البنوك العالمية: بين حمى الشعبوية ورمضاء الحمائية
إيهاب علي النواب
2017-02-21 05:59
يعزو الكثير من المحللين تصاعد قوة ونفوذ الحركات الشعبوية خلال السنوات القليلة الماضية، في أوروبا والولايات المتحدة نفسها، الى تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الأخيرة، وقد أشارت دراسة عن القطاع البنكي والأزمة المالية العالمية الى أثر هذه الأزمة في خلق فجوة من عدم الثقة بين المجتمعات الغربية ونخبها الاقتصادية والسياسية، فبحسب الدراسة، استندت عمليات الإشراف علي العمليات المالية وتنظيمها - علي المستويات القومية والعالمية - الى رؤية ضيقة مفادها أن ربحية البنوك تعتبر في حد ذاتها مؤشرا علي فعالية النظام المالي، ولم يكن هناك نقاش حول التداعيات الاجتماعية لهذا النظام، وما يترتب عليه من توزيع غير عادل للثروة.
ولهذا السبب، كان هناك ميل شعبي عام لعدم تصديق دعاوي الحكومات عن الحاجة الملحة لإمداد قطاع البنوك بالمبالغ الضخمة من الأموال، والتي جاءت علي حساب الطبقات المتوسطة والفقيرة، وبالتالي، فقد انفجر الغضب الشعبي تجاه النخبة الحاكمة التي اتهمت إما بالتواطؤ مع القطاع المصرفي، أو بالعجز عن الوقوف أمام نفوذ، ورسمياً لا تمارس المصارف المركزية العمل السياسي، لكن منذ فترة خرجت هذه المؤسسات المالية في جميع انحاء العالم عن تحفظها المعتاد لتعبر عن قلقها من صعود النزعات الحمائية والشعبوية، وحذر ايف ميرش العضو في ادارة البنك المركزي الاوروبي مؤخرا من ان "الحمائية لن تؤدي الى اي شىء سوى الى تراجع رفاهية" المجتمعات.
من جهة اخرى صرح البنك المركزي الهندي ان "التجارة العالمية ما زالت تعاني من التباطؤ بسبب النزعة المتزايدة الى اجراءات حمائية وتوترات سياسية متزايدة"، بينما رأى البنك المركزي للبرازيل ان السياسة الاقتصادية الاميركية "تجعل الوضع الاقتصادي العالمي غامضا"، وصرح حاكم البنك المركزي الاسترالي فيليب لاو ان "الطريق باتجاه الازدهار الليبرالي لا يمكن ان يمر عبر بناء حواجز بيننا"، ويرى البنك المركزي المكسيكي ان السياسة الاميركية الجديدة يمكن ان تضر بالعلاقات بين الولايات المتحدة والمكسيك.
وبشكل عام تتحفظ المصارف المركزية الحريصة جدا على استقلاليتها عن الحكومات، عن التدخل في الشأن السياسي، في المقابل، تستخدم هذه الهيئات المالية بحرية تقديراتها الاقتصادية لتحديد معدلات الفائدة وحماية الاستقرار المالي، وأفاد فريديريك دوكروزيه من مجموعة "بيكتيه" للخدمات المالية ان "رجال المصارف المركزية تدخلوا قليلا في مجال ليس من اختصاصهم في السنوات الاخيرة عبر صياغتهم بحذر، توصيات سياسية، لكن منذ بعض الوقت، اجتازوا مرحلة اضافية بشكل واضح".
من جهته، يرى بن ماي من مجموعة "اوكسفورد ايكونوميكس" الاستشارية ان اعلان المصارف المركزية عن مواقف في القضايا التي تثير جدلا عاما "يعكس خصوصا واقع ان الحمائية لم تكن مشكلة حتى الآن" اكثر من رغبة في لعب دور سياسي، وفي هذا المجال، اسباب القلق كثيرة للمصارف المركزية بين خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي والتهديدات بفرض رسوم جمركية جديدة في الولايات المتحدة ومشروع تغيير إجراءات وضوابط القطاع المالي الاميركي، بينما يحاول العام طي صفحة الازمة المالية للعام 2008.
يضاف الى ذلك، مخاوف من حرب عملات ممكنة بعد تصريحات للادارة الاميركية موجهة الى المانيا او اليابان اللتين اتهمتهما بالتلاعب باسعار عملتيهما بهدف تحقيق فوائد تجارية، ويسعى حاكم بنك اليابان هاروهيكو كورودا الى طمأنة القلقين مبيناً ان الحمائية ستنتشر بقوة وبشكل واسع في العالم"، وعبر ينس فايدمان حاكم البنك المركزي الالماني مؤخرا عن قلقه. مضيفاً أننا نشهد تشكيكا متزايدا بالعولمة، ليس في الولايات المتحدة وحدها، في اوروبا ايضا، الخوف من العولمة ورفض الاسواق المفتوحة يتسع". من جهة أخرى تتابع المصارف المركزية بدقة منذ فترة الانتخابات الاساسية التي ستجرى هذه السنة خصوصا في فرنسا والمانيا حيث انتعشت الاحزاب القومية والمعارضة للمؤسسات الأوروبية ولليورو.
اذ في فرنسا، اذا انتخبت زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف مارين لوبن "فسيغادر (هذا البلد) الاتحاد الاوروبي وهذا سيعني على الارجح انتهاء الوحدة النقدية"، كما يرى يورغ كريمر الخبير الاقتصادية في مصرف "كوميرتسبنك"، ويضيف ان هذا الاحتمال ضئيل كما تكشف استطلاعات الرأي لكنه "يزيد من قلق المستثمرين"، وهذ القلق كبير الى درجة ان رئيس البنك المركزي الاوروبي ماريو دراغي شعر انه من الضروري ان يطمئنهم على مستقبل العملة الواحدة، مؤكدا خلال جلسة استماع له في البرلمان الاوروبي في بروكسل ان "لا مجال للعودة عن اليورو".
وحذر زميله بونوا كوريه المسؤول في ادارة البنك المركزي الاوروبي بان الخروج من اليورو "ينطوي على مخاطر لا احد يستطيع التكهن بعواقبها"، ومن بين هذه الانعكاسات ان تمويل الدين الفرنسي سيكلف مبالغ اكبر قد تصل الى "اكثر من ثلاثين مليار يورو سنويا مع الوقت"، كما صرح فرنسوا فيلوروا دي غالو حاكم بنك فرنسا.
البنوك الكبرى تتجه نحو تخفيض التوظيف في فروعها
يشهد نشاط التداول ازدهارا في البنوك الأمريكية والأوروبية بفضل انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة والتصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لكن أيام المجد التي تشهد غرف تداول ضخمة لا تزال أبعد ما يكون، فالبنوك الحريصة على كبح التكاليف بعدما تضررت من الأزمة المالية العالمية في الفترة بين 2007 و2009 وما تبعتها من قيود تنظيمية لا تجلب المزيد من المتعاملين في ضوء تشككها في استدامة الانتعاش.
اذ صرح جيسون كنيدي الرئيس التنفيذي لجموعة كنيدي للتوظيف في لندن أنه لا يوجد إفراط في التوظيف، فالإدارة لا تعرف ما إن كانت الانتعاشة حقيقة وما إذا كنا نشهد فقاعة أم لا، وساهمت صدمات مثل تصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي وفوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية في العام الماضي في زيادة التقلبات بالسوق وتعزيز نشاط التداول في البنوك وإيراداتها وأرباحها.
