الاقتصاد في عنق الزجاجة: كيف تعرقل الديمقراطية المغلقة في العراق ولادة قوى التنمية؟
د. عماد عبد اللطيف سالم
2025-10-05 06:31
في "النسق المُغلق" للديموقراطية العراقيّة، لا يمكن بناء "نظام سياسي" يسمح بظهور قوى (اقتصادية وسياسية) جديدة ومُتطوِّرة قادرة على المُبادَرَة و"القيادة"، وبالتالي (وبقدر تعلّق الأمر بالاقتصاد) لا يمكن بناء "اقتصاد سوق" رأسمالي- تقليدي- مُنضَبِط، ولا "اقتصاد سوق اجتماعي" حديث.
هذا "النسَق المُغلَق"، وهذا "النظام العام" (القابِض على الريع بأنواعهِ كافّة) سيفعلُ ما بوسعه من أجل "إعادة انتاج" القوى السياسيّة- المُجتمعيّة "القديمة" ذاتها، أكثر ممّا يعمل (أو حتّى يسمَح) بـ "انتاج" قوى فاعِلة "جديدة".
وفي مواجهة "القوى القديمة" الأكثر نفوذاً وهيمنة (اقتصاديّاً ومُجتمعيّاً) سيضيقُ مجال "المُنافسَة" أمامَ أيِّ "قوى صاعدة جديدة".. تلكَ "القوى" التي يمكن أن تجِدَ أفضلَ تجسيدٍ لها في "قِطاعٍ خاص" مُنتِج مُبتَكِر ومُبادِر، وغير "مُتطَفِّل "على "قنوات" تسريب الريعِ الحكوميّة، وأكبرُ قُدرةً على "التراكُم" و"تكوين رأس المال الثابت" والنموّ، وأكثرُ "استقلاليَةً" من القطاع الخاص "المُتكَلِّس" والفاسد و"التابِع" لـ "بُنية" و"منظومات" النظام السياسي- الاقتصادي- القائم الآن.
لن تكون هناك "فُرَص" قابلة للتوظيف، ولا "ابتكار" قابل للتجسيد، ولا "إمكانيّات" قابلة للتخصيص (الأفضل والأمثل والأكفأ) للموارد الاقتصادية، ولا "تنمية"، ولا "استدامة" في إطار "منظومات قِيَم" و"ترتيبات" حُكم غير قادرة على أن تعملَ بشكلٍ أفضلَ مما تقومُ بفعلهِ الآن.
بـ "حُزمةِ" الديموقراطيّةِ كُلّها (وليسَ بـ "عودٍ" واحدٍ منها اسمهُ "الانتخابات")، وفي إطارِ منظومات "الحُريّات" غيرُ القابلةِ للنقضِ عند "التهديدات"، وبدَفعٍ من "عدالتها" غيرُ القابلةِ للحَجب عند "الضرورات"، سوف تبدأ عملية "التأسيس" لـ"نظام اقتصادي عراقي جديد".. نظام كفوء ومُتطوِّر، يُعزّز قِيَم العمل المُنتِج، ويحترم شروط ومعايير "الانتاجيّة التنافسيّة"، ويحِلُّ محَلَّ هذه الفوضى العارِمة، في هذا "البازار" الاقتصادي البائس الموجود الآن.
لهذا.. وبهذا.. لم يتقدّم الاقتصاد العراقي خُطوةً واحدةً إلى الأمام طيلةَ رُبعِ قَرنٍ من "وقت التنمية" الذي ضاعَ إلى الآن دون جدوى.. وإن كانَ هُناكَ من خَطا "خُطوةٌ" مثل هذه "إلى الأمام"، فقد كانت تعقبُ ذلكَ دائماً "خطوتانِ إلى الخَلْف".
ولهذا.. وبهذا.. عاشت (وشهدَت واختبَرَت) عملية "التنمية الشاملة" في العراق مفاعيل نمطها "الانتكاسي" السريع، وما ترتّبَ عليه من تداعيات وعواقبَ وخيمة.
اذا كانت "الديموقراطيّة" مُجرّدَ "انتخابات" فإنّها ستُعيدُ انتاجَ "منظومات القِيَم" ذاتها التي أدّت إلى هذا "الانتكاس" الاقتصادي والسياسي والمجتمعي، ليس في العراق "المُعاصِر" فقط، بل وعلى امتداد وقائع وتفاصيل تاريخهِ "الحديث".
في "أوضاعٍ" كهذه "لا أحدَ سيعمَل، ولا أحدَ سيَمُرّ" سوى تلكَ القوى المُمسِكَةِ بمصادر "القوّةِ الاقتصاديّةِ" الآن.. وسوفَ يختنِقُ "الآخرونَ الضُعفاء" جميعاً وهُم محشورونَ في "أعناقِ الزجاجات".. وسوفَ تُقفَلُ لاحِقاً(وبأسرعِ ممّا يتصوّر الكثيرون) حتّى "البازاراتُ والشورجات" التي يملكها "العرّابون"، و ستُفلِسُ حتّى "الدكاكين" التي يُديرُها "صبيان المافيا"، وسيُدفَنُ تحتَ سقوفها الصدِئة أيُّ أملٍ ببناء اقتصادٍ حديث.
"الديموقراطيّةُ العراقيّةُ" تؤسِّسُ لحُكمٍ دائمٍ لـ "المُلاّكِ الغائبين"، و تمنحُ "السراكيلَ" سُلطةَ التحكُّمِ بـ "الأقنانِ" المُرتبِطينَ بهذه الأرضِ العظيمةِ المُعذّبَةِ التي يقتلها السَبَخُ والخُذلان.
وبينما يُفتَرَض بـ "النسَق السياسي" أن يكون "مفتوحاً"، أكثر من كونهِ "نسَقاً مُغلَقاً"، وأن يُحقِقَ حالةً دائمةً من الاستقرار التي تسمح بتطوّر الاقتصاد والمجتمع، يحدثُ ما هوَ نقيضٌ لذلكَ في العراق.
إنّ "النسق المفتوح" يتكوّن من "أجزاء" مُتفاعِلة ومُترابِطة يعتمِد بعضها على بعض، وتسعى لتحقيقِ "هدفِ مُشترَك".
غيرَ أنّ هدف "النسَق السياسيِّ" المُغلَقِ في العراق ليسَ هدفاً "مُشترَكاً" لـلجميع.
ومن أبرز "مُقوّمات" هذا "النسَق" هو السعيُ الدائم لاحتكار السُلطة، والسيطرة على الثروة، والإكراه غير المشروع( للأعداء والخصوم والمُعارِضين، بل وحتّى لغيرِ "المُوالين")، ووجود "وحدات" رسميّة، وغير رسميّة تتحكّم بأدوات وأساليب تفاعل "النظام" مع بيئتهِ التقليديّة.. وهذه "الوحدات" هي من تُحدِّد "نمط تكيُّف" هذهِ الأدوات والأساليب لـ "المتغيّرات".. هذه "المُتغيّرات" التي قد تُشكِّلُ لها نوعاً من أنواعِ "التهديد".. ليسَ التهديد الذي تعتقِد أنّهُ "قائمٌ" الآنَ فقط، بل وذلكَ التهديدُ "المُحتمَلُ" أيضاً.
كما أنّ واحدة من أسوأ مُخرجات هذا "النسق"، وواحدة من أكثر مُفارقاتهِ إثارةً للسُخرية، هو أنّ نتائج الانتخابات التي يُصِرُّ عليها النظام السياسي، بهدف اكتساب "شرعيتهِ الدستوريّة" من خلالها، لن يتمّ القبول بها في حال "خسارة" الأطرافِ المُهيمِنة لنتائجها من خلال "صناديق الاقتراع".. أي أنّ نتائج هذه الانتخابات يجب أن تصُبَّ في مصلحة الشركاء و"أصحاب المصلحة" المُهيمنين على هذا النظام السياسي، وإلاّ عُدّت باطِلة و"مُزوَّرَة" ونتائجها "مُعدَّة سَلَفاً" من قبل "أعداء" النظام في الداخلِ والخارج.
الانتخابات في هذا العراق لن تكسِرَ هذه "الحلقة المُفرغَة" لكلّ هذه الفوضى ولكلّ هذا الخراب.
الانتخابات ستُحكِمُ قبضة هذه "الحَلَقة" على كُلّ شيء.
الحلّ في هذا العراق ليس الانتخابات.
الحلُّ هو في "تفكيكِ" و "كَسرِ" هذه "الحَلَقةِ المُفرَغَةِ" التي يُعزِّزُها هذا "النمط المُشوّه" من "الديموقراطيّة -–الإكراهيّة- الجَبريّة"، ويُكرّسِها هذا "النوع القسري" من الانتخابات.