الاقتصاد البريطاني: بين التقشف والانفصال
إيهاب علي النواب
2017-03-12 06:00
بلهجة يغلب عليها التهديد، حذر وزير المالية البريطاني فيليب هاموند الاتحاد الأوروبي بتغيير نموذج بلاده المالي والاقتصادي، في حال منعت المملكة المتحدة من دخول السوق الأوروبية الموحدة، ومنع وضع ضوابط للهجرة، خلال المحادثات الخاصة بالبريكسيت، في الوقت نفسه عرض هاموند ميزانية يتوقع أن تعكس رغم اقتصاد نشط تقشفا كبيرا يهدف إلى تشكيل احتياطات تحسبا لعملية الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتكشف الميزانية قبل أيام من تفعيل المادة 50 الذي وعدت الحكومة البريطانية به ، للشروع في مفاوضات تستغرق سنتين بين لندن وبروكسل لترتيب الخروج من الاتحاد الأوروبي، ويأتي ذلك في وقت تسجل بريطانيا منذ الاستفتاء وضعا اقتصاديا مؤاتيا، في ظل نشاط لم يشهد التباطؤ الذي تكهنت به السيناريوهات الكارثية التي انتشرت مع تنظيم الاستفتاء.
وبالتالي، فإن الانظار لن تسلط على الميزانية نفسها بقدر ما ستسلط على توقعات النمو التي تستند إليها، بعدما يصححها "مكتب المسؤولية عن الميزانية"، المعهد الرسمي شبه المستقل، وكان المكتب أثار صدمة بين المشككين في جدوى الاتحاد الأوروبي حين خفض بشكل صارم توقعاته لنمو إجمالي الناتج الداخلي إلى 1,4% للعام 2017،على ضوء عدد من العواقب السلبية المتوقعة لعملية بريكست، مثل ركود القدرة الشرائية وغموض مضر لاستثمارات الشركات، وقد يعمد المعهد هذه المرة إلى رفع هذه التوقعات، مستفيدا من متانة استهلاك الاسر خلال الأشهر الأخيرة بالرغم من زيادة في التضخم ناجمة بصورة غير مباشرة عن تراجع الجنيه الإسترليني منذ الاستفتاء.
وقامت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية كغيرها من الهيئات التي تصدر توقعات اقتصادية، الثلاثاء برفع توقعاتها لنمو الاقتصاد البريطاني إلى 1,6% للعام 2017، بعدما كانت تقدر النمو بـ1,2%، ومن المتوقع أن تشدد الحكومة البريطانية على هذه الأخبار السارة، ولكن بدون أن تستسلم للتفاؤل أو تعمد إلى إنفاق مسرف.
لاغارد تحذر بريطانيا قبل بدء إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي
حذرت كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، بريطانيا من أنها قد تواجه تحديات مع استعداد رئيسة الوزراء تريزا ماي لبدء إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأوضحت أن أي اتفاق مع الاتحاد الأوروبي لن يكون جيدا بقدر البقاء في عضويته، وأضافت لاغارد، في لقاء على هامش منتدى دافوس الاقتصادي، "عندما تنتمي إلى ناد، أيا كان اسمه، فإن أعضاء النادي يحتفظون بدرجة من التقارب وميزات خاصة يعملون من خلالها"، لكن الوضع يختلف "مع من هم خارج النادي".
وسألتها عن رأيها في تأكيد رئيس وزراء مالطا جوزيف موسكات على أن أي اتفاق مستقبلي بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي "يتطلب بالضرورة أن يكون أدنى من مستوى العضوية"، وأجابت لاغارد "اذا كان البقاء جزءا من النادي يحسن ويزيد من فاعلية عضويتك فإن (ترك النادي) لن يكون أمرا جيدا، نعم هذا صحيح"، ورحبت مدير صندوق النقد الدولي بخطاب رئيسة الوزراء البريطانية. وأفادت "عندما يكون هناك قدر أكبر من الوضوح وشكوك أقل يكون ذلك جيدا لاقتصاد بريطانيا وبقية الاتحاد الأوروبي".
لكنها حذرت من أنه لا تزال العديد من الأسئلة يجب الإجابة عليها، ومن بينها "الشروط التي سيجري بمقتضاها التوصل للاتفاق، والفترة التي سيستغرقها الأمر، هذا يمثل علامة استفهام".
وأشارت إلى "طبيعة المرحلة الانتقالية التي ستجري خلالها العملية، تمثل أيضا علامة استفهام".
موضحة "أنه عندما نحصل على إيضاحات جيدة لهذه الأسئلة سنتمكن حينها من فهم كيف سينجح الاقتصاد البريطاني". وتابعت "ما زلنا نرى أن الأمر لن يكون إيجابيا ولن يدوم بدون ألم".
وقبل نتيجة الاستفتاء الذي أجرته بريطانيا على الخروج من الاتحاد، قالت مديرة النقد الدولي إن الموافقة على مغادرة الاتحاد الأوروبي لها عواقب تتراوح ما بين "السيئة والسيئة جدا جدا".
لكن أداء الاقتصاد البريطاني كان قويا، واعترف صندوق النقد الدولي أنه كان متشائما بشكل مبالغ فيه، وقرر الصندوق هذا الأسبوع رفع توقعاته للنمو في بريطانيا لعام 2017، وسألتُ لاغارد إذا كان تحليلها خاطئ فيما يتعلق بوضع بريطانيا بعد التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وردت " قرار بنك انجلترا بخفض أسعار الفائدة بعد الاستفتاء دعم الاقتصاد، كما أن ثقة المستثمرين في بريطانيا مازالت أكبر بكثير مما توقعنا". لكنها حذرت من المخاطر لا تزال موجودة، وأضافت: "عندما تنتهي حالة عدم اليقين وشعور الناس بعدم قدرتهم على إنشاء متجر في بريطانيا وتشغيله في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي سيتغير موقفهم"، وأنهت حوارها بالتأكد على أنه "في الوقت الذي رفعنا فيه توقعاتنا للاقتصاد البريطاني في 2017 فإننا قد نخفضها في عام 2018".
نقص في العمالة مع تدني عدد الاوروبيين في البلاد
تعاني الشركات البريطانية صعوبة في ملء الوظائف الشاغرة بسبب التدني في اعداد المواطنين الاوروبيين الراغبين بالمجيء الى المملكة المتحدة، بعد تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الاوروبي، وأظهرت الدراسة التي قام بها معهد "تشارترد للأفراد والتنمية" ان النمو في عدد الاوروبيين في سوق العمل انخفض الى ثلاثين الف عامل فقط، اي النصف، في الربع الاخير من عام 2016.
وبحسب البيانات الاخيرة، يوجد حوالى 2,26 مليون مواطن اوروبي يعملون حاليا في بريطانيا، ويذكر المعهد في التقرير حول النظرة المستقبلية لسوق العمل ان "بيانات الدراسة تدل على ان الانخفاض في الموارد البشرية الاوروبية قد يزيد من صعوبات التوظيف هذا العام".
ويبقى معدل الوظائف الشاغرة في الاقتصاد البريطاني فوق متوسط المعدلات التاريخية، لكن التقرير يؤكد ان النقص في الوافدين الاوروبيين قد يؤثر بقوة على قطاعات محددة، وتشمل هذه القطاعات تلك التي تحتاج الى عمالة في قطاع البيع بالتجزئة والجملة وفي الفنادق والمطاعم ومؤسسات الصحة والخدمات الاجتماعية التي توظف الكثير من العمال الاوروبيين.
وسبق ان اعلنت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي التي من المتوقع ان تبدأ اجراءات الطلاق مع الاتحاد الاوربي ، انها تريد ان تضمن حقوق المواطنين الاوروبيين الذين يعيشون حاليا في بريطانيا، لكن الشكوك حول ما قد يستتبع ذلك او ان يتم فرض قيود على التأشيرات امور تدفع المواطنين الاوروبيين في بريطانيا الى التفكير بالرحيل والبحث عن وجهة اخرى.
وبين واحد تقريبا من كل ثلاثة ارباب عمل بريطانيين شملتهم الدراسة انهم يملكون ادلة على ان الاوروبيين الذين يعملون لديهم اما بحثوا امر ترك المؤسسات التي يعملون فيها و/او الرحيل عن بريطانيا في عام 2017، وكان موضوع الهجرة محور الحملات قبل استفتاء بريكست العام الماضي الذي شهد تصويت 52 بالمئة من البريطانيين لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي.
الخدمة الصحية الوطنية في بريطانيا "على شفير الانهيار"
يتكلم الصليب الأحمر عن "أزمة إنسانية" ويندد الأطباء بظروف شبيهة بتلك السائدة في "دول العالم الثالث"، فنظام الصحة العام الذي يتفاخر به البريطانيون منذ العام 1948، يواجه هذا الشتاء أزمة لم يسبق لها مثيل بدأت تنعكس تداعياتها على حكومة تيريزا ماي.
ونشرت صورة على الصفحة الأولى لصحيفة "ديلي ميرور" تم تداولها على نطاق واسع على الانترنت، تظهر الطفل جاك، ابن الاثنين وعشرين شهرا، لا يرتدي سوى حفاضة وينام على كرسيين بلاستيكيين متلاصقين عليهما بطانية حمراء بسبب نقص الأسرة في المستشفى. وبالرغم من الاشتباه بإصابته بالالتهاب السحائي، انتظر جاك خمس ساعات في قسم الطوارئ قبل أن يعاينه الطبيب.
وكما هي الحال في كل فصل شتاء، باتت الخدمة الصحية الوطنية (ان اتش اس) "على شفير الانهيار"، بحسب الأطباء ومؤسسات الاستشفاء، وهذا النظام الذي يوفر رعاية صحية مجانية هو خامس اكبر مؤسسة في العالم من حيث عدد الموظفين، مع 1,5 مليون شخص يعملون في أقسامه، وتشكل هذه الخدمة رهانا سياسيا حاسما في الانتخابات. فمؤيدو انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جعلوا منها محورا رئيسيا في حملتهم، متعهدين بتمويل ميزانيتها من الأموال التي كانت تخصص لبروكسل، استنادا إلى أرقام تم التلاعب بها لجذب الانتباه، لكن الخدمة الصحية الوطنية غارقة في أزمة لا مثيل لها ترزح تحت وطأة تقدم السكان في السن والنمو الديموغرافي والسياسات التقشفية.
فيكفي أن تواجه هذه المؤسسة مشكلة بسيطة، مثل انتشار وباء الإنفلونزا هذه السنة، لتتداعى أسسها. ومنذ الخريف، تطول مهل الانتظار في أقسام الطوارئ مع 23 % من المرضى اضطروا إلى الانتظار أكثر من أربع ساعات قبل أن يعاينهم الأطباء. وقد توفي مريضان على نقالة في أحد أروقة مستشفى وورستشير الملكي. والحاجة ماسة إلى أسرة وسيارات إسعاف وأطباء، أينما كان.
وبحسب منظمة التنمية والتعاون في الميدان الاقتصادي، خصصت بريطانيا 7,7 من إجمالي ناتجها المحلي للنفقات في مجال الصحة سنة 2015، في مقابل 8,6 % في فرنسا و9,4 % في ألمانيا، وأقرت تيريزا ماي "بالضغوطات الكبيرة الملقاة على عاتق الخدمة الصحية الوطنية"، لكنها أكدت أن الحكومة لم تستثمر "يوما" مبالغ كبيرة إلى هذا الحد في النظام الصحي مع تخصيص 10 مليارات جنيه إضافية لتغطية حاجاته لمدة ستة أعوام حتى العام 2020.
كما ذكر زعيم المعارضة العمالية جيريمي كوربن إن "رئيسة الوزراء تعيش في نكران"، وخلال مواجهة محتدمة حصلت بينهما في البرلمان، سأل كوربن ماي إن كانت تعتبر أن ما حصل للطفل جاك هو أمر مقبول، فأجابت ماي متطرقة إلى "حالة معزولة"، لكن روز والدة الطفل أكدت لصحيفة "ديلي ميرور"، "هي تمزح بالطبع. فأنا شهدت على عدد كبير من الحالات المعزولة حصلت في يوم واحد في مستشفى واحد".
هل ستتواصل سياسة التقشف؟
واجه وزير المالية السابق جورج أوزبورن انتقادات شديدة للتخفيضات الصارمة في النفقات العامة التي أقرها، غير ان العجز في الميزانية العامة تقلص بنسبة كبيرة منذ 2010. وفي مواجهة هذه المسألة، أكدت رئيسة الوزراء الجديدة تيريزا ماي ان حكومتها ستستمع أكثر إلى الشعب، ملمحة بذلك إلى احتمال ان تكون عملية الحد من النفقات أقل صرامة، واستبعد هاموند أي خطة تقشف إضافية في الوقت الحاضر، خلافا لما كان أوزبورن اعلنه قبل الاستفتاء في حال اختار البريطانيون الخروج، لكنه شدد على وجوب ان تستمر البلاد في تقليص العجز في ماليتها العامة.
وبعدما سجلت بريطانيا نسبة نمو ملفتة في السنوات الأخيرة، بالمقارنة مع باقي البلدان الأوروبية الكبرى، فإن هذا النمو قد يعاني من انعدام الاستقرار والتردد المرتبطين بالـ»بريكست» قبل ان تتبلور نتيجة المفاوضات الطويلة التي ستجري مع بروكسل والتي يتوقع ان تكون شاقة، ولدعم النشاط الاقتصادي، قال هاموند ان أولويته تقضي بإعادة الثقة إلى الشركات التي باتت تتردد على ما يبدو في الاستثمار واستحداث وظائف. والوسيلة الرئيسية لتحقيق هذا الهدف تقضي بتسريع مفاوضات الخروج.
لكن يظهر ان رئيسة الوزراء تود في الوقت الحاضر أخذ وقتها في هذا الصدد، وفي ما يتعلق بجوهر المفاوضات، فإن بريطانيا ستسعى للحصول على أفضل اتفاق ممكن، ولا سيما لقطاعها المالي القوي الذي يعتمد على الوصول إلى السوق الموحدة لبيع خدماته في الاتحاد الأوروبي، كما ستسعى لضمان الحفاظ على مكانتها كقطب للاستثمارات الدولية، وطرح أوزبورن قبل استقالة الحكومة فكرة تخفيض الضرائب على الشركات إلى ما دون عتبة 15 في المئة، مما أثار انتقادات حادة من المسؤولين الأوروبيين الذين اعتبروا ان ذلك سيكون بمثابة «إغراق مالي». ولم يؤكد هاموند في الوقت الحاضر ما اذا كان سيمضي في هذا الاجراء.