الاقتصاد واللعب بأعواد الثقاب
بروجيكت سنديكيت
2017-02-01 07:06
أشوكا مودي
برينستون ــ في هذا الوقت من العام الماضي، أصدر صندوق النقد الدولي تقريرا مخيبا للآمال مفاده أن نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي لم يتجاوز 3.1% في عام 2015، ولكن التقرير وعد بزيادة النمو في عامي 2016 و2017. بيد أن ذلك التوقع لم يكن واقعيا، كما شرحت في ذلك الوقت. ومن المؤكد أن التقديرات تشير إلى أن نمو الناتج المحلي الإجمالي لم يتجاوز 3.1% مرة أخرى في عام 2016، في حين تباطأ نمو التجارة العالمية بشكل كبير، من 2.7% إلى 1.9% فقط. وتصف هذه الأرقام اقتصادا عالميا مضطربا.
رغم هذا، يتوقع صندوق النقد الدولي مرة أخرى أن يتحسن نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بشكل كبير على مدار العامين المقبلين، وأن يتضاعَف نمو التجارة العالمية. يعزو صندوق النقد الدولي قسما كبيرا من التحسن المتوقع في الاقتصاد العالمي، وخاصة في عام 2017 إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي القوي في الولايات المتحدة. ويستند هذا التفاؤل بشأن الاقتصاد الأميركي إلى مؤشرات العمل وثقة المستهلك الإيجابية وارتفاع أسعار الأسهم، ترقبا للحوافز المالية وإزالة القيود التنظيمية.
بيد أن هذا الحماس يتجاهل إخلالا أعمق جاريا في الوقت الحاضر. ذلك أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب سوف تعيق النمو الاقتصادي عندما تبدأ إلغاء الاتفاقيات التجارية، وسوف يتلقى النمو ضربة أكثر عنفا عندما تبدأ الولايات المتحدة تدمير القواعد والمؤسسات التي تحكم الأسواق. والأمر الأشد سوءا هو أن ترامب يعتزم تغيير قواعد اللعبة في وقت حيث يعاني الاقتصاد العالمي من الهشاشة بالفعل، وتواجه الصين فقاعة متضخمة بشكل هائل في القطاع المالي، وتستسلم أوروبا للنعاس على عجلة قيادة قطار القطاع المصرفي المحطم في إيطاليا.
من المؤكد أن اتفاقيات التجارة الدولية، التي دعمتها المصالح القوية، أصبحت تطفلية على نحو متزايد. وكما أشار سيناتور فيرمونت والمرشح الديمقراطي في الانتخابات التمهيدية بيرني ساندرز عندما عارَض اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تضم 12 دولة، فإن مثل هذه الاتفاقيات تميل في الأساس إلى حماية مصالح الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات. ويشاركه الخبير الاقتصادي داني رودريك من جامعة هارفارد هذا الرأي، وكان شديد الانتقاد لبعض زملائه من خبراء الاقتصاد الذين أقروا "الدعاية" التي تطلق على مثل هذه الاتفاقيات وصف "اتفاقيات التجارة الحرة". ولا يستفيد من هذه الاتفاقيات سوى قِلة منتقاة، في حين تلحق الضرر بأقوات أناس ضعفاء اقتصاديا.
كما أعلنت منافِسة ترامب في الانتخابات الرئاسية هيلاري كلينتون معارضتها لاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وعلى هذا فإن قراره الأخير بالتخلي عن الاتفاقية كان حتميا من الناحية السياسية. ولكن حتى التغييرات المرغوبة تأتي مصحوبة بتكاليف انتقالية، وسوف تنمو هذه التكاليف مع إقدام الإدارة الجديدة بشكل خطير على تقويض مبادئ اقتصاد السوق الأساسية.
الواقع أن ترامب يلعب بالنار عندما يهدد بفرض رسوم جمركية على الواردات من أجل "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى". ذلك أن التعريفات الجمركية سوف تلحق الضرر على الفور بالمستهلكين الأميركيين، وقد تُفضي الردود الانتقامية من جانب الدول الأخرى إلى تقويض التجارة العالمية الواهنة بالفعل على نحو مُهلِك، فتخنق بالتالي مصدرا بالغ الأهمية للازدهار العالمي.
