التاريخ يُـحَـدِّثنا عن مستقبل الذكاء الاصطناعي

بروجيكت سنديكيت

2024-04-27 04:21

بقلم: دارون عاصم أوغلو، سيمون جونسون

بوسطن ــ ربما يبدو الذكاء الاصطناعي، والتهديد الذي يفرضه على الوظائف المجزية اليوم، وكأنه يمثل مشكلة جديدة تماما. ولكن بوسعنا أن نجد أفكارا مفيدة حول كيفية الاستجابة لهذا التهديد في أعمال ديفيد ريكاردو، مؤسس الاقتصاد الحديث الذي راقب الثورة الصناعية البريطانية من واقع تجربته المباشرة. الواقع أن تطور تفكيره، بما في ذلك بعض النقاط التي غابت عنه، يحمل لنا اليوم كثيرا من الدروس المفيدة.

يبذل قادة التكنولوجيا في القطاع الخاص الوعود حول مستقبل أكثر إشراقا، حيث تخف ضغوط العمل، وتصبح الاجتماعات المملة أقل، وتزيد أوقات الفراغ، بل وربما حتى يتحقق حلم الدخل الأساسي الشامل. ولكن هل ينبغي لنا أن نصدقهم؟ قد يخسر عدد كبير من الناس ببساطة ما يعتبرونه وظيفة مجزية ــ مما يضطرهم إلى البحث عن عمل بأجر أقل. ذلك أن الخوارزميات تستولي بالفعل على مهام تستغرق حاليا وقت البشر واهتمامهم.

في عمله المبدع الذي صدر عام 1817 بعنوان "حول مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب"، اتخذ ريكاردو نظرة إيجابية للآلات التي أحدثت بالفعل تحولا في عمليات غزل القطن. واتباعا للرأي السائد في ذلك الوقت، قال أمام مجلس العموم في جلسة شهيرة إن "الآلات لم تقلل من الطلب على العمالة".

منذ سبعينيات القرن الثامن عشر، أدت "أتمتة" الغزل (تشغيله آليا) إلى خفض سعر القطن المغزول وزيادة الطلب على المهمة التكميلية المتمثلة في نسج القطن المغزول ليتحول إلى قماش كمنتج نهائي. ولأن كل أعمال النسيج تقريبا كانت تُـدار يدويا قبل العقد الثاني من القرن التاسع عشر، فقد ساعد هذا الانفجار في الطلب على تحويل نسج القطن يدويا إلى وظيفة حرفية عالية الأجر توظف مئات الآلاف من الرجال البريطانيين (بما في ذلك أعداد كبيرة من الغزالين الـمُـزاحين في فترة ما قبل الصناعة). وربما ساهمت هذه التجربة الإيجابية المبكرة مع الأتمتة في إثراء وجهة نظر ريكاردو المتفائلة في مستهل الأمر.

لكن تطوير الآلات الضخمة لم يتوقف عند الغزل. وسرعان ما انتشرت الأنوال التي تعمل بالبخار في مصانع نسج القطن. ولم يعد "النساجون اليدويون" الحرفيون يكسبون دخلا لائقا من العمل خمسة أيام في الأسبوع من ورشهم المنزلية الصغيرة. بل بات لزاما عليهم أن يكافحوا لمجرد إطعام أسرهم بينما يعملون لساعات أطول كثيرا في ظل نظام صارم في المصانع.

مع انتشار القلق والاحتجاجات في مختلف أنحاء شمال إنجلترا، غير ريكاردو رأيه. وفي الطبعة الثالثة من كتابه المؤثر، التي نُشِرَت عام 1821، أضاف فصلا جديدا بعنوان "حول الآلات"، حيث أصاب كبد الحقيقة: "إذا كانت الآلات قادرة على القيام بكل العمل الذي تتولاه العمالة الآن، فلن نجد أي طلب على العمالة". تنطبق ذات أسباب القلق على الحال اليوم. فلن يكون استيلاء الخوارزميات على مهام كان العمال يؤدونها في السابق خبرا جيدا للعمال الـمُـزاحين ما لم يتمكنوا من العثور على مهام جديدة بأجور مجزية.

لم يذهب أغلب محترفي صناعة النسيج اليدوي المكافحين خلال العقدين الثاني والثالث من القرن التاسع عشر للعمل في مصانع النسيج الجديدة، لأن الأنوال الآلية لم تكن بحاجة إلى عدد كبير من العمال. وفي حين خلقت أتمتة الغزل الفرص لعدد أكبر من الناس للعمل كنساجين، فإن أتمتة النسيج لم تخلق طلبا تعويضيا على العمالة في قطاعات أخرى. ولم يخلق الاقتصاد البريطاني في مجمل الأمر ما يكفي من الوظائف الجديدة المجزية الأجر، على الأقل حتى انطلاقة السكك الحديدية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. ومع وجود خيارات قليلة أخرى، استمر مئات الآلاف من النساجين اليدويين في المهنة، حتى مع انخفاض الأجور بأكثر من النصف.

تتمثل مشكلة رئيسية أخرى، وإن لم تكن بين تلك التي تناولها ريكاردو نفسه، في حقيقة مفادها أن العمل في ظروف المصانع القاسية ــ التحول إلى ترس صغير في "مصانع شيطانية" يسيطر عليها أصحاب العمل في أوائل القرن التاسع عشر ــ لم يكن جذابا في نظر النساجين على النول اليدوي. وقد عمل كثيرون من النساجين الحرفيين كرجال ورواد أعمال مستقلين فاشتروا القطن المغزول وباعوا منتجاتهم المنسوجة في السوق. من الواضح أنهم لم يكونوا متحمسين للخضوع لساعات عمل أطول، ومزيد من الانضباط، وقدر أقل من الاستقلالية، وأجور أدنى عادة (على الأقل مقارنة بذروة النسيج اليدوي). في الشهادات التي جمعتها لجان ملكية مختلفة، تحدث النساجون بمرