كيف تهزم المعصية بخمس كلمات؟

صباح الصافي

2025-11-19 04:12

مشهدٌ نادر يقف فيه رجلٌ محطم أمام سيِّد شباب أهل الجنَّة (عليه السلام)، معترفًا بضعفه، مستسلمًا لعجزه عن مقاومة الذَّنب، باحثًا عن كلمةٍ تنتشله من سقوطه، فيقول بصدقٍ موجع: "أَنَا رَجُلٌ عَاصٍ، وَلَا أَصْبِرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ؛ فَعِظْنِي بِمَوْعِظَةٍ!".

 فيردّ الإمام الحسين (عليه السلام) بكلماتٍ ليست كأي موعظة؛ كلمات تُفتح بها أبواب البصيرة، فيقول له بصوتٍ يوقظ القلب: "افْعَلْ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ؛ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ!

فَأَوَّلُ ذَلِكَ: لَا تَأْكُلْ رِزْقَ اللَهِ؛ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ!

وَالثَّانِي: اخْرُجْ مِنْ وِلَايَةِ اللَهِ؛ وَأَذْنِبْ مَاشِئْتَ!

وَالثَّالِثُ: اطْلُبْ مَوْضِعاً لَا يَرَاكَ اللهُ؛ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ!

وَالرَّابِعُ: إذَا جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَكَ فَادْفَعْهُ عَنْ نَفْسِكَ؛ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ!

وَالْخَامِسُ: إِذَا أَدْخَلَكَ مَالِكٌ في النَّارِ فَلَا تَدْخُلْ في النَّارِ، وَأَذْنِبْ مَاشِئْتَ!" (بحار الأنوار: ج ٧٥، ص ١٢٦).

 لا تُشبه أيَّ موعظة مألوفة؛ خمس جُمل فقط؛ لكنَّها كانت كفيلة بتحطيم الجدران التي بناها الرَّجل حول ضميره، الجدران التي يختبئ خلفها ليُسكِت حديث نفسه ويُبرّر خطأه. هذه الكلمات اقتحمت تلك المساحات المظلمة، وكسرت وهم الطَّمأنينة الزَّائفة التي يصنعها الذَّنب، لتكشف للروح حقيقتها كما هي… بلا أقنعة.

 هذه الجمل لا تحمل نبرة الزَّجر، ولا تتوشَّح بظلِّ التَّهديد؛ إنَّها هزَّات روحيَّة مفاجِئة، تمتدُّ إلى أعمق نقطة في النَّفس، فتوقظ ما كان نائمًا فيها، وتكشف ما يحاول المرء إخفاءه عن نفسه، كأنَّها طَرقات خفيَّة على باب القلب تُحدث رجفة لا تُنسى.

 الإمام (عليه السلام) لا يقول له: "لا تذنب"؛ بل يقول: "أذنب… ولكن بعد أن تستطيع تجاوز هذه الحواجز الخمسة". فجأة يشعر الرَّجل أنَّ المشكلة ليست في المعصية نفسها؛ وإنَّما في غفلة القلب عن حقائق يعرفها العقل؛ لكنَّه لا يتأثَّر بها. والإمام (عليه السلام) يعيد هذه الحقائق إلى وعي الإنسان بطريقة صادمة، واضحة، لا تسمح له بالهروب أو الاختباء.

 سنحاول الوقوف مع هذه الجمل، ونتقدَّم نحوها بروحٍ تريد أن تُوقظ في داخل العقل شعورًا حيًّا بالمسؤوليَّة. نريد أن نصل إلى تلك الحالة التي يشعر فيها الإنسان أنَّ هذه الكلمات لم تُكتب لزمنٍ مضى، وأنَّها لم تُوجَّه لرجلٍ عاش قبل أكثر من ألف عام؛ نريد أن يتكوَّن داخلنا إحساس بأنَّ الخطاب موجَّه إلينا نحن مباشرة، وأنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) يتحدَّث إلى قلوبنا الآن، كما لو أنَّه يضع يده على قلوبنا ويُسمعنا هذه العبارات بصوتٍ لا تخبو آثاره.

المحطَّة الأولى: لَا تَأْكُلْ رِزْقَ اللَهِ؛ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ!

 حين قال الإمام (عليه السلام) هذه العبارة، لم يكن يقصد الطَّعام فقط. كان يريد أن يوجِّه الرَّجل إلى حقيقة بديهيَّة؛ لكنَّها عند بعض النَّاس -وخصوصًا في عصر الإغراءات- تضيع بسهولة تحت ضجيج الشَّهوات والحماس والاندفاع.

