البريكست البريطاني وتغير المسار الاقتصادي
إيهاب علي النواب
2017-06-20 06:31
المملكة المتحدة هي سادس أكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، وسادس أكبرها من حيث تعادل القدرة الشرائية، وتمتلك ثالث أكبر اقتصاد في أوروبا بعد ألمانيا وفرنسا من حيث القيمة الاسمية، والثاني بعد ألمانيا من حيث تعادل القوة الشرائية. يصنف تعادل القدرة الشرائية من حيث نصيب الفرد في المرتبة 17 في العالم و المرتبة 20 اسمياً. المملكة المتحدة هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم المالي، في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة وهي موطن للعديد من أكبر البنوك والشركات في العالم والشركات. لندن عاصمة البلاد وأكبر مركز مالي في العالم، ولديها أكبر ناتج محلي إجمالي كمدينة في أوروبا وهي موطنا لأكثر من 100 من أصل أكبر 500 شركة أوروبية مثل إتش إس بي سي وبريتيش بتروليوم. المملكة المتحدة هي أيضاً عضو في مجموعة الدول الصناعية السبع ومجموعة الثماني ومجموعة العشرين والأمم المتحدة ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية و منظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي والكومنويلث.
الا أنه وبسبب قرار البريكست والانتخابات البرلمانية الاخيرة يتوقع الكثير ان لايحافظ الاقتصاد البريطاني على مستواه هذا، اذ تدهورت المعنويات بين كبار رجال الأعمال ورؤساء الشركات في بريطانيا جراء انزلاق البلاد إلى أزمة سياسية قبل أيام من بدء محادثات الخروج من الاتحاد الأوروبي، في وقت يعانون فيه بالفعل من تداعيات التصويت لصالح الانفصال، وأثار عدم فوز رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بأغلبية برلمانية في الانتخابات حالة من عدم اليقين السياسي لم يشهد خامس أكبر اقتصاد في العالم مثلها منذ سبيعنات القرن الماضي، وكشف مسح أجراه معهد المديرين عن أن 20 بالمئة فقط من أعضائه البالغ عددهم نحو 700 عضو متفائلون بشأن الاقتصاد البريطاني على مدى الأشهر الأثني عشر المقبلة مقارنة مع 57 بالمئة متشائمون جدا أو إلى حد كبير.
وأظهر المسح الذي أجري بعد الانتخابات أن صافي الثقة في الاقتصاد البريطاني نزل 34 نقطة في المنطقة السلبية مقارنة مع المسح السابق في مايو أيار، حيث بلغ -37 في المسح الجديد مقارنة مع -3 الشهر الماضي، ويأتي تدهور الثقة بعد انخفاض قصير الأمد أعقب التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في استفتاء العام الماضي، ويتزامن مع تباطؤ الاقتصاد بشكل عام مع ارتفاع التضخم.
تباطؤ اقتصادي بعد الانتخابات وقبل بريكست
حافظ الاقتصاد البريطاني على متانته منذ اختيار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي ويبدو أن رئيسة الوزراء تيريزا ماي اختارت الوقت المناسب لتنظيم انتخابات تشريعية مع توقع تباطؤ الاقتصاد خلال العامين القادمين، وخلافا للتوقعات التي رأت قبل سنة أن الاقتصاد البريطاني سيعاني من ضعف حاد بعد اختيار بريكست، بلغ نمو الناتج الداخلي 1,8% في 2016 وارتفع الاستهلاك، وانخفضت البطالة إلى أدنى مستوى منذ 1975، وسجلت بورصة لندن مستويات تاريخية، وهكذا شكلت متانة ثالث اقتصاد أوروبي حجة قوية لدى المحافظين الراغبين بتقوية مواقعهم في السلطة، ولكن منذ بضعة أشهر، بدأت تظهر مؤشرات على أن ماكينة الاقتصاد تعاني من خلل مع تسجيل بداية تراجع القدرة الشرائية للأسر يتوقع أن تتفاقم.
وخسر الجنيه الاستراليني 14% من قيمته أمام اليورو منذ الاستفتاء ولا تتوقع شركات صرف العملة تحسن الوضع مع تطبيق بريكست. ومع أن تراجع سعر صرف الجنيه يشجع الصادرات، فإنه يرفع من جهة ثانية أسعار البضائع المستوردة بنا فيها المواد الغذائية، والتضخم الذي كان قريبا من الصفر في 2015 ارتفع خلال الأشهر الماضية ليصل إلى 2,7% في نيسان/ابريل. ويتوقع أن يصل وحتى أن يتجاوز عتبة 3% بنهاية 2017 ويسري ذلك على المنتجات الأساسية وكذلك الملابس والأغذية، وبما أن زيادة الأجور التي تفوق حالياً 2% بقليل ليست بمستوى التضخم، يتوقع تراجع القدرة الشرائية للأسر وهذا بدوره يؤثر على الاستهلاك الذي يعد المحرك الرئيسي للنشاط الاقتصادي.
في حين أصبح سوق العقارات يرسل إشارات تباطؤ بعد أن شهد انتعاشا خلال السنوات الماضية وهو ما يمكن أن يؤثر على ميل المالكين إلى الانفاق، ويتوقع كذلك أن تحجم الشركات وهي مساهم مهم في النمو عن الاستثمار بانتظار نتيجة مفاوضات بروكسل المفتوحة على كل التوقعات بين لندن وبروكسل. وعلى الرغم من المخاوف، لم تقلص الشركات في المملكة المتحدة نشاطاتها منذ الاستفتاء ولكنها في حالة "ترقب" حذرة بانتظار جلاء الوضع، وبالنهاية يتوقع أن يتباطأ النمو إلى 1,7% هذه السنة وإلى 1,4% السنة المقبلة وفق توقعات اقتصاديين مستقلين جمعتها وزارة الخزانة، وتكرر أوساط الأعمال القلقة من الخروج من السوق الأوروبية في إطار بريكست توجيه تحذيرات إلى المحافظين بزعامة تيريزا ماي والمعارضة العمالية بزعامة جريمي كوربن.
ماي ترفض استبعاد زيادة الضرائب بعد الانتخابات
رفضت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي استبعاد زيادة الضرائب الشخصية في حالة فوزها في الانتخابات التي ستجري في الثامن من يونيو حزيران بعد أن ذكر فيليب هاموند وزير ماليتها إن التعهدات المالية حدت من قدرته على إدارة الاقتصاد، واضطرت ماي وهاموند في وقت سابق هذا العام إلى إلغاء زيادة مزمعة في ضريبة توظيف بعد أيام فقط من إعلانها في أعقاب انتقادات بأن هذا الإجراء يمثل خرقا لتعهدات الحزب في انتخابات 2015، وأثار قرار ماي المفاجئ الدعوة لانتخابات في الثامن من يونيو حزيران تكهنات بأن برنامج حزب المحافظين بزعامتها سيتخلى عن التزامات بعدم زيادة معدل ضريبة القيمة المضافة أو ضريبة الدخل أو ضريبة التأمين على الدخل العام من أجل المساعدة في تقليص عجز الميزانية.
ورفضت ماي خلال وجودها في أحد مؤتمرات الحملة الانتخابية في وسط انجلترا أن تحدد ما إذا كان من الممكن أن تستبعد زيادة الضرائب عندما سألها صحفيون عن هذه المسألة ثلاث مرات، وأثار هاموند قضية زيادة الضرائب عندما ذكر خلال زيارة لواشنطن إنه يريد أن يكون الاقتصاد البريطاني "خاضعا للضرائب بشكل معقول" ولا يواجه عجزا في الميزانية، وأنه من الواضح أن الالتزامات التي أُعلنت في برنامج 2015 قلصت وتقلص اليوم قدرة الحكومة على إدارة الاقتصاد بمرونة."
بنك إنجلترا يؤكد على ضرورو وضع خطط بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي
حث بنك إنجلترا المؤسسات المالية الكبرى في بريطانيا على وضع خططها "لكل الاحتمالات" الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصرح محافظ البنك، مارك كارني، إن الغالبية العظمى من شركات لندن المالية، وضعت بالفعل خططا طارئة قيد التنفيذ، ومع ذلك، أضاف كارني بأن بعض المؤسسات المالية، لا تزال في حاجة إلى الاستعداد في حال ظهور نتائج "أكثر تأزما"، كما حث المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، على الاعتراف بقوانين بنوكهما بعد إتمام عملية الخروج، كما أن نتائج مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يمكن أن تكون مؤثرة تأثيرا كبيرا في تحديد المسار الذي يسلكه النظام المالي العالمي.
