أزمة مصرف وادي السيليكون: عودة الأصول المسمومة؟

علي عواد

2023-03-14 06:19

يوم الخميس الماضي، أثار «مصرف وادي السيليكون» (SVB) الأميركي، موجة من الذعر أدّت إلى انخفاض أسهم المصارف حول العالم. وتصاعدت الأحداث بعدما أعلن المصرف الاكتتاب في أسهم لدعم السيولة بعد خسارة كبيرة في محفظته. فهل العالم أمام كرة ثلج جديد ستنتج أزمة مالية عالمية كالتي حصلت في عام 2008؟

على إثر الأزمة المالية عام 2008، ألزمت معايير بازل 3، المصارف، بالإبقاء على 100% لنسبة تغطية السيولة. وهو شرط يوجب على المؤسسات المالية التي تحمل السندات الاحتفاظ بكمية من الأصول السائلة عالية الجودة تكفي لتمويل التدفقات النقدية الخارجة لمدة 30 يوماً. ومن بين الأصول التي يمكن للمصارف الحفاظ عليها من أجل بيعها بسرعة وتأمين السيولة، هي سندات الخزينة. وبالفعل، كانت سندات الخزينة الأميركية محور استثمار واسع أيام جائحة كورونا. وفي تلك الفترة، أصدرت هذه السندات باستحقاقات طويلة الأمد وفوائد متدنّية. إلا أنه مع رفع البنك الفيدرالي الأميركي، الفائدة، باستمرار منذ العام الماضي، باتت للسندات القديمة ذات الأجل الأطول، قيمة أقلّ من الجديدة، وهو ما يكبّد حاملي السندات القديمة خسائر جمّة. وهذا ما حصل أخيراً، إذ تعرّضت المصارف التي تحمل هذه السندات لخسائر محقّقة يتوجّب عليها التصريح عنها. فقد كان ظهور هذه الخسائر مسألة وقت فقط.

هكذا بدأت ملامح الأزمة المالية المقبلة تظهر. أول المتضرّرين المعلنين هو «مصرف وادي السيليكون». إذ أعلنت الشركة الأمّ التي تملكه «SVB Financial Group»، تدابير لزيادة سيولتها بقيمة 2.25 مليار دولار إثر انسحاب عملاء منها. وبذلك، باعت سندات بقيمة 21 مليار دولار بفائدة حسم تكبّدها خسارة بقيمة 1.8 مليار دولار، وهي خسارة لا يمكن تجنّبها، بل يتوجب على المصرف تغطيتها. وهو ما دفع المصرف إلى إصدار اكتتاب أسهم لدعم رأس ماله. عملياً، انكشاف المصرف الكبير على سندات الخزينة ذات الأجل الطويل والعوائد المتدنية، جعلها تدفع للمستثمرين أموالاً أكثر من عوائد هذه السندات.

هذه الخطوة أثارت مخاوف عدد من أصحاب رؤوس الأموال البارزين، بمن فيهم «Peter Thiel’s Founders Fund» و«Coatue Management» و«Union Square Ventures»، الذين أمروا الشركات الموجودة في محفظة «SVB Financial Group» بالحدّ من الانكشاف وسحب أموالهم من البنك. كما طلبت شركات استثمارية من شركات موجودة في المحفظة تحويل بعض أموالها على الأقل بعيداً عن هذا المصرف.

في ضوء ما حصل، قال مايكل بوري، المستثمر المشهور بتوقعاته لأزمة عام 2008، على حسابه على «تويتر»: «من الممكن أننا، اليوم، وجدنا إنرون الخاصة بنا»، في إشارة إلى شركة الطاقة «إنرون» ومقرّها هيوستن - تكساس، التي انهارت مع انفجار فقاعة «الدوت كوم» في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وأفلست الشركة في أواخر عام 2002 في أعقاب فضيحة محاسبية. يومها انخفض سهم «إنرون» إلى 0.26 دولار تقريباً من ذروة سعره البالغة 90.75 دولاراً.

العبارة التي قالها بوري غالباً ما يستخدمها المستثمرون كمؤشر لانخفاض هائل في سعر سهم الشركة. لكنه ليس الوحيد الذي لديه توقعات متشائمة. فقد قال كريستوفر والين، من شركة «Whalen Global Advisors» الاستشارية، إن تحركات «SVB Financial Group» ركّزت الانتباه على قضية محافظ السندات والخسائر غير المحقّقة. وأشار إلى أن «المصارف التي لديها سندات خزينة كثيرة هي الأكثر عرضة للمشكلة. لقد ناموا. لم يكن أحد يتوقع استمرار هذا التضخّم». وأوضح أن «لا حاجة لارتفاع أسعار الفائدة مجدداً، كل ما يتوجب عليها فعله أن تبقى كما هي الآن، وحينها سيتعيّن على المصارف الاعتراف بخسائر فادحة. الجميع ينظر إلى هذه الخسائر ويضع علامة عليها في السوق».

