاءات غير الذاتية، بل هي تعني عند البعض السلطة بيد أنها ليست السلطة على الآخرين، بل هي سلطة على الذات، فالإنسان الحر هو سيد نفسه ومالك عقله والمختار لأفعاله.
وللحرية أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية حرصت الدساتير قديمها وحديثها على أن تضمن نصوصها ما يكفل الحريات العامة أو الخاصة، كحرية الرأي والعقيدة والمساهمة في الشؤون العامة..الخ، ومما يشار إليه إن الحرية تعيش حالة تصالح حيناً وتصارع حيناً آخر مع السلطة شئنا أم أبينا، وهناك من يرى وجود حالة فطرية ينزع إليها الكثير من بني البشر ألا وهي مقاومة السلطة بكل أنواعها ومستوياتها، سواء كانت سلطة الأب في إطار العائلة أو سلطة رجل الدين أو شيخ القبيلة أو سلطة الحكام، وهؤلاء الذين ذكرناهم يتفقون على إن الحرية لابد أن تكون نسبية وليست مطلقة، وفي الوقت الذي نتفق فيه مع هذا الرأي نميل إلى ضرورة التعايش بين الحرية والسلطة، فالأخيرة تسعى إلى التعبير عن نفسها وفرض نمطها ورؤيتها، والأفراد يسعون إلى إثبات ذاتهم وطموحاتهم وبين هذا وذاك تبقى الحرية الأمل المنشود ومحور الدراسات والأبحاث والطروحات السلطوية والفردية، بل هي قطب الرحى الذي تدور حوله كل الإرادات وتنتهي عنده كل الآمال، فلا حرية بلا تنظيم لكونها ستتحول إلى فوضى ولا تنظيم بلا سلطة، وسنكون أمام متلازمة لابد من أن نجد نقاط الالتقاء فيما بينها.
من هنا نؤمن إن الحرية الأكاديمية بين جنبات الجامعات العراقية هي إحدى التطبيقات الحية لهذه المتلازمة، وهناك آمال عريضة تبنى عليها، فاليوم يلج الجامعة كل صباح الآلاف من العراقيين بوصفهم معلمين أو متعلمين ينشدون العلم والمعرفة، ويكون السؤال، أين توجد مكامن الحرية الأكاديمية؟ وما أهم ضماناتها وتطبيقاتها؟.
تعد الجامعة المنبع الأساس لرفد المجتمع بالمخرجات من الطلبة الذين تم تأهيلهم وهم من يعول عليهم في المستقبل ليكون لهم الريادة على جميع الصعد، ومن وجهة نظرنا نجد إن التركيز على تعزيز استقلال الجامعة والكلية والمعهد إداريا ومالياً وعلمياً هي حجر الزاوية للوصول للهدف المنشود المتمثل بالهدف القريب، (تأهيل الطلبة علمياً وتربوياً واستخراج طاقاتهم الكامنة وترصين انتماءهم وروحهم الوطنية)، وهدف بعيد هو (الحصول على جيل متعلم ومؤهل لتولي المناصب القيادية بالمستقبل وتحقيق مقدمات الانتقال إلى المجتمع المدني المحصن أكاديميا)، إذ ان نقطة البداية الحفاظ على الجامعة كحرم آمن محايد بعيد كل البعد عن العمل الحزبي والسياسي والصراع الديني أو المذهبي أو الاثني، وهو ما اعتادت الجامعات الرصينة في العالم أن تتفاخر به.
فالحرية الأكاديمية وببساطة، تعني الخروج عن كل القيود البيروقراطية والانطلاق في فضاء الحرية لكل من طرفي العملية التعليمية (الطالب والأستاذ) وفتح قنوات الاتصال بينهما والتفاهم والتواصل وفق الأصول الأكاديمية المتعارف عليها وضمن بوتقة العمل الهادف، مع التذكير بان هذه الحرية ليست من غير قيود بل هنالك حدود تقف عندها وهنالك تنظيم مسبق موضوع من السلطات العامة متمثل بحزمة القوانين والقواعد القانونية المنظمة للعمل والبحث العلمي داخل الحرم الجامعي لاستخراج ما تضمره العقول من طاقات، إذ إن الحرية المنشودة لها وجهين هما:-
الأول/ الحرية الأكاديمية للطلبة، واهم معوقاتها تتمثل في:
1- المستوى العمري والفكري للطالب فهو في مقتبل العمر ولا يزال يجتاز سني المراهقة وما تتضمنه من ضغوطات هائلة على جسم وعقل المراهق، فلا يقدر أحياناً الزمان والمكان الذي يرتاده وطبيعة العلاقات داخل الحرم الجامعي.
2- الأوضاع العامة وما تخبئه من تقلبات على مدار الساعة سياسية واجتماعية واقتصادية وانعكاساتها المباشرة على مجمل نواحي الحياة العامة والخاصة للطالب ما ينعكس على سلوكياته داخل الحرم الجامعي فيندفع أحياناً وبدافع التقليد لأمور تتنافى مع الحرية الأكاديمية.
3- الأنظمة والتعليمات المعمول بها في الجامعة والكلية أو المعهد ومنها فرض نمط الملبس والجلوس والتواجد داخل القاعة...الخ، وهي بالتأكيد تسعى للتنظيم وينظر لها الطالب على أنها جزء من تقييد حريته الأكاديمية.
4- القبول المركزي ولعبة الحظ على الطالب الذي غالبا ما يضطر إلى الانخراط في دراسة لم يخترها ولم يندمج مع متطلباتها، فتنمو وتكبر في داخله قوة الممانعة ضد زملائه وأساتذته وربما ضد المؤسسة ذاتها.
الثاني / الحرية الأكاديمية للتدريسي، واهم معوقاتها تتمثل بالآتي:
1- تقادم التشريعات الخاصة بالتعليم العالي وتهالك بعضها وتضادها مع الحرية التي ينشدها التدريسي.
2- الروتين القاتل في متطلبات البحث العلمي والترقية العلمية وسير التدريس اليومي، ومتطلبات العمل الإداري التي تكبت وتقتل أحياناً هذه الحرية.
3- السلطة الرئاسية المتمثلة بالوزير ورئيس الجامعة والعميد وانعكاس الكاريزما والميول والاتجاهات الشخصية لهم على الواقع التعليمي وعلى الكادر التدريسي الذي يعاني الأمرين.
4- الانتقائية وحواشي الرئيس الإداري وأثرها على سير العمل الأكاديمي.
5- الهيئة القطاعية وفرض المناهج على التدريسي التي قد لا يتفق علمياً أو فكرياً أو عقائدياً معها وهو مضطر إلى تدريسها لطلبته.
نستنتج مما تقدم إن الحرية الأكاديمية في الجامعة العراقية تعيش أزمة حقيقية وعدم التدخل السريع ووضع الحلول الجذرية يعني وببساطة مزيداً من الإخفاقات، فعلى سبيل المثال مع ما نعيشه من مركزية شبه كاملة للوزارة على الجامعات الحكومية نجد إهمال لما تمارسه الكليات الأهلية الخاصة من هدم لقواعد البناء الأكاديمي في العراق وتعسف شديد في ممارسة الحرية الأكاديمية المنشودة، حيث إن القانون رقم (13) لسنة 1996 الخاص بالجامعات والكليات الأهلية سمح للأفراد بالحصول على إجازة تأسيس كلية أو جامعة أهلية، وبالنظر لما تدره من أرباح طائلة وجد بعض ضعاف النفوس ضالتهم في هذا الأمر فتورم جدا عدد هذه الكليات والجامعات وتضاعف في العشر سنوات الأخيرة بشكل خطير،، واتسم التعليم الأهلي بخصائص من أهمها:
1- استقطاب أصحاب المؤهلات والمعدلات الضعيفة والمتدنية التي لا تؤهلهم لدخول الكليات الحكومية المناظرة.
2- ضعف المستوى العلمي ما انعكس على المخرجات المتمثلة بأفراد يحملون مؤهل علمي بدون فحوى أو مضمون حقيقي.
3- تركيز الكليات الأهلية على استقطاب اكبر عدد ممكن من الطلبة في بنايات غير ملائمة ولا يتوافر فيها أدنى معايير البناء المعد لأغراض أكاديمية وخلوه تماماً من المكتبات والمختبرات والمراكز البحثية والاستشارية، رغم إن القانون الزمها بذلك وفرض على الكليات الأهلية أن تخصص جزء من إيرادها لا يقل عن (75%) من صافي الوفر المالي لتغطية نفقات التوسع وتطوير نشاط الجامعة أو الكلية الأهلية لتحقيق أهدافها العلمية.
في خضم هذه التحديات نجد لزاماً علينا أن نقدم بعض من الحلول المقترحة للنهوض بالحرية الأكاديمية في الجامعات العراقية، ومن أهمها:-
1- منح الجامعات العراقية استقلالية اكبر ومنح مجلسها سلطة إعادة النظر بالضوابط الوزارية لمراعاة أوضاع المدينة وطابعها المميز عن غيرها، لا سيما المدن المقدسة أمثال كربلاء والنجف، ومنحها سلطة أوسع في ممارستها للدور التنظيمي لحرية كل من الطالب والأستاذ بما يحفظ أصل المبدأ ووضع المدينة الخاص.