 رزق الله (سبحانه) لا ينحصر بالطَّعام وحسب، فالهواء الذي تتنفسه، والقلب الذي يخفق من دون إذنك، والعين التي ترى، والقدرة التي تتحرك، والوقت الذي تمضي فيه حياتك. أنت تأخذ من الله (تعالى) في كلِّ لحظة، في كل نَفَس، في كلِّ سلامة، في كلِّ نعمة تراها ولا تراها؛ (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (سورة النحل/ الآية: 18). 

 فهل من المعقول أن يعيش الإنسان على رزق الله (تبارك وتعالى)، ويستخدم قدرته ونِعَمه، ثمَّ يواجهه بالمعصية؟

 إذا قال شخص: "أنا حرّ، أريد أن أعيش حياتي كما أشاء"، يأتيه الإمام (عليه السلام) بهذا السُّؤال:

 هل حريتك مصنوعة بيدك أم هي منحة من الله (تعالى)؟

 إنَّ الإنسان حين يُقْدِم على الخطأ، يتصرَّف وكأنَّه انفصل عن الله (سبحانه) في تلك اللحظة، وكأنَّ المعصية لها إطار مستقلّ لا علاقة له بالرِّزق والهداية والحماية والتَّلطف. والمصيبة أنَّ العاصي حين يخطئ لا يتذكَّر أنَّه يفعل ذلك بقدرةٍ أعطاه الله (تعالى) إيَّاها. ولو توقّف قلبه للحظة لما استطاع أن يرفع يده ليذنب أو يكتب أو ينظر أو يفعل أيَّ شيء.

 الإمام (عليه السلام) يريد أن يضع الإنسان أمام حقيقة لا يستطيع الفكاك منها، وكأنَّه يقول له:

 جرِّب أن تبحث عن لقمةٍ لا تنزل رزقًا من السَّماء، وحاول أن تجد صحةً لا تمتدّ جذورها إلى عطاء الله (جلَّ جلاله)، وابحث عن نفسٍ لا يملكها الله ولا يقبضها الله… فإذا قدرت على ذلك، فأقدم على الذَّنب دون خوف. هذا الأسلوب يفتح أمام القلب نافذة إلى الإدراك العميق، فيُشعر الإنسان بأنّ كلَّ ما حوله وما فيه محاط بعناية الله (تبارك وتعالى)، وأنَّ المعصية في ظلِّ هذا الإدراك تصبح فعلًا لا يستقيم مع حقيقة الوجود نفسه.

 إنَّها صدمة قوية تهدم الغرور الذي يجعل الإنسان يتعامل مع المعصية وكأنَّها منفصلة عن الواقع وعن الله (تعالى). والحقيقة أنَّه لا يوجد عمل خاص بمعزل عن خالقه، فكلُّ فعل، وكلُّ خطوة، وكلُّ قرار في حياتك مرتبط بالرَّحمة الإلهيَّة.

 وحين يدرك الإنسان هذا الرَّبط العميق، يتولَّد في داخله حياء من نوع آخر، حياء لا يصدر عن رهبةٍ أو توجّس، وإنَّما عن امتنان صادق يتدفَّق من القلب. هذا الامتنان يرقق القلب ويجعله أكثر ليونة، ويمنح الإنسان قدرة مختلفة على مراجعة نفسه وتصحيح مساره. 

المحطَّة الثَّانية: اخْرُجْ مِنْ وِلَايَةِ اللَهِ؛ وَأَذْنِبْ مَاشِئْتَ!

 هذا المستوى أعمق من الأوَّل؛ فالولاية ليست رزقًا يُمنح للإنسان فقط؛ وإنَّما هي حماية وهداية ورعاية خفيَّة تحيط به في كلِّ لحظة، حتَّى تلك اللحظات التي يظنُّ فيها أنَّه وحده. الولاية تعمل بصمت، ترافقه قبل أن يطلبها، وتسانده في ضعفه قبل قوَّته، وفي سقطته قبل نهوضه. وحين يبدأ الإنسان في إدراك هذا اللطف الإلهي، يتحرَّك قلبه ببطء نحو الشُّعور بتلك الرِّعاية التي كانت تحيط به منذ البداية، فيكتشف أنَّ الولاية لم تفارقه يومًا… وإن كان هو الغافل عنها.

 أنت في ولاية الله (تعالى) حين يصرف عنك البلاء وأنت لا تشعر، حين يفتح لك باب خير لم تتوقعه، حين يلين قلبك لحظة صلاة أو دعاء بعد أيَّام من القسوة… حين تتذكر الله (سبحانه) فجأة من دون سبب، وتخجل من نفسك ولو قليلًا. والخروج من هذه الولاية يعني أن يُترك الإنسان لنفسه، وأن يتخلَّى عن النُّور الذي يهديه، وأن يصبح أسير شهواته وأهوائه، بلا عناية تحفظه ولا باب يرده إلى الطَّريق. وهذه الحالة لا يصل إليها إلَّا من أغلق قلبه بيده عبر سنوات طويلة من الإصرار على الخطأ ورفض النِّداء الإلهي، فينطفئ فيه نور الهداية -والعياذ بالله- حتَّى يعجز عن رؤية الطَّريق من جديد.

الإمام (عليه السلام) يضع الرَّجل أمام اختيار وجودي: إن استطعت أن تسحب نفسك من يد الله (تعالى)، وأن تخرج من نطاق رحمته، وأن تعيش من دون عناية من الله (تبارك وتعالى)… عندها أذنِب ما شئت.

لكن هل تستطيع؟

 لا أحد يستطيع.

 إنَّ الله (تعالى) يُمسك بيد الإنسان من دون أن يشعر، ويحيط قلبه برحمات لا تُعدّ، ويفتح أمامه ألف طريقٍ للعودة كلَّما ابتعد. فكيف يمكن للعقل أن يتصوَّر معصية من يضمّك برعايته، ويرفعك بلطفه، ويحفظك في لحظات ضعفك وأنت لا تدري؟

المحطَّة الثَّالثة: اطْلُبْ مَوْضِعاً لَا يَرَاكَ اللهُ؛ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ!

 هذه الجملة هي الخنجر الذي يقطع آخر خيط يُجمِّل المعصية في قلب الإنسان. فالإنسان يظنُّ في بعض الأحيان أنَّ الخفاء حصنٌ يحميه، فيتوهم أنَّ الذَّنب إذا غاب عن أعين أهله وأصدقائه والمجتمع خفَّ ثقله، وأنَّ الستر البشري يكفي ليُسقط وطأة الفعل عن ضميره. غير أنَّ هذا الشُّعور ليس سوى محاولة للهروب من الحقيقة؛ إذ إنَّ ما يخفى عن النَّاس لا يخفى عن الله (عزَّ وجلَّ)، ولا يزول أثره عن القلب، ولا تتلاشى مسؤوليته لمجرَّد أنَّه غاب عن الأنظار.

 لكن الإمام (عليه السلام) يواجهه بالحقيقة التي تُسقط كلَّ وهم، فيقول له: إن كنت تظن أنَّ الخفاء يعفيك، فجرِّب أن تبحث عن مكانٍ واحدٍ في الوجود لا يصل إليه علم الله (تعالى)… فإن وجدته فافعل ما تشاء.

كلمة تُسكت القلب قبل اللسان، وتكشف أنَّ الهروب مستحيل، وأنَّ من يدرك أنَّ الله (تعالى) يراه لا يمكن أن يمدَّ يده إلى معصيةٍ تُرتكب تحت بصره وسمعه.

 إنَّه كلام يهدم أوهام الإنسان من جذورها؛ فالعلم الإلهي حضور شامل، يحيط بكلِّ شيءٍ، ويعرف تفاصيلك أكثر ممَّا تعرف أنت بنفسك. هو الأقرب إليك من نبض قلبك، ومن الخاطرة التي تعبر ذهنك قبل أن تلتقطها، ومن الرَّغبة التي تتكوَّن في أعماقك قبل أن تشعر بها. وهذا العلم إحاطة رحمانيَّة تكشف لك أنَّك لست غائبًا عن الله (تعالى) لحظة واحدة.

 والمعنى هنا لا يقف عند حدود "الله يراك"؛ وإنَّما يتجاوزها إلى ما هو أعمق وقعًا وأشدّ رهبة: "أنت تقترف الذَّنب وأنت قائم في حضرة الله (تعالى)". وحين يدرك القلب هذه الحقيقة، يستحي قبل أن يخاف، ويخضع قبل أن يُجبَر، ويتراجع قبل أن يخطو نحو أي معصية.

 لو تصوَّر المذنب للحظة أنَّه يقف أمام شخص محترم جدًّا؛ أمام أستاذه، أمام أبيه، أمام شخص يتمنى ألَّا يخجل أمامه… لما تجرّأ على ارتكاب الكثير ممَّا يفعله في الخفاء. فكيف بمن هو أعظم من كلِّ شيء؟

 هذه الجملة تزرع حياءً نابضًا في القلب، حياءً يجعل صاحبه يهمس في داخله: أنا عاجز عن الخطأ أمام الله (سبحانه)… احترامًا له، ومحبةً له، وتقديرًا لعظمته، وليس خوفًا من العقوبة.

المحطَّة الرَّابعة: إذَا جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَكَ فَادْفَعْهُ عَنْ نَفْسِكَ؛ وَأَذْنِبْ مَا شِئْتَ!

 هذه الموعظة تدخل أعماق النَّفس مباشرة؛ لأنَّها تخاطب شيئًا يعرفه كلُّ إنسان من دون استثناء:

الموت ليس خيارًا، ولا لحظة يُمكن التَّحكم فيها.

 بعص النَّاس في أوج قوته ينسى الموت، ويظنُّ أنَّه بعيد، وأنَّ المعصية لحظة يمكن إصلاحها لاحقًا. لكن الإمام (عليه السلام) يذكِّره:

إذا كانت المعصية عندك سهلة، فهل الموت عندك كذلك؟

إذا كنت تستطيع أن توقف ملك الموت، تعال وأذنب براحتك.

أمَّا إذا كنت لا تقوى على إيقافه، فاعْلَم أنَّ لحظة الموت قد تأتي وأنت في ذنبٍ يقطع طريقك، ويُظلم قلبك، ويضعك أمام الله (تعالى) في أسوأ حال.

 هذه ليست دعوة لخوف من الموت، هي إشراقة وعي عميق في القلب: وأنَّ الإنسان ينضج ويكتمل إدراكه حين يدرك أنَّه زائل، وأنَّ الحياة محدودة، فتتجذر المسؤوليَّة في روحه، وتصبح قراراته صادقة، وسلوكه نابعًا من عمق فهمه لحقيقة الوجود. فالإنسان حين يستحضر الموت لا يغرق في الاكتئاب كما يتخيَّل البعض؛ بل يعيش بصفاءٍ أكبر وتركيزٍ أعمق ووعيٍ أرحب، وتولد فيه شجاعة مختلفة؛ لأنَّه يدرك قيمة كلِّ لحظة، ويعي أثرها في مسار حياته ومستقبله.

الموتُ معلِّمٌ عظيم، يخاطب العقل بصراحة ولا يُجامل: 

انتبه لما تصنعه بنفسك، فالرِّحلة أقصر ممَّا تظن، والنِّهاية تقترب مهما بدا لك العمر ما يزال في بداياته.

المحطَّة الخامسة: إِذَا أَدْخَلَكَ مَالِكٌ في النَّارِ فَلَا تَدْخُلْ في النَّارِ، وَأَذْنِبْ مَاشِئْتَ!

هذه هي آخر صدمة.

الإمام (عليه السلام) ينتقل من الدُّنيا إلى الآخرة مباشرة، ومن الاختيار إلى النَّتيجة، ومن العمل إلى الحساب.

كأنَّ الإمام (عليه السلام) يقول له:

إذا استطعت أن تمنع نفسك من دخول النَّار، فتجرَّأ على الذَّنب.

أمَّا إذا كنت تعلم أنَّك ستقف عاجزًا يوم القيامة، فكيف تهدم نفسك اليوم؟

النَّار ليست مجرَّد لهب خارجي؛ هي نتيجة طبيعيَّة للأفعال؛ لأنَّ كلَّ ذنب يترك أثرًا في الرُّوح، وكل أثر يشكِّل شخصية الإنسان، وهذه الشَّخصية تنتقل إلى الآخرة حاملة ثمار أفعاله وخياراته، سواء كانت صالحة تنير طريقه أم فاسدة تغلق أمامه أبواب النُّور.

الإمام الحسين (عليه السلام) يوجّهك إلى وقوف صادق مع نفسك: راقب تصرّفاتك، وتأمَّل بعين البصيرة أثر كلِّ فعل تقوم به؛ أثره على اللحظة، وعلى المدى البعيد، وعلى مستقبلك وحياتك كلِّها.

 لا يوجد ذنب يمرّ بلا أثر، ولا أثر ينتهي من دون أن يترك نتائج ملموسة في حياتك وسلوكك وضميرك. فهل تعتقد أنَّك تستطيع أن توقف هذه النَّتائج الطبيعيَّة لما تفعله؟

 إن استطعت، فافعل ما شئت دون خوف، ولكن الحقيقة أنَّ معظم أفعالنا لا يمكن عكس نتائجها بسهولة. لذا، إذا لم تكن قادرًا على وقف تلك النَّتائج، فعليك أن تبدأ اليوم في تطهير نفسك، بتغيير سلوكك وإعادة ترتيب خطواتك، قبل أن يثقل الغد كاهلك ويثقل روحك ويجعل منك عبئًا على نفسك قبل أيّ أحد آخر.