غير أن هذا لا يعني جلب المزيد من المتعاملين حيث تتجنب البنوك العودة إلى غرف التداول المكتظة بالمئات من الموظفين مثلما كان الحال قبل الأزمة وتضخ المزيد من الاستثمارات في التداول الآلي، وبدأ بنك إتش.إس.بي.سي أكبر البنوك الأوروبية خفض وظائفه الكبيرة بنحو مئة وظيفة في قطاعه للخدمات المصرفية الاسثتمارية على مستوى العالم، وتذكر المصادر إنه من المنتظر أن يلغي دويتشه بنك المتعثر أكبر بنوك ألمانيا نحو 20 بالمئة من وظائف تداول الأسهم في إطار خطة لخفض التكاليف على مستوى العالم كما سيخفض أيضا الأجور والمكافآت، وتحققت أكبر مكاسب التداول في مجال أدوات الدخل الثابت والعملة والسلع الأولية. وحققت أكبر خمسة بنوك في الولايات المتحدة إيرادات 10.5 مليار دولار من تداول أدوات الدخل الثابت والعملة والسلع الأولية في الربع الرابع من العام و14.1 مليار دولار في الربع السابق.
وبلغت الإيرادات 24.6 مليار دولار في النصف الثاني من العام الماضي مقابل 17.9 مليار دولار في الفترة المقابلة من عام 2015 بزيادة 37 بالمئة، وأعلنت أربعة فقط من البنوك الأوروبية الكبرى نتائج أعمال الربع الرابع حتى الآن وهي كريدي سويس ودويتشه بنك وسوسيتيه جنرال وبي.إن.بي باريبا. وترى هذه البنوك إن إيرادات تداول أدوات الدخل الثابت والعملة والسلع الأولية زادت وإن لم تصل الزيادة لقوة منافسيها في وول ستريت بينما كان أداء تداول الأسهم أكثر تفاوتا، وفي الأعوام الماضية كثفت البنوك التوظيف في مجالين.
أحد هذين المجالين هو الالتزام باللوائح التنظيمية للتعامل مع مجموعة واسعة من القواعد الجديدة فرضتها السلطات الأمريكية والأوروبية وكذلك منع تكرار الممارسات الخاطئة التي سبقت الأزمة المالية وتسببت في تعرض بعض البنوك لعقوبات ضخمة. أما المجال الآخر فهو التكنولوجيا لتحسين الكفاءة.
الا أن التداول أمر مختلف، حيث ذكرت شركة كوليشن المتخصصة في تحليل بيانات القطاع إن العدد الإجمالي للعاملين في المكاتب الأمامية لتداول أدوات الدخل الثابت والعملة والسلع الأولية -وهو ما يشمل المبيعات والتداول والأبحاث- في أكبر 21 بنكا على مستوى العالم انخفض إلى 17479 موظفا في العام الماضي من 18755 في العام السابق، ويمثل ذلك انخفاضا بنسبة سبعة بالمئة على أساس سنوي وهبوطا بنسبة 25 بالمئة تقريبا عن عام 2012.
غير أن الآفاق قد تكون إيجابية للبنوك الأوروبية. فبعد أعوام من التخفيضات الكبيرة في التكاليف وخفض حجم العمليات والانسحاب من بعض الأسواق سيتوقف اتساع الفجوة بينها وبين البنوك الأمريكية فيما يتعلق بعدد العاملين والإيرادات، وتواصل البنوك الاعتماد على سياسة "إحلال الشباب" في مكاتب التداول حيث تستبدل المتعاملين الكبار أصحاب الرواتب الأعلى بخريجين ومتدربين أصغر سنا وأقل خبرة ورواتب كوسيلة لخفض التكاليف.
بنك باركليز يبدأ بالاصلاحات الإدارية الخاصة بالقواعد البريطانية
يعتزم باركليز إصلاح عملياته الإدارية في إطار خطة إعادة هيكلة لمساعدته على التوافق مع القواعد الجديدة لما بعد الأزمة المالية والتي تلزم البنوك البريطانية بعزل أنشطة التجزئة المصرفية عن العمليات عالية المخاطر، وذكر باركليز إنه أسس شركة جديدة ستعمل كوحدة مستقلة لتقديم خدمات الدعم لنشاطيه الرئيسيين التجزئة المصرفية والأنشطة المصرفية الاستثمارية عندما يتم فصلهما رسميا.
تهدف قواعد العزل إلى تفادي تكرار أزمة 2008 حينما هددت رهانات مصرفية رديئة ودائع العملاء، ورغم أن باركليز لم يكن من بين البنوك التي احتاجت إنقاذا بأموال دافعي الضرائب البريطانيين فإن القواعد الجديدة ستطبق على جميع البنوك في البلاد والتي تقدم خدمات الأفراد أو أعمال بنوك الاستثمار أو الأنشطة المصرفية التجارية، وتفيد المصادر إن باركليز يهدف إلى أن تستمر وظائف الدعم المهمة في العمل بسلاسة إذا واجه أحد النشاطين الرئيسيين صعوبات مع مواصلة خفض التكاليف من خلال تفادي وجود وحدات إدارية منفصلة عديدة.
وسيؤثر الإصلاح - الذي يتضمن إقامة شركة جديدة تعرف داخليا باسم سيرفكو - على معظم العاملين في أنشطة الإدارة لباركليز في 17 دولة بأنحاء العالم والذين يزيد عددهم على عشرة آلاف موظف، وسيتضمن توحيد عمليات البنك الضخمة في الهند وجنوب أفريقيا التي تقدم الدعم التكنولوجي وإدارة البيانات مع وظائف مثل المتطلبات التنظيمية وعلاقات الشركات والشؤون القانونية والموارد البشرية، وإن الإصلاح سيتضمن أيضا تغييرا في المسمى القانوني الذي يعمل بعض الموظفين في إطاره وربما الاستغناء عن بعض الوظائف، ورغم ذلك فإن الإصلاح سيكلف مليار جنيه استرليني (1.25 مليار دولار) وهذه تمثل تكلفة التوافق مع قواعد العزل.
ويسلط التغيير الهيكلي الضوء على معاناة البنوك البريطانية في سعيها للتوافق مع القواعد التي يبدأ تطبيقها في 2019، وتعمل بنوك بريطانية أخرى وفق نماذج مماثلة، فقد نقل إتش.إس.بي.سي 18 ألف موظف إلى شركة خدمات مقرها بريطانيا في 2015 بحسب إفصاح من البنك في إطار خطوة لفصل عمليات الإدارة امتثالا للقواعد الجديدة، ويخطط إتش.إس.بي.سي لجعل برمنجهام مقرا لعملياته في بريطانيا في التجزئة المصرفية والأنشطة المصرفية التجارية ونقل نحو ألف من موظفيه في لندن إلى هناك.
مستقبل البنوك المركزية في ظل الشعبوية والحمائية
ومع تقدم الحركات الشعبوية والحمائية فأن السؤال سيكون هو اذا كان من شأن ذلك ان يكون أمراً جيداً، او ما اذا كان ينبغي حماية استقلال البنك المركزي ضد المد الشعبوي الحمائي، ومن الانتقادات الموجهة ضد البنوك المركزية ادعاءات بأن التسهيل الكمي وانخفاض اسعار الفائدة هي لصالح الاغنياء وسياسات ائتمانية خاصة لصالح البنوك، لاتساعد الاقتصاد، ويأتي التركيز الحاد على التضخم على حساب أهداف أخرى مثل الحفاظ على العمالة والمساواة وغيرها.
وتاتي هذه الحجج من اليسار واليمين على حد سواء، وعبر الاقتصاديون المحافظون مثل جون تايلور من الولايات المتحدو وأوتمار ايسنج من منطقة اليورو، عن مخاوفهم بأن البنوك المركزية قد تولت دوراً كبيراً في ادارة الاقتصاد منذ الأزمة المالية في عام 2008، بحيث إن السياسات غير العادية مثل التسهيل او التيسير الكمي وتسهيلات القروض طويلة الأجل، والتدخل المتزايد لبعض البنوك المركزية في القطاع المالي، قد تعدد حدود الاختصاص الشرعي لصانعي السياسة النقدية. في حين يفضل الشعبويون تقليص الاستقلال السياسي والعملي للبنوك المركزية، بينما يرى أخرون ضرورة الحفاظ على استقلال البنوك المركزية مع الحد من صلاحياتها ونطاق سياساتها.