2- تعميم دراسة علم النفس على كل الكليات في مراحل الدراسات العليا الماجستير والدكتوراه حتى يتمكن هؤلاء الدارسين من التعرف على المشكلات الحقيقية التي يمر بها الطالب أثناء سني الدراسة الأولية بفعل التكوين البيولوجي والضغوط النفسية والاجتماعية عليه، الأمر الذي يسهم في تمكين الأساتذة من التعامل بإيجابية أكبر مع الطالب مستقبلاً بما يلائم ظروفه الخاصة ووضعه داخل وخارج الكلية والمساهمة بحل مشاكله لا مفاقمتها من خلال الضغط عليه أو معاقبته فيشعر بالإحباط وتنمو في داخله بذرة التمرد.
3- التركيز على الجوانب الايجابية في شخصية الطالب العراقي لاسيما مع ما تحمله الشخصية العراقية عموماً من صفات حميدة كالكرم والشجاعة والإيثار وتنمية هذه الصفات من خلال التأطير لعلاقة أبوية بين الطالب والأستاذ، والتذكير الدائم من خلال وسائل الإعلام في الكلية والجامعة بقدسية العلاقة بين المعلم والمتعلم، وما أفاض به أهل بيت النبي الأكرم عليهم السلام من التأكيد على ضرورة طلب العلم، وأهمية الحفاظ على الأموال العامة لتعم ثقافة جديدة عند الأجيال القادمة مبنية على أسس رصينة.
4- ضرورة إعادة النظر بالمناهج العلمية والتخلص السريع من رواسب العقود الماضية أثناء سنوات حكم حزب معين ركز جل اهتمامه على تكريس مبادئ مغلوطة وأسس لثقافة شاذة عن المجتمع العراقي الأصيل الذي يعتز بانتمائه الإسلامي والعربي وهويته الوطنية، ومنح الأساتذة إمكانية اعتماد منهج علمي من إعدادهم شخصياً لاسيما في الكليات ذات الطابع الإنساني، أما الكليات العلمية فلا مناص من اعتماد التجربة الحديثة التي تتلخص في الاتفاق مع دور النشر العالمية لاعتماد كتبهم ونشرها وتزويد الأستاذ بكل ما يحتاج إليه من وسائل الإيضاح وتحديث المنهج كل عام بما يساير التقدم العلمي والتكنولوجي، ما يخلق جواً من التوافق بين المنهج والأستاذ وانعكاس ايجابي على الطلبة ومستواهم العلمي.
5- حتمية تزويد الجامعات العراقية بمكتبات علمية متكاملة ما يمنح الأستاذ فسحة للإبداع وزيادة نتاجاته العلمية، وتفعيل الدور التكاملي بين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وبقية الوزارات، والانتقال نحو المراكز البحثية المتخصصة بوضع ضوابط لاستقدام وخدمة الأساتذة فيها وربطها مباشرة بعقود خدمة مع مختلف الوزارات والعمل على ترجمة العلاقة بينهما إلى واقع على الأرض.
6- إعادة النظر بنظام القبول المركزي ومنح الجامعات العراقية الإمكانية للإعلان عن القبول المباشر للطلبة في أقسامها وفروعها العلمية حسب مؤهلاتهم ورغبتهم والحاجة الحقيقية لسوق العمل بالتنسيق مع وزارة التخطيط.
7- إعادة النظر بالقانون رقم (13) لسنة 1996 الخاص بالجامعات والكليات الأهلية وبالتحديد إلزام الكليات الأهلية باعتماد الضوابط في القبول وفق خطط مصادق عليها من الوزارة بما يوازي التعليم الحكومي، ففي الفترة الماضية صار ينظر إلى الكلية الأهلية على أنها مشروع استثماري الكل فيه رابح المؤسسين ممن تضخمت أموالهم إلى حد التخمة والطلبة ممن ضمنوا الحصول على الشهادة بأبخس الأثمان.
8- إعادة النظر بتعليمات انضباط الطلبة رقم (160) لسنة 2007 واعتماد ضوابط تنطوي على المرونة والسلطة التقديرية للإدارة المتمثل بالعمادة وضرورة إعادة النظر بالزي الموحد لكون الطلبة اعتادوا مخالفته والتحايل عليه الأمر الذي يجعلهم مستقبلاً ينظرون إلى مخالفة القانون والنظام العام كنوع من المغامرة والبطولة فينشأ الجيل الجديد وهو يحمل في داخله بذرة التمرد على النظام لا شعورياً وهذا يعد تعسفاً في استخدام الحرية.
وانطلاقاً من النهج الذي اعتاد عليه مركز ادم للدفاع عن الحقوق والحريات، ندعو جميع المختصين والمهتمين بالجانب العلمي والأكاديمي في العراق والسلطة التشريعية والتنفيذية إلى ضرورة تبني إصلاحات حقيقية وجذرية تعزز ثقة الأستاذ والطالب بالمؤسسة التعليمية وتصهر شخصيتهم العلمية في ضوء تعزيز استقلال الكلية والمعهد والجامعة وضمان السير بالعملية التعليمية قدماً، والعمل الجاد على تعريف الطالب والأستاذ بتكاملية العلاقة التي تربطهما.