 كلُّ يوم تتأخر فيه عن هذا الوعي، يبتعد عنك نور الطَّاعة ويزداد قربك من العواقب التي كنت تستطيع تجنّبها لولا التَّهاون.

كيف تغيّرني هذه الكلمات؟

 هذا الحديث ليس خطابًا يهدف إلى منع الإنسان عن الذَّنب بالقوَّة أو بالضَّغط الخارجي، هو دعوة عميقة لإيقاظ الضَّمير وترتيب وعي النَّفس. فالإمام (عليه السلام) لا يوجهك بكلمات تأمرك بالتَّوقف عن المعصية، ولا يضع عليك قيودًا قسريَّة، وإنَّما يرشدك بلطف وحكمة إلى فهم ذاتك بصدق، وإدراك علاقتك بربِّك (سبحانه)، والتَّأمل في حقيقتك الوجوديَّة ومصيرك النِّهائي. 

 وحين يصل الإنسان إلى هذا الإدراك، ويعي أثر كلِّ فعل يقوم به على روحه ومستقبله، سيترك المعصية من تلقاء نفسه، نتيجة للنُّور الذي أضاء قلبه، وللقناعة التي استقرَّت في وجدانه، وللوعي الذي أعاد ترتيب نظره للحياة والوجود. وبذلك يتحوَّل الامتناع عن الذَّنب من فرض خارجي إلى اختيار شخصي ينبع من صميم النَّفس، ويصبح السُّلوك في الخارج انعكاسًا طبيعيًا لنضج الرُّوح وسلامتها.

 هذه الكلمات الخمس تشبه بابًا يُفتح على غرفة مظلمة، ومع كلِّ نافذة تُفتح يدخل شعاع ضوء جديد، حتَّى تتكشَّف لك الزَّوايا كلّها وتستبين ملامحها بوضوح، وتدرك كلَّ تفاصيل نفسك وحياتك بوضوح لم تعرفه من قبل. وبعد هذه التَّجربة، لن تحتاج إلى أحد ليمنعك عن الذَّنب أو يفرض عليك التوقف؛ لأنَّ النُّور الذي دخل قلبك أعاد إليك بصرك، ووعيك اكتمل، فأنت وحدك من يختار التَّوقف، إدراكًا لطبيعة أفعالك وعواقبها على نفسك ومستقبلك.

 وعندما يستوعب الإنسان هذه الكلمات، يتحوّل الدِّين في نظره من مجموعة قيود إلى نورٍ يهدي الطَّريق، ومن قائمة ممنوعات إلى درع يحميه، ومن شعور بالخوف إلى ينبوع من الحبِّ والاطمئنان. سيكتشف أنَّ ابتعاده عن المعصية لا نابع من ضعفه أو عجزه؛ بل نتيجة لنضجه ووعيه العميق، فهو يعرف قيمته الحقيقيَّة، ويدرك من يقف بجانبه، ومن يربّيه ويهديه، ومن يمده بالقوَّة والدَّعم في كلِّ خطوة يخطوها نحو الكمال.

 إنَّ كلَّ كلمة نطق بها الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا الحديث تحمل في طيَّاتها رسالة عظيمة، تقول للإنسان: "أنت أعظم وأرقى من أن تسمح لخطأ أن يسرق نور قلبك ويُضعف قيمتك الحقيقيَّة".

 وعندما يستوعب الإنسان هذه الحقيقة، سيصبح قادرًا على استثمار حياته في ما يرضي الله (تعالى) وأهل البيت (عليهم السلام)، محوّلًا ضعفه إلى قوَّة، وأخطاؤه إلى دروس، وطريقه إلى مستقبل أكثر صفاءً ونقاءً، يقترب فيه من الله (سبحانه) برؤية واعية وصدق عميق.

ذات صلة

مركز المستقبل ناقش.. الانتخابات في العراق والاغتراب الوطنيقراءة في المخاطبات الحكومية: منظمات المجتمع المدني في العراق بين الحوكمة والقيودمن يقود الوعي الانتخابي؟انتخابات غير عادية في العراق تتيح للولايات المتحدة فرصة غير عاديةسباق الصغار والبنية العميقة للعملية السياسية