وقد أرسل البنك المركزي البريطاني خطابات إلى جميع البنوك وشركات التأمين وغيرها من المؤسسات المالية التي تعمل في الاتحاد الأوروبي ولها أفرع في المملكة المتحدة لوضع خطط لها، ومنح البنك الشركات مهلة ثلاثة أشهر تنتهي في 14 يوليو/ تموز لتقديم خطط الطوارئ التي أعدتها، وبين البنك إن بعض الشركات ربما ليست مستعدة لـ أسوأ النتائج المحتملة"، وأن هذا قد يحدث إذا ألغيت اتفاقية التجارة أو الترتيبات المؤقتة عند خروج بريطانيا من الاتحاد، وتقدم كثير من البنوك الأمريكية والأوروبية الموجودة في لندن خدماتها في أنحاء دول الاتحاد الأوروبي من خلال عملية تعرف باسم "باسبورتنغ"، وحذر كارني من سلك بعض الدول "الطريق البطيء" وعدم التعاون مع هيئات الرقابة الأخرى، وإن هذا قد يؤدي إلى تقليص الوظائف وخفض النمو وزيادة المخاطر الداخلية، وأضاف أن "الطريق السريع في محادثات الخروج من الاتحاد الأوروبي يمكن قطعه بسهولة ومرغوب فيه للغاية"، ومع ذلك، أكد كارني أنه لا يدعو إلى التوصل لاتفاق خاص بشأن الخدمات المالية.
توقعات بخسارة أربعة الاف وظيفة في بنك دويتشه بسبب بريكست
ذكرت مسؤولة في بنك دويتشه الالماني أن البنك قد ينقل ما يصل إلى أربعة آلاف من موظفيه من بريطانيا فيما يسعى البنك الاكبر في المانيا الى التعامل مع تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي (بريكست)، وصرحت سيلفي ماثيرات رئيسة اللوائح التنظيمية في البنك في مؤتمر للشؤون المصرفية في فرانكفورت "من المفترض أن يكون مقر الموظفين العاملين في المكاتب الأمامية من الذين يتعاملون مع عملاء من الاتحاد الاوروبي، في دولة من دول الاتحاد الاوروبي"، وقد يستدعي ذلك نقل نحو الفين من موظفي البنك في بريطانيا الى خارجها، وقد يضطر البنك بسبب البريكست كذلك أن ينقل قدراته في تكنولوجيا المعلومات إلى مقره في مدينة فرانكفورت، المركز المالي في المانيا.
وأن البنوك والمؤسسات المالية التي تتخذ من بريطانيا مقراً لها مهددة بخسارة حقوق بيع المنتجات المالية إلى عملاء في القارة الأوروبية فور خروج لندن من الاتحاد.
من جهة أخرى أعلن رئيس مجموعة اليورو يروين ديسلبلوم أن لندن قد تفقد مكانتها القيادية كمركز مالي في أوروبا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وذكر وزير المال الهولندي ديسلبلوم الذي يرأس اجتماعات مسؤولين ماليين في منطقة اليورو التي تضم 19 دولة في برلين "إن الأمر سيكون معقدا للغاية للسماح لحي المال بان يبقى مركز خدمات لأوروبا في حال حصول اختلاف في المعايير التنظيمية مع مرور الوقت"، ومن المقرر أن تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي عام 2019 بعد أن اختار الناخبون الخروج في استفتاء في حزيران/يونيو الماضي، الأمر الذي دفع الحكومة إلى بدء مفاوضات الخروج التي تستمر عامين، ومن المرجح أن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى فقدان بنوك لندن الحقوق التي تسمح لها ببيع خدمات مالية بلا عوائق عبر الدول الأعضاء الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يثير مخاوف بشأن الأعمال التجارية البريطانية وقدرة شركات الاتحاد الأوروبي على الحصول على تمويل.
التضخم البريطاني يقفز إلى 2.3% متجاوزا هدف المركزي
في ظل ذلك ارتفع معدل التضخم البريطاني ليتجاوز المستوى الذي يستهدفه بنك انجلترا المركزي البالغ اثنين بالمئة للمرة الأولى منذ نهاية 2013 ويتجه على ما يبدو لمواصلة الارتفاع بسبب تأثير التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي على الجنيه الاسترليني وارتفاع أسعار النفط العالمية، وذكر مكتب الإحصاءات الوطنية إن أسعار المستهلكين قفزت بنسبة أكبر من المتوقع بلغت 2.3 بالمئة على أساس سنوي لتسجل أكبر زيادة منذ سبتمبر أيلول 2013 وارتفاعا من 1.8 بالمئة في يناير كانون الثاني، وكان خبراء اقتصاديون توقعوا زيادة نسبتها 2.1 بالمئة. وتمثل القفزة بين يناير كانون الثاني وفبراير شباط الأكبر من نوعها منذ أكتوبر تشرين الأول 2012.
وأدى تصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء يونيو حزيران الماضي إلى هبوط الاسترليني وارتفاع أسعار السلع المستوردة. علاوة على ذلك ارتفعت أسعار النفط العالمية فضلا عن الضغوط التي تعرضت لها القدرة الشرائية للمستهلكين، وكان بنك انجلترا ذكر إنه يتوقع أن يتسارع التضخم إلى 2.8 بالمئة في الربع الثاني من العام المقبل لكن كثيرا من خبراء الاقتصاد يقولون إن من المرجح أن يصل إلى ثلاثة بالمئة، وذكر مكتب الإحصاءات الوطنية أن تكاليف النقل، التي زادت بفعل ارتفاع تكاليف الوقود، هي أكبر العوامل المحركة للتضخم في فبراير شباط، ومع استبعاد أسعار النفط وغيره من المكونات المتقلبة مثل الأغذية زاد التضخم الأساسي لأسعار المستهلكين إلى اثنين بالمئة ليفوق توقعات الخبراء الاقتصاديين التي أشارت إلى زيادة نسبتها 1.8 بالمئة، وأضاف مكتب الإحصاءات أن مقياسا لأسعار المستهلكين يستبعد تكاليف الإسكان ارتفع 2.3 بالمئة ليسجل أيضا أعلى مستوياته منذ سبتمبر أيلول 2013.
ماذا بعد البريكست
بعد البدء بالمحادثات الخاصة بالانفصال فأنه يتوقع ستكون له تداعيات سلبية على البريطانيين، سواء المقيمون منهم في بلادهم أو في دول أوروبية، وسيشمل ذلك مجالات من بينها حرية التنقل والقدرة الشرائية والوظائف، فالنسبة للبريطانيين الذين يعيشون داخل المملكة المتحدة، سيواجهون مشكلة في التنقل داخل باقي دول الاتحاد الأوروبي، وحتى الآن يستطيع البريطاني ببطاقة هويته وحدها التحرك داخل فضاء شنغن (حتى إن لم تكن بريطانيا عضوا فيه)، وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون البريطانيون ملزمين بالحصول على تأشيرة دخول لزيارة دول الاتحاد السبع والعشرين الأخرى.
كما أن الأسر البريطانية ستضطر لإنفاق أموال أكثر من السابق لقضاء إجازاتها في أوروبا بسبب تدهور قيمة الجنيه الإسترليني الذي تراجع أمام اليورو، وهبط مباشرة بعد صدور نتيجة الاستفتاء بحوالي 10%، وكذلك لأنها ستفقد امتيازات السفر عبر شركات الطيران المنخفض الكلفة, وكل ذلك سيقلص من القدرة الشرائية لتلك الأسر، وقد يؤثر الخروج من الاتحاد الأوروبي سلبا على الكثير من وظائف البريطانيين، خاصة في البنوك الكبرى، بالإضافة إلى الموظفين في مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وسبق أن أعلن بنك "جي بي مورغان" الأميركي نيته إلغاء ما يصل إلى أربعة آلاف وظيفة في بريطانيا، في حين يعتزم بنك "مورغان ستانلي" نقل ألف -من مجموع ستة آلاف وظيفة لديه في بريطانيا- إلى الاتحاد الأوروبي، كما ينوي بنك "غولدمان ساكس" نقل 1600 وظيفة على الأقل.