وربما تكون تكتيكات البلطجة التي يمارسها ترامب ضد الشركات الفردية أشد خطورة. فوفقا لصحيفة وال ستريت جورنال، أصبح ترامب "الشغل الشاغل" الرئيسي لشركات التصنيع الأميركية. تقول الصحيفة: "يحاول أعضاء مجالس الإدارات التعرف على من لديه أصدقاء في الإدارة الجديدة، وبدأت الشركات تعمل على تكوين فرق عمل لرصد حسابه على موقع تويتر". والواقع أن احتمال "وقوع الشركات فجأة في صراع مع قوة جديدة لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها" لابد أن يجبر أي شخص ينتظر فجرا جديدا من إزالة القيود التنظيمية على التفكير مرة أخرى. ذلك أن مثل هذا التدخل النشط في عمليات الشركات هو أصل كل القيود التنظيمية.
في مقال رائع، يزعم أستاذ القانون كاس سنشتاين من جامعة هارفارد أن تدخل ترامب الذي لا يمكن التنبؤ به في شؤون الشركات من شأنه أن يقوض اقتصاد السوق ذاته. فعن طريق الاختيار التعسفي لشركات بعينها لتنفيذ "أوامره"، سوف يدمر مبادئ السوق الأساسية من الشفافية والنزاهة. ويضيف سنشتاين: "في عالَم يتسم بالصفقات الرئاسية، سوف تنشأ لدى الشركات حوافز مروعة ــ كسب ود الرئاسة بطرق لا حصر لها، والعمل على نحو استراتيجي، وتوزيع الوعود والتهديدات".
ولكن على الرغم من كل هذا، ربما يستمر سراب الثقة الاقتصادية، لأن الوهم قد يؤدي إلى إدامة وهم آخر، كما لاحظ مؤخرا الخبير الاقتصادي روبرت شيللر الحائز على جائزة نوبل. ولكن السِحر سوف ينكسر في نهاية المطاف.
وقد بدأت الأسواق المالية بالفعل تعكس اعتقادا مفاده أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي غَيَّر بالكاد توقعاته الاقتصادية، سوف يستغرق وقتا أطول مما كان متوقعا من قبل لرفع أسعار الفائدة، لأن النمو الاقتصادي سيكون أضعف مما كان متوقعا. وسوف تُفضي تدابير الحماية التي سيتخذها ترامب إلى إضعاف التجارة العالمية، وزيادة التضخم المحلي، وتعزيز قيمة الدولار، والتسبب في معاناة صناعات التصدير الأميركية. في نهاية المطاف، وعلى نطاق أوسع، سوف تتسبب سياسات ترامب الاعتباطية في تآكل المؤسسات الدولية والقواعد التي يقوم عليها الاقتصاد الأميركي والاقتصادات العالمية، وهو ما من شأنه أن يُحدِث أضرارا هائلة طويلة الأمد.
تأتي هذه المخاطر في وقت حيث تتصدع نماذج النمو الصينية والأوروبية. وقد سمحت الصين للفقاعة العقارية التي تغذت على الائتمان بالاستمرار، الأمر الذي جعلها عُرضة لهروب رؤوس الأموال على نحو متزايد. وفي أوروبا، تتزايد حدة المأساة الاقتصادية والاجتماعية في اليونان، وإن كانت لم تعد تجتذب الاهتمام العالمي.
غير أن الصدع العالمي الحقيقي يتجسد في الاقتصاد الإيطالي، الذي لم يسجل أي نمو على مدار جيل كامل تقريبا. والآن، تناضل الحكومة الإيطالية التي تعاني من ضائقة مالية شديدة في محاولة لدعم البنوك المعسرة في حين تواجه تمردا سياسيا شعبويا. وعند هذه النقطة، ربما يتسبب عود ثِقاب يشغله شخص ما بلا مبالاة ــ سواء في روما أو أي مكان آخر في أوروبا أو في واشنطن ــ في إشعال حريق عالمي هائل.