مخاطر الوسطية الاقتصادية في عالَـم مُـسـتَـقـطَب
بروجيكت سنديكيت
2025-10-28 03:58
بقلم: كينيث روغوف
كامبريدج ــ ليس من السهل أن يكون المرء اقتصاديا وسطيا في عالم اليوم الـمُـسـتَـقطَب الذي تحركه وسائط التواصل الاجتماعي، حيث تُـفرض كل فكرة بسرعة على هذا المعسكر الأيديولوجي أو ذاك بالقوة. في إعادة صياغة ملاحظة تُنسب غالبا إلى ليون تروتسكي، أقول: "قد لا يكون الاقتصاديون الوسطيون مهتمين بالحرب، لكن الحرب مهتمة بهم".
استشهد هنا بكتابي الصادر عام 2016 بعنوان "لعنة النقود"، الذي استكشف ماضي النقود وحاضرها ومستقبلها. بعد نشره، تلقيت أكثر من عشرين تهديدا بالقتل، بعضها من الواضح أنه كان من تجار المخدرات ومالكي الأسلحة الغاضبين من دعوتي إلى التخلص التدريجي من العُـملة الورقية من فئة 100 دولار، وبعضها الآخر كان من المبشرين بالعملات الرقمية الذين اعتبروا دعمي للتنظيم عملا من أعمال الخيانة.
الغريب أنني لم أهتم بالتهديدات بقدر ما قد يتوقع المرء. فبقدر ما كان بعض هؤلاء الأشخاص مختلين، فإنهم على الأقل فهموا الحجج التي أوردتها في الكتاب؛ وإن كانوا اختلفوا معها بشدة.
من غير الممكن أن يُـقال الشيء ذاته عن الضجة التي أثيرت عام 2013 حول عملي مع كارمن م. رينهارت. بدأت تلك الواقعة عندما زعم ثلاثة من الاقتصاديين في جامعة ماساتشوستس أمهرست أن بحثنا المكون من ست صفحات والذي استُـعرِض في أحد المؤتمرات في عام 2010 بعنوان "النمو في زمن الديون" احتوى على "أخطاء" متعددة تسببت كما افترضوا في تضليل صُـنّـاع السياسات في أوروبا والولايات المتحدة وحملهم على تبني تدابير تقشفية ضارة في أعقاب الأزمة المالية العالمية. وأفضى التجريح المهين الذي أعقب ذلك إلى تعزيز رواية كاذبة لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
في الواقع، احتوت ورقتنا البحثية على خطأ واحد فقط. ومن المهم للغاية أن ذلك الخطأ لم يظهر في النسخة الكاملة المحررة المنشورة في عام 2012، والتي استندت إلى مجموعة بيانات أكبر وأكثر اكتمالا. وكما لاحظ مايكل جيه. بوسكين من جامعة ستانفورد في ذلك الوقت، فإنه ليس من غير المعتاد أن يخضع بحث أولي لتصحيحات أثناء عملية المراجعة.
توصلت كل من النسختين من الورقة البحثية إلى النتيجة العامة ذاتها: في مختلف الاقتصادات المتقدمة، تميل فترات من الدين العام الشديدة الارتفاع إلى التزامن مع تباطؤ النمو الاقتصادي. بطبيعة الحال، لا تعني هذه النتيجة أن إدارة العجز تضر بالنمو في الأمد القريب أكثر مما قد يجعلك الاقتراض لشراء شيء تستمتع به تعيسا. إنها تعني ببساطة أن عبء الدين في الأمد البعيد من الممكن أن يؤثر سلبا على الرخاء في المستقبل.
قَسَّم تحليلنا البلدان إلى مجموعتين: تلك التي تزيد مستويات ديونها عن 90% من الناتج المحلي الإجمالي وتلك التي تقل ديونها عن ذلك. لكن المستوى 90% لم يكن قَـط "عتبة" ينهار عندها النمو فجأة؛ بل كان مجرد تقسيم لتوضيح حقيقة مفادها أن البلدان حيث الديون مرتفعة كان أداؤها كمجموعة ضعيفا في المتوسط. وكما أوضحنا مرارا وتكرارا، فإن وصول الدين إلى 90% من الناتج المحلي الإجمالي لا يعني انهيار النمو بدرجة أكبر مما قد يشهده الأشخاص الذين يقودون سياراتهم بسرعة أعلى قليلا من حد السرعة الأقصى، أو الذين تزيد مستويات الكوليسترول لديهم عن المعدل الموصى به قليلا، من قفزة مفاجئة في المخاطر.
