رحلة النقود من الذهب إلى «البيتكوين» وما بعدها

دورية Nature

2021-11-10 08:27

بقلم: باولا سوباكي

عالِم اقتصاد يطرح رؤيته لعالَم لا يعتمد على تداول النقود، لتكون الخدمات المالية فيه أوسع نطاقًا، وأكثر شمولًا.

هل لديك فُضول لمعرفة سبب المظاهرات التي شهدتها شوارع السلفادور مؤخرًا، اعتراضًا على اعتماد «البيتكوين» Bitcoin عملةً قانونيةً في البلاد؟ دعني أقدّم لك عالِم الاقتصاد إسوار براساد، وكتابه المتعمق في بحث هذه القضية، الصادر بعنوان «مستقبل النقود» The Future of Money. يرى براساد أن الطفرة التي يشهدها العالم في أنظمة السداد والعملات المتداولة ترجع إلى ظاهرتين: أُولاهما التغيرات الهامة التي طرأت على الاقتصاد العالمي، على أثر اتساع رُقعته لتضم اقتصادات بلدان نامية كبرى مثل الصين. وأما الظاهرة الثانية فهي التحول الرقمي الذي طال كافة مناحي الحياة. ومن هنا، يتقصى براساد في كتابه الدور الذي يلعبه التحول الرقمي في إعادة صياغة تصوراتنا حول ماهية النقود من الناحيتين الوظيفية والمفاهيمية، في زمن يشهد تحرك النقود بحرية وسهولة حول العالم.

تتجلى معالم هذا التحول الملحوظ في أمرين: يتعلق أولهما بالنقود بوصفها شيئًا ماديًا ملموسًا. فمع انتشار العمل بأنظمة السداد الرقمية، ظهرت الشكوك حول الاعتقاد السائد بأن النقد السائل هو المرادف الأول، إن لم يكن الأوحد، للمال. وعلى الرغم من أن المعاملات غير النقدية يصاحبها خطر اختراق خصوصية الفرد، نظرًا لما تُخلِّفه وراءها من بيانات إلكترونية يمكن تتبُّعها، فإن غالبية الأفراد والشركات، ممن يجرون تلك المعاملات بصورة قانونية، ليس لديهم تحفظات تذكر. كما أن اشتراط الدفع الإلكتروني في المعاملات التي تتجاوز مبالغ مالية معينة يسهم في الحد من نشاط الاقتصاد القائم على المعاملات غير القانونية. ففي بلد كإيطاليا، على سبيل المثال، حيث يُمثِّل هذا النوع من الاقتصاد الموازي 15% من الناتج المحلي الإجمالي، لم يعُد من الممكن تسوية أي مدفوعات بمبلغ ألفَي يورو (أي ما يعادل 2350 دولارًا أمريكيًا) أو أكثر عن طريق السداد النقدي.

ولما كان الأمر كذلك، فإن قضية إدارة البيانات التي تُجمَع من خلال المعاملات الإلكترونية تبقى محطًا لعدة تساؤلات، لا ينبغي النظر إليها باعتبارها مجرد انعكاس لمخاوف مُبالغ فيها، يثيرها دعاة الحرية حول "التدخلات المُجحفة والمتخبطة التي تمارسها الحكومات"، على حد قول أحد المعلقين. ومما لا شك فيه أن حماية الحريات الفردية والخصوصية هما من بين القضايا المشروعة، التي تحظى باهتمام أي مجتمع ديمقراطي منفتح، يسعى لحماية البيانات الشخصية بآليات تتسم بالشفافية، وتخضع للمساءلة.

يُسلِّط براساد الضوء على هذه القضية المعقدة دون أن يخوض في تفاصيلها، حيث يبدي ارتياحًا لفكرة فرض مزيد من الضوابط التنظيمية على المعاملات النقدية. بعبارة أخرى، يناقش المؤلف إمكانية فرض ضوابط على الطرق التي تتعامل بها التقنيات المالية مع بيانات المستخدمين الشخصية، والحالات التي يُسمح فيها بذلك؛ غير أنه لا يطرح إعادة صياغة ذلك الإطار التنظيمي برمته.

أمّا المسألة الثانية، التي تعكس التحدي الذي يجلبه التحول الرقمي في المعاملات المالية، فتتعلق بماهية العملة القانونية، وهوية الجهة التي تُصدِرها، وتضمنها. عادةً ما تُعتبر العملات الصادرة من قِبل البنوك المركزية، والمضمونة من قِبلها، عملاتٍ قانونية، فيجري تداولها، على سبيل المثال، بصفتها عملاتٍ صالحةً لسداد أي دين مُستحَق لطرف ما. إلا أننا نشهد اليوم تزايدًا في المعاملات التي تُجرى اعتمادًا على عملات رقمية مشفرة، صادرة عن جهات خاصة، ومنها «البيتكوين» على وجه الخصوص. ومما تجدُر الإشارة إليه، في هذا الصدد، أن شركة «تيسلا» Tesla، المصنِّعة للسيارات الكهربائية، على سبيل المثال، قبلت بتداول «البيتكوين» لفترة وجيزة، تراجَع بعدها إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي للشركة، عن الفكرة؛ بسبب البصمة الكربونية الهائلة التي تُخلفها تلك العملة.

إذنْ، أين يكمن الضرر؟ إنما يكمن في أن العملات الرقمية المشفرة، الصادرة عن جهات خاصة، هي نقود بلا غطاء، وقيمتها غير مدعومة بأصل ملموس مثل الذهب. تشترك هذه العملات مع العملات الصادرة عن البنك المركزي في عدد من المواصفات، من بينها إمكانية استخدامها في تسوية المدفوعات، ولكنها تفتقر إلى الشفافية والمساءلة والحوكمة. كذلك فإن هذه العملات معرضة لعدة مخاطر (منها، على سبيل المثال، أنه إذا كان لديك رصيد من عملة «البيتكوين»، وفقدتَ كلمة المرور الفريدة الخاصة بك، فإنك تفقد معها إمكانية الوصول إلى حسابك إلى الأبد). يُضاف إلى ذلك أنها أكثر تقلبًا، ولا توفِّر لمستخدميها نفس مستوى حماية الهوية الذي يوفره السداد النقدي.

من المستبعد أن يصل مجتمع ما إلى مرحلة اندثار تداول النقود السائلة، ما دام الناس لا يزالوا ينشدون سهولة المعاملات وعدم الكشف عن هوياتهم.

يصل بنا المؤلف إلى استنتاج وجيه، مفاده أن العملات الرقمية المشفرة الصادرة عن جهات خاصة - مثل عملة «ديم» Diem، التي تقترح شركة «فيسبوك» إصدارها (والتي كانت سابقًا تسمى «ليبرا» Libra) - هي مجرد بدعة عابرة، أكثر من كونها تهديدًا حقيقيًا. ومن المتوقع ألا تتعدى هذه العملات بعض الأصول التي يتعامل بها المضاربون، أو أن تنضم إلى قائمة المقتنيات النادرة. وفي الأثناء، تستعد البنوك المركزية لإطلاق العملات الرقمية الخاصة بها.

ولا ينحصر اهتمام الكتاب فيما يمر به قطاع الخدمات المصرفية والمالية من تغيرات، خلافًا لما يوحي به العنوان الفرعي؛ بل نجد المؤلف يولي عناية خاصة لدراسة الأصداء الاجتماعية لرقمنة المال، كأن يصبح النظام المالي أكثر شمولًا. فبحسب البنك الدولي، يبلغ عدد الأشخاص البالغين الذين لا يملكون حسابات مصرفية حول العالم 1.7 مليار شخص؛ وهو أمر له تداعيات جديرة بالنظر، من بينها أن المهاجرين الذين يرغبون في إرسال الأموال إلى أوطانهم غالبًا ما يلجؤون إلى خدمات التحويل باهظة التكاليف، أو يستعينون بدوائر معارفهم.

في المقابل، يمكن أن توفر التقنيات المالية خدمات رخيصة تستفيد منها كافة شرائح المجتمع، بما في ذلك المجتمعات الريفية، والأُسَر محدودة الدخل. ففي كينيا، على سبيل المثال، نجد خدمة «إم-بيزا» M-Pesa المصرفية، التي تعمل عبر الهاتف المحمول منذ عام 2007، حيث تتيح للشركات الصغيرة في المناطق النائية إمكانية ادخار الأموال وتحويلها بأمان وسهولة عبر الهواتف المحمولة.

يطرح كتاب «مستقبل النقود» عديدًا من الأسئلة التي لا نجد لها إجابة، شأنه في ذلك شأن أية محاولة لتحديد معالم مستقبل غامض. أما الأمر الذي يبدو براساد واثقًا منه، فهو أن تداول النقود سوف يتراجع أكثر فأكثر بمرور الوقت، ولكنها لن تندثر بالكلِّية. وقد يتعجب بعض القراء من هذه الفكرة، لا سيما في ضوء ما سبق أن ذكره المؤلف عن الإمكانيات التي تتيحها النقود الرقمية، فضلًا عن مرونتها وملاءمتها لكافة الظروف. ومع ذلك، يبدو أن يعتنق فكرة يصعب الاختلاف عليها، وهي أن معظم الناس ما زالوا راغبين في حماية خصوصيتهم. ويخلُص من ذلك إلى أنه من المستبعد أن يصل مجتمع ما إلى مرحلة اندثار النقود السائلة، ما دام الناس ينشُدون سهولة المعاملات، وعدم الكشف عن هوياتهم.

يبقى اندثار النقود في مجتمع ما مرهونًا بتحوُّل ذلك المجتمع تحولًا كاملًا نحو الحياة الرقمية، مدعومًا في ذلك ببنية تحتية ممتدة وموثوقة، إلى جانب توافر الأجهزة الرقمية للجميع، وتحرُّر أفراد ذلك المجتمع من مخاوف ترك آثار إلكترونية قد تُخل بخصوصيتهم. كان للجائحة فضل كبير في تشجيع عمليات السداد الإلكتروني، ولكن يبدو أننا سنحمل معنا دائمًا بعض الأموال السائلة، تحسبًا لأية مفاجآت.

* باولا سوباكي أستاذة في الاقتصاد الدولي، ورئيسة المجلس الاستشاري في معهد السياسة العالمية بجامعة كوين ماري بلندن، المملكة المتحدة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي