إذا لـم تُـناصِـر الديمقراطية العمال فمصيرها إلى زوال
بروجيكت سنديكيت
2024-06-24 04:47
بقلم: دارون عاصم أوغلو
بوسطن- حتى لو لم تندلع الموجة المتطرفة الـمُـخيفة الـمُـنـتَـظَـرة في انتخابات البرلمان الأوروبي هذا الشهر بالدرجة المتوقعة لها من القوة، فقد كان أداء اليمين المتطرف جيدا في إيطاليا والنمسا وألمانيا، وبشكل خاص في فرنسا. علاوة على ذلك، جاءت أحدث مكاسبه في أعقاب تحولات كبرى نحو أحزاب اليمين المتطرف في المجر وإيطاليا والنمسا وهولندا والسويد، بين دول أخرى.
في فرنسا، لا يمكن اعتبار الانتصار الساحق الذي حققه حزب التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقا) بقيادة مارين لوبان مجرد تصويت احتجاجي. ذلك أن الحزب يسيطر بالفعل على عدد كبير من الحكومات المحلية، وقد دفع نجاحه هذا الشهر الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الدعوة إلى عقد انتخابات مبكرة ــ وهي مقامرة قد تمنحه أغلبية برلمانية.
على مستوى ما، لم نشهد جديدا هنا. فقد كنا نعلم بالفعل أن الديمقراطية أصبحت مُـنـهَـكة على نحو متزايد في مختلف أنحاء العالم، مع تزايد شِـدّة التحديات من جانب الأحزاب الاستبدادية. وتُظهِر الاستطلاعات أن حصة متزايدة من السكان تفقد الثقة في المؤسسات الديمقراطية. بيد أن التوغلات التي يحرزها اليمين المتطرف بين الناخبين الأصغر سنا مثيرة للقلق بشكل خاص. لا أحد يستطيع أن ينكر الآن أن هذه الانتخابات الأخيرة كانت بمثابة نداء تنبيه صارخ. ولكن ما لم نفهم الأسباب الجذرية وراء هذا الاتجاه، فمن غير المرجح أن تنجح الجهود الرامية إلى حماية الديمقراطية من الانهيار المؤسسي والتطرف.
التفسير البسيط لأزمة الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم الصناعي هو أن أداء النظام لم يرق إلى مستوى الوعود التي بذلها. في الولايات المتحدة، لم ترتفع الدخول الحقيقية (المعدلة تبعا للتضخم) عند أسفل ووسط جدول التوزيع إلا قليلا منذ عام 1980، ولم يفعل الساسة المنتخبون شيئا يُـذكَر حيال ذلك. على نحو مماثل، كان النمو الاقتصادي في قسم كبير من أوروبا باهتا، وخاصة منذ عام 2008. وحتى لو انخفضت معدلات البطالة بين الشباب مؤخرا، فإنها كانت لفترة طويلة تشكل قضية اقتصادية كبرى في فرنسا وبلدان أوروبية أخرى عديدة.
كان من المفترض أن يوفر النموذج الغربي للديمقراطية الليبرالية فرص العمل، والاستقرار، والمنافع العامة العالية الجودة. ورغم نجاحه إلى حد كبير في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فقد جاء أداؤه مقصرا في كل المجالات تقريبا منذ عام 1980 أو نحو ذلك. واستمر صناع السياسات من اليسار واليمين في الترويج لسياسات صممها خبراء وأدارها تكنوقراط مؤهلون تأهيلا عاليا. لكن هذه السياسات لم تفشل في تحقيق الرخاء المشترك فحسب؛ بل تسببت أيضا في خلق الظروف التي أفضت إلى اندلاع الأزمة المالية عام 2008، والتي أزالت أي غطاء رقيق متبق من النجاح. وخلص أغلب الناخبين إلى أن الساسة يهتمون بدرجة أكبر بالمصرفيين مقارنة باهتمامهم بالعمال.
يظهر عملي مع نيكولاس أجزينمان، وسيفات جيراي أكسوي، ومارتن فيزبين، وكارلوس مولينا أن الناخبين يميلون إلى دعم المؤسسات الديمقراطية عندما تكون لديهم خبرة مباشرة تتمثل في ديمقراطيات قادرة على تحقيق النمو الاقتصادي، وممارسة الحكم غير الفاسد، وجلب الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وتوفير الخدمات العامة، وخفض مستويات التفاوت. وعلى هذا فليس من المستغرب أن يُـفضي الفشل في تلبية هذه الشروط إلى خسارة الدعم.
علاوة على ذلك، حتى عندما رَكَّـزَ القادة الديمقراطيون على سياسات من شأنها أن تساهم في تحسين ظروف المعيشة لصالح معظم السكان، فإنهم لم يبرعوا في التواصل بشكل فعّال مع جماهير الناس. على سبيل المثال، من الواضح أن إصلاح نظام معاشات التقاعد ضروري لوضع فرنسا على مسار نمو أكثر استدامة، لكن ماكرون فشل في تأمين الدعم العام لحله المقترح.
لقد فقد القادة الديمقراطيون على نحو متزايد القدرة على إدراك مخاوف السكان الأشد عمقا. وفي الحالة الفرنسية، يعكس هذا جزئيا أسلوب القيادة المتغطرس الذي ينتهجه ماكرون. لكنه يعكس أيضا انحدارا أعرض لمستوى الثقة في المؤسسات، فضلا عن الدور الذي تلعبه وسائط التواصل الاجتماعي وغيرها من تكنولوجيات الاتصال في تعزيز المواقف الاستقطابية (على اليسار واليمين) والدفع بقسم كبير من السكان إلى غرف صدى إيديولوجية.
كان صناع السياسات والساسة المنتمون إلى التيار السائد أيضا غافلين إلى حد ما تجاه أشكال من الاضطرابات الاقتصادية والثقافية التي تجلبها الهجرة بأعداد ضخمة. في أوروبا، أعربت نسبة كبيرة من السكان عن مخاوفهم بشأن الهجرة الجماعية من الشرق الأوسط على مدار العقد الأخير، لكن الساسة الوسطيين (وخاصة قادة يسار الوسط) تباطأوا في التعامل مع هذه القضية. وقد خلق ذلك فرصة كبيرة للأحزاب المتطرفة المناهضة للهجرة مثل حزب الديمقراطيين السويديين في السويد وحزب من أجل الحرية الهولندي، والتي أصبحت منذ ذلك الحين شركاء ائتلاف رسميين أو غير رسميين للأحزاب الحاكمة.
الواقع أن التحديات التي تعوق الرخاء المشترك في العالم الصناعي ستصبح أشد إلحاحا في عصر الذكاء الاصطناعي والتشغيل الآلي (الأتمتة) ــ وهذا في وقت حيث تحول تغير المناخ، والجوائح الـمَـرَضية، والهجرة الجماعية، وتهديدات مختلفة عديدة للسلام الإقليمي والعالمي إلى مخاوف متنامية جميعها.
لكن الديمقراطية تظل النظام الأفضل تجهيزا للتعامل مع هذه القضايا. توضح الأدلة التاريخية والحالية أن الأنظمة غير الديمقراطية أقل استجابة لاحتياجات سكانها، وأقل فعالية في مساعدة المواطنين المحرومين. أيا كان ما قد يَـعِـد به النموذج الصيني، فإن الأدلة تظهر أن الأنظمة غير الديمقراطية تعمل في نهاية المطاف على تقليص النمو في الأمد البعيد.
مع ذلك، تحتاج المؤسسات الديمقراطية والقادة السياسيون إلى الالتزام المتجدد ببناء اقتصاد عادل. وهذا يعني إعطاء الأولوية للعمال والمواطنين العاديين قبل الشركات المتعددة الجنسيات، والبنوك، والمخاوف العالمية، مع العمل على تعزيز الثقة في النوع الصحيح من التكنوقراطية. لن يكون من المجدي أن يفرض مسؤولون منعزلون سياسات تصب في مصلحة شركات عالمية. ولمعالجة تغير المناخ، والبطالة، والتفاوت بين الناس، والتعامل مع الذكاء الاصطناعي والارتباكات التي أحدثتها العولمة، تحتاج الديمقراطيات إلى المزج بين الخبرة والدعم الشعبي العام.
لن تكون هذه بالمهمة السهلة، لأن كثيرا من الناخبين أصبحوا لا يثقون في الأحزاب الوسطية. ورغم أن اليسار المتشدد ــ كما يمثله جان لوك ميلينشون في فرنسا ــ يتمتع بقدر أكبر من المصداقية مقارنة بالسياسيين المنتمين إلى التيار السائد عندما يتعلق الأمر بالتزامه بصالح العمال والاستقلال عن مصالح البنوك وشركات الأعمال العالمية، فمن غير الواضح ما إذا كانت السياسات الشعبوية اليسارية قادرة حقا على تسليم الاقتصاد الذي يريده الناخبون.
يشير هذا إلى طريق واحد إلى الأمام يجب أن تسلكه الأحزاب الوسطية. بوسعها أن تبدأ ببيان يرفض الولاء الأعمى لشركات الأعمال العالمية والعولمة غير المنظمة، ويقدم خطة واضحة وقابلة للتطبيق تجمع بين النمو الاقتصادي وتقليص فجوات التفاوت. ينبغي لها أيضا أن تعمل على إيجاد توازن أوثق بين الانفتاح والسماح بحدود معقولة للهجرة.
إذا أيد عدد كاف من الناخبين الفرنسيين الأحزاب المؤيدة للديمقراطية ضد حزب التجمع الوطني في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية، فقد تنجح مقامرة ماكرون. ولكن حتى لو نجحت، فإن العودة إلى العمل كالمعتاد ممارسة من غير الممكن أن تستمر. لكي تستعيد الديمقراطية دعم جماهير الناس وثقتهم، يجب عليها أن تصبح أكثر مُـناصَـرة للعمال وتأييدا للمساواة.