ينطوي الأمر على أسباب نظرية قوية وراء تسبب الدين المرتفع في إعاقة النمو. فقد يزاحم الاقتراض الحكومي المفرط الاستثمار الخاص، في حين أن الضرائب المطلوبة لخدمة هذا الدين تكون مشوهة غالبا. وعندما تكون الديون مرتفعة بالفعل، يُـصـبِح الحيز المالي المتاح للحكومات للاستجابة للأزمات أو الاستثمار في البنية الأساسية أقل كثيرا.
بمجرد أن هدأ الجدال وبدأ الباحثون في فحص بياناتنا، إلى جانب مجموعات البيانات الأحدث، دعمت الأدلة التي ظهرت استنتاجاتنا الأصلية إلى حد كبير. من الجدير بالذكر أننا لم ندّعِ قَـط وجود علاقة سببية، وإن كانت هذه المسألة أيضا من المرجح أن تُـحَـلّ مع استمرار تطور الأدبيات في هذا المجال.
كان التحريف الأكثر خبثا هو الادعاء بأننا دعونا بطريقة ما إلى التقشف، في حين لم يظهر هذا المفهوم أو الكلمة في أي مكان في عملنا. في الحقيقة، كانت جريمتنا الحقيقية هي الإشارة إلى احتمال حدوث مفاضلة بين الدين والنمو. وفي حين أن تحفيز الاقتصاد أثناء فترة انكماش أمر مهم، فإن حجم التحفيز يجب أن يكون محسوبا، خاصة إذا أدى إلى ارتفاع كبير في الديون.
في الواقع، أظهر كتابنا الصادر في عام 2009 " هذا المرة مختلفة" (الذي كتبناه قبل أن نتناول في وقت لاحق مسألة الديون والنمو) أن الأزمات المالية تستلزم دائما زيادة حادة في الديون الحكومية ــ وهي نتيجة استخدمها كثيرون من صناع السياسات الاقتصادية في الدفاع عن زيادة التحفيز في أعقاب أزمة عام 2008. لقد زعمنا أن الحكومات التي تواجه أزمات الديون تلجأ غالبا إلى حلول غير تقليدية بدلا من الاعتماد فقط على التدابير النقدية والمالية التقليدية. دعوت أيضا إلى الإعفاء الجزئي من الديون (مقابل الحصول على أسهم) لصالح المقترضين من الرهن العقاري الثانوي في الولايات المتحدة واقتصادات جنوب أوروبا المثقلة بالديون.
في المراحل المبكرة من أزمة عام 2008، اقترحتُ حتى أن تخفف البنوك المركزية مؤقتا من أهداف التضخم كوسيلة أقل إيلاما لتحرير اقتصاداتها من الاستدانة المفرطة كنسبة من رأس المال ــ وهي الفكرة التي اعتُبِـرَت تجديفا في ذلك الوقت لكنها اكتسبت زخما منذ ذلك الحين. هل ترقى هذه الأفكار والمقترحات إلى مستوى الترويج للتقشف، أو أنها تعترف بقائمة أكثر ثراء من خيارات السياسة العامة مقارنة بالكينزية الفجة التي هيمنت على قسم أكبر مما ينبغي من المناقشة، حتى إلى يومنا هذا؟
ربما تكون هذه المرة مختلفة. فبعد أن اعتدْتُ على التحريف والمغالطة كثمن لاتخاذ مواقف وسطية في عصر ثقافة إلغاء الآخر، كان استقبال كتابي الأخير "دولارنا، مشكلتكم" مفاجأة سارة. فقد تعامل المراجعون والمحاورون والمعلقون من مختلف الأطياف الأيديولوجية مع الكتاب بجدية، مقدرين تحليله لمواطن القوة ومواطن الضعف في نظامنا المالي العالمي القائم على الدولار.
من اللافت للنظر أن هذا الانفتاح الذهني امتد حتى إلى بعض المنتقدين من معسكر التقشف. وهذا ما يجعلني أعتقد أن الأمل في إجراء مناقشات أكثر عقلانية في المستقبل ربما لا يزال باقيا ــ وإن كنت لا أحبس أنفاسي انتظارا لذلك.