رغم ذلك، وصف كبير مسؤولي الاستثمار في «Close Brothers Asset Management» البريطانية، روبرت ألستر، هذه التطوّرات بأنها «عاصفة في فنجان شاي»، مشيراً إلى أن انتقال الأزمة مباشرة من«SVB Financial Group» إلى المصارف البريطانية والأوروبية الكبيرة أمر لا أرضية له. لكنه لفت إلى أن أسعار الفائدة على السندات القصيرة الأجل، أعلى من أسعار الفائدة على السندات الطويلة الأجل، من شأنه أن «يضغط على الهوامش» في المصارف الكبرى، موضحاً أن «أسعار الفائدة المرتفعة تميل إلى أن تؤدّي إلى معايير إقراض أكثر صرامة يمكن أن تبطئ الاقتصاد».

إزاء هذه التطورات، برزت موجة الـ«too big to fail» التي كانت رائجة أيام الأزمة المالية العالمية في 2008. وهي تعني أنه عندما تصيب الأزمة الشركات الكبرى في القطاع المالي، تتحوّل إلى انهيار شامل للنظام إذا لم تعالج من خلال تدخّل الدولة. وبالفعل، بدأت تصدر أصوات منادية بإنقاذ هذا المصرف قبل أن تصبح الأزمة نظامية. فقد قال مؤسّس «بيرشينغ سكوير»، بيل أكمان، إنه يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تفكر في خطّة إنقاذ «مخففة للغاية» لـ«SVB Financial Group» إذا لم يكن من الممكن توفير حل من رأسماله الخاص.

لكن ما هو حجم المشكلة، وما مدى انتشارها؟ فعندما تصبح سندات الخزينة الأميركية التي تُعدّ الأكثر أماناً حول العالم، تصبح المخاوف من انتشار الأزمة مقلقة للغاية، إذ يتداعى المستثمرون بشكل تلقائي وبديهي للانسحاب من الشركات التي قد يكون لديها خسائر ناتجة من هذه السندات. هكذا يتحوّل الأمر إلى موجة هروب للرساميل من المصارف التي تحمل السندات. وبما أن هذه السندات هي الأكثر أماناً حول العالم، فهذا يعني أن «SVB Financial Group» ليست وحدها في هذه الورطة.

هذا ما حصل تحديداً في الأيام الماضية، إذ انخفضت القيمة السوقية لأكبر أربعة مصارف في الولايات المتحدة لجهة الأصول، بمقدار 52.4 مليار دولار، بسبب عمليات بيع كبيرة للأسهم المالية. وقد حدثت عملية البيع بعد أيام قليلة فقط من البيانات الصادرة عن شركة «التأمين على الودائع الفيدرالية» التي كشفت أن لدى المصارف الأميركية خسائر غير محققة بقيمة 620 مليار دولار مصدرها محافظ الأوراق المالية الخاصة بها. قد يكون بإمكان المصارف تجنّب هذه الخسائر إذا كانت قادرة على انتظار استحقاق السندات وليست بحاجة إلى السيولة، لكن مفاعيل ظهور خسائر السندات تدفع المصارف إلى التخلّي عنها لتحسين مستويات السيولة لديها. عملياً، تكون المشكلة في السيولة أولاً، ثم تصبح مشكلة ملاءة لاحقاً.

نتيجة لهذه العوامل، سجّل مؤشر «KBW Bank» أكبر انخفاض له منذ حزيران 2020 بنسبة 7%. كذلك، شهد بنك «First Republic» انخفاضاً بأكثر من 16%. وانخفضت أسهم «جاي بي مورغان تشايس» بنسبة 5.4%، و«بنك أوف أميركا» و«ويلز فارغو» بنسبة 6.2%، و«سيتي غروب» بنسبة 4.1%. عملياً، شطبت أصول في هذه المصارف بقيمة 52.4 مليار دولار. وانتقلت المخاوف إلى خارج الولايات المتحدة، إذ إنه في بورصة باريس خسر سهم بنك «سوسيتيه جنرال» 4.96% و«بي ان بي باريبا» 3.38% و«كريديه أغريكول» 2.94%. وتراجعت أسهم المصارف الألمانية الجمعة في بورصة فرانكفورت بمعدل وصل إلى 10%. وخسر سهم مصرف «دويتشه بنك» الألماني 9.85%، فيما تراجعت أسهم «كومرتس بنك»، ثاني أكبر مصارف ألمانيا، بنسبة 6.12%. كما تراجع سهم «باركليز» البريطاني بنسبة 3.83% والإيطالي «أنتيسا سانباولو» بنسبة 3.06% والسويسري «يو بي إس» بنسبة 4.45%. وفي هونغ كونغ، خسر مصرفا «إتش إس بي سي» و«ستاندرد تشارترد» الجمعة أكثر من 3% و«هانغ سينغ بانك» أكثر من 4%. كذلك حصل الأمر نفسه في اليابان حيث تراجعت أسهم أبرز المصارف اليابانية.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي