انهيار الثقة في النظام المالي يعمق الأزمة في لبنان

دلال العكيلي

2019-11-26 04:30

يغذي الاحتجاجات التي تجتاح لبنان منذ أسابيع شعور بالغضب موجه لمؤسسة الحكم وما يرى المحتجون أنه فساد غير أن قلة الثقة بالنظام المالي عامل مهم أيضا، وقد تراجعت ثقة اللبنانيين في المهجر ويقول مصرفيون إن التدفقات المالية التي تعثرت منذ سجلت ذروتها في 2014 تناقصت مرة أخرى في الأسابيع الأخيرة بسبب مخاوف من حدوث انهيار اقتصادي.

واقتربت ساعة الأزمة المالية في لبنان الآن أكثر من أي وقت مضى، أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن لبنان يحتاج "حلا فورياً خلال أيام" لتجنب حصول انهيار اقتصادي، في وقت تشهد البلاد شللا كاملاً، ان انهيار الثقة في النظام المالي يعمق الأزمة في لبنان اذ يعمل فقدان الثقة على تآكل السيولة في القطاع المصرفي الأمر الذي يزيد المخاوف ألاّ تتمكن البنوك من مساعدة الحكومة على تمويل العجز المرتفع في الموازنة وفي ميزان المعاملات الجارية، ويحمل لبنان واحدا من أثقل أعباء الدين في العالم إذ يعادل دينه العام نحو 150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

ويتعين سداد القروض الدولارية بالعملة ذاتها وهو أمر صعب بصفة خاصة بسبب نقص العملة الصعبة في لبنان، وسيعاني أي مقترض من ضائقة مالية إذ توضح المواقع الإلكترونية للبنوك الكبرى أن الفائدة السنوية على بعض القروض تبلغ نحو 27 في المئة، يقول مصرفيون إن ودائع العملاء واصلت التراجع ومن المقدر أنها انخفضت بما لا يقل عن ثمانية مليارات دولار وفقا لتقدير جابريس إيراديان كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمعهد التمويل الدولي، وقال جياس جوكنت من جيه.بي مورجان سيكيوريتيز إن الاحتياطيات مرتفعة بما يكفي لضمان الحفاظ على ربط العملة اللبنانية بالدولار، غير أنه لا تزال هناك بعض المؤشرات المقلقة، وقال مصرفي دولي طلب عدم الكشف عن هويته لحساسية الوضع "صافي مركز البنوك بالعملات الأجنبية يتناقص بسرعة".

شريان حياة

قال هاني سالم الذي يحمل الجنسيتين البريطانية واللبنانية ويعمل في بريطانيا مستشارا بالقطاع المالي "لا يوجد شخص عاقل أو طبيعي سيحول أمواله إلى لبنان في الظروف الراهنة"، وكانت التدفقات المالية من الخارج بمثابة شريان حياة للبنوك والحكومة فيما سبق، غير أن عملية تحويل السيولة الدولارية من البنوك إلى المصرف المركزي لسد الفجوة التمويلية لدى الحكومة في عملية تسمى "الهندسة المالية" انهارت أيضا.

وقال سلامة إن من الضروري إدارة السيولة وإن بإمكان البنوك الاقتراض بالدولار بفائدة 20 في المئة لتأمين احتياجات المودعين بشرط عدم تحويل هذه الأموال للخارج، وقال فاروق سوسة الاقتصادي ببنك جولدمان ساكس الاستثماري إن استخدام البنوك لإجراءات استثنائية لتقليل سحب النقد الأجنبي إلى الخارج وتأني السلطات التنظيمية سيسمح بمواصلة العمل في ظل الظروف الراهنة، وأضاف "ما دام هذا هو الحال ستظل البنوك قادرة على الوفاء بالتزاماتها"، غير أن مؤسستي موديز انفستورز سيرفيس وفيتش للتصنيفات الائتمانية خفضتا تصنيف أكبر البنوك اللبنانية إلى تصنيف عالي المخاطر وقال مصرفي محلي إن بعض البنوك الدولية التي تعمل بنظام المراسلة تشعر الآن بحذر أكبر في توفير السيولة الدولارية.

كما أبدى مصرفيان شكوكا في قدرة البنوك على الوفاء بالهدف الذي وضعته السلطات التنظيمية لرفع المستوى الأول من رأس المال، وهو ما يعد مقياسا مهما لقوة الوضع المالي، بنسبة عشرة في المئة من خلال ضخ السيولة.

تضاؤل التدفقات

يصف ناصر سعيدي، نائب سابق لمحافظ البنك المركزي في بداية عهد سلامة، الهندسة المالية "بمخطط بونزي" إذ تعتمد على اقتراض جديد لتسديد ديون قائمة، وردد نفس الاتهام نسيم نقولا طالب، وهو أمريكي من أصل لبناني ويعمل أستاذا في هندسة المخاطر بجامعة نيويورك.

وردا على ذلك، قالت مديرية الشؤون القانونية في مصرف لبنان إن عملياته تتوافق مع القانون كما ينص قانون النقد والتسليف الصادر في 1963، وأضافت أن ذلك يسمح للبنك "بطلب احتياطيات إلزامية أو زيادة رأس المال، وعناصر أخرى شائعة في عمليات مصرف لبنان وتستخدمها بنوك مركزية أخرى".

ويقول المعجبون بسلامة إنه ليس أمامه الكثير من الخيارات سوى اللجوء إلى الهندسة المالية في 2016 في ظل مواجهة لبنان صعوبات بسبب تراجع التدفقات الداخلة من اللبنانيين في الخارج وزيادة الضغط على البنك للتحرك، وبدأ سلامة الاقتراض من البنوك بأسعار فائدة مرتفعة، وهو ما تطلب خدمة فيما بعد، مما يجعل البنك المركزي مدينا بحوالي 85 مليار دولار وفق بعض التقديرات، وهو أكثر من ضعف مستوى احتياطياته من النقد الأجنبي.

وقال جاربيس إراديان كبير الاقتصاديين بمؤسسة التمويل الدولية إنه بالرغم من أن تلك الممارسة ساهمت في جمع احتياطيات، فإنها ساعدت أيضا في رفع أسعار الفائدة مما يقوض الاقتصاد، وقال المصرفي الاستثماري اللبناني السابق توني عسيلي "هذا بالنسبة لي مجرد تغطية للتصدعات... في النهاية يزول الغطاء وتبقى التصدعات".

ويقول توفيق غاسبار المستشار السابق بوزارة المال إنه إذا لم تكن البنوك قد تخلت عن سيولتها الدولارية من البنوك التي تعمل بنظام المراسلة في الخارج ووضعتها لدى البنك المركزي، لم يكن للنظام المالي أن يقع في مشكلة ويقارن هذا مع فترة الحرب الأهلية عندما أبقت البنوك على سيولة كافية مع بنوكها المراسلة، مما ساعد على استقرار النظام، وقال "السبب الأساسي لما نشهده فيما يتعلق بقيود رأس المال والتهافت على البنوك هو السياسة النقدية للبنك المركزي وسوء سياسة البنوك التجارية ... بمعزل عن أي تطورات أخرى".

البنك الدولي مستعد لدعم لبنان

قال البنك الدولي إنه مستعد لدعم حكومة لبنانية جديدة، محذرا من أن البلد ليس لديه وقت يضيعه لمعالجة أزمة اقتصادية آخذة بالتدهور، ودعا البنك إلى تشكيل حكومة سريعا وقال إنه يتوقع أن يكون الركود في 2019 أكبر بكثير من تقدير سابق للبنك لانكماش الاقتصاد بنسبة 0.2 بالمئة.

ودفعت موجة احتجاجات عارمة ضد النخبة الحاكمة في عموم لبنان رئيس الوزراء سعد الحريري للاستقالة، مما أطاح بحكومته الائتلافية ولا يوجد أي مؤشر على إحراز تقدم فيما يتعلق بالتوافق على حكومة جديدة، تأتي الاضطرابات في وقت يصارع فيه لبنان أسوأ ضغوط اقتصادية ومالية منذ الحرب الأهلية بين 1975 و1990.

والبنك الدولي من المانحين الدوليين الذين تعهدوا بمساعدات بمليارات الدولارات تشتد الحاجة إليها، مشروطة بتطبيق حكومة لبنان إصلاحات طالما تأجلت، لكن في ظل عدم اقتناع الحلفاء الدوليين بشكل كامل، لم تُضخ بعد الأموال في الاقتصاد اللبناني، وقال المدير الإقليمي للبنك الدولي ساروج كومار جاه في بيان بعد لقاء الرئيس اللبناني ميشال عون يوم‭ ‬الأربعاء "لبنان الآن ليس لديه الرفاهية لإضاعة الوقت لمعالجة القضايا الملحة التي تستدعي الاهتمام الفوري.. هناك حاجة ملحة لوقف الأزمة الاقتصادية الناشئة".

وأضاف "نحن على استعداد لتقديم كل الدعم الممكن للحكومة الجديدة التي تلتزم بالحوكمة الرشيدة والتي تسعى إلى خلق فرص عمل لجميع اللبنانيين"، وقال البنك الدولي إن نسبة الفقر بين اللبنانيين قد ترتفع إلى 50 بالمئة إذا تفاقمت الأوضاع الاقتصادية، من حوالي الثلث في 2018، وقد تزيد البطالة بشدة من مستويات تبلغ 37 بالمئة لمن هم دون الخامسة والثلاثين

وقال مكتب الرئيس اللبناني عقب الاجتماع إن عون أبلغ البنك الدولي أن الحكومة الجديدة ستضم وزراء "يتمتعون بالخبرة والكفاءة ومن ذوي السمعة الحسنة وبعيدين عن شبهات الفساد".

غضب شعبي

تفجرت القلاقل في أنحاء لبنان وسط غضب متصاعد من ارتفاع تكاليف المعيشة وخطط ضرائب جديدة ونخبة حاكمة متهمة بتفشي الفساد، ويلقي المتظاهرون باللوم على الطبقة السياسية، وكثيرون منها من قيادات الحرب الأهلية، في دفع البلاد صوب الانهيار بعد أن حلبوا خيرات الدولة لعقود.

ومازال الحريري، الحليف أيضا لدول غربية وخليجية، في السلطة لتسيير الأعمال لحين اتفاق الأحزاب السياسية على حكومة جديدة، ولم يبدأ عون، الحليف لجماعة حزب الله القوية المدعومة من إيران، محادثات رسمية بعد مع أعضاء البرلمان لترشيح رئيس وزراء يتولى تشكيل الحكومة الجديدة.

واحتجت حشود أمام مقار الوزارات ومؤسسات الدولة في العاصمة بيروت، وفي مناطق بشمال لبنان وجنوبه، وفي ظل نمو شبه متوقف، أدى تباطؤ تدفقات رؤوس الأموال إلى شح الدولار وضغوط على ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأمريكي، وخفضت موديز تصنيف لبنان إلى ‭Caa2‬، ليصبح عند الحد الأدنى لشريحة عالي المخاطر، متعللة بتزايد احتمالات إعادة جدولة للدين ستصنفها الوكالة كتخلف عن السداد.

قيود ائتمانية

لم يبلغ المستوردون حتى الآن عن حدوث نقص في السلع والمنتجات وبدوا غير قلقين من خطر حدوث ذلك في الأيام القادمة حيث يتوقعون أن تكون القيود الائتمانية مؤقتة، لكن القيود تضع مزيدا من الضغوط على اقتصاد يعاني بالفعل في ظل نمو منعدم وتباطؤ تدفق الأموال من الخارج عندما اندلعت الاحتجاجات في 17 أكتوبر تشرين الأول.

ومنذ ذلك الحين، دفعت بعض الشركات لعامليها نصف راتب فقط عن شهر أكتوبر تشرين الأول بينما ستلجأ شركات أخرى لنفس الإجراء في نوفمبر تشرين الثاني، حسبما قال موظفون، وحدد بعض البنوك أيضا حجم الأموال التي يستطيع العملاء سحبها من الحسابات الدولارية إلى بضعة آلاف من الدولارات أسبوعيا.

وقال شادي حسين مدير تطوير الأعمال الإقليمية لدى عُبجي للمنتجات الاستهلاكية، إحدى أكبر شركات الأغذية في لبنان، "حين فتحت البنوك مجددا أُبلغنا أنه لم يعد بمقدورنا استخدام الرصيد المتبقي في التسهيلات الائتمانية القديمة التي كنا نستخدمها في سداد مستحقات الموردين".

وتابع حسين، الذي يستورد البسكوت والأغذية المعلبة ومنتجات استهلاكية أخرى، "لحسن الحظ، لدينا علاقة جيدة مع موردينا ولذا يتفهمون الموقف لبعض الوقت لكن الوضع صعب جدا للشركات الصغيرة"، وقال سليم صفير رئيس جمعية مصارف لبنان إن البنوك تراجع الموقف كل ساعة بالتنسيق مع مصرف لبنان وتعدل مواقفها بناء على ذلك، "مهمتنا الرئيسية تدبير الاحتياجات الضرورية للبلاد ونظرا للإغلاق الذي استمر أسبوعين لمخاوف أمنية، تراكمت الطلبات ليس لدينا سياسة قيود لكننا نرتب الأولويات".

اعتماد على الاستيراد

في ظل قطاع صناعي ضئيل وموارد طبيعية قليلة، يعتمد اقتصاد لبنان على الواردات، وبلغت وارداته 10.1 مليار دولار في النصف الأول من 2019، بزيادة ستة بالمئة عن الفترة المماثلة، بينما اتسع العجز التجاري، وهو مقياس لمدى زيادة الواردات على الصادرات، إلى 8.4 مليار دولار.

وقال حسين إن القيود مصدر إزعاج إضافي لشركات تعاني بالفعل نظرا لأن إغلاق البنوك منع موظفي المبيعات من تحصيل مدفوعات من العملاء، وضغط أيضا تباطؤ التحويلات النقدية من اللبنانيين في الخارج على احتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي في الأعوام الأخيرة.

وقبل اندلاع الاحتجاجات وفي ظل شح في الدولارات الذي أوجد سوقا موازية لليرة اللبنانية، قال البنك المركزي إنه سيعطي الأولوية لاستخدام الدولار في شراء الوقود والدواء والقمح، لكن لم تتوقف مدفوعات جميع السلع، فبعض التجار الذين لا يستخدمون خطوط الائتمان بمقدورهم تحويل الأموال إلى الموردين مباشرة.

ما خطب السياسة اللبنانية؟

يتهم المحتجون النخبة السياسية باستغلال موارد الدولة لمصالحهم الخاصة عن طريق شبكات محسوبية تتداخل فيها المصالح الاقتصادية والسياسية، وعلى عكس دول عربية عديدة، لا يخضع لبنان لحاكم واحد قوي بل لعدد من الزعماء والأحزاب المهيمنين على طوائفه المتعددة، وتتوزع المناصب بالمحاصصة على 18 طائفة معترفا بها رسميا، والبرلمان مقسم مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، يجب أن يكون رئيس الوزراء مسلم سني والرئيس مسيحي ماروني ورئيس البرلمان شيعي.

ويقول المنتقدون إن هذا النظام أبقى الطبقة الحاكمة في السلطة للأبد وسمح للساسة بوضع مصالحهم الشخصية فوق مصلحة الدولة، ولا يطالب المحتجون بالإطاحة بالنخبة فحسب، بل وبإصلاح النظام أيضا، يقول مهند الحاج علي، الباحث المقيم في مركز كارنيجي للشرق الأوسط، "هناك نخبة سياسية أنانية لم تعترف بعد بالتغيرات ولا بمدى صعوبة الوضع.. يريدون التركيز على تربحهم الشخصي من النظام".

موظفي البنوك يدرسون الدخول في اضراب

عبًر مصرفي بارز عن القلق من أن اضرابا محتملا للموظفين قد يرغم البنوك على إغلاق أبوابها وستكون البنوك مغلقة، وينبع جزء كبير من أزمة لبنان الاقتصادية من تباطؤ في تدفقات رؤوس الأموال الداخلة والتي أدت إلى نقص شديد في الدولارات الأمريكية وخلق سوق سوداء تراجعت فيها الليرة اللبنانية عن السعر الرسمي، وقال مصدران في السوق إن الدولار بلغ 1800 ليرة أو أكثر يوم الجمعة مقارنة مع 1740 ليرة يوم الخميس. ويبلغ السعر الرسمي 1507.5 ليرة.

على كوكب آخر

وخفضت بعض البنوك الحد الأقصى للسحوبات من الحسابات الدولارية، حسبما قال زبائن وموظفون مصرفيون، وقال زبائن إن بنكا واحدا على الاقل خفض الحد الأقصى لبطاقات الائتمان من عشرة آلاف دولار إلى ألف دولار، وقال مصرفي آخر "أي شيء يمس سيولة البنوك يجري تقييده"، وأبلغ بنك أحد زبائنه أن الحد الاقصى للسحب الاسبوعي البالغ 2500 دولار جرى خفضه الى 1500 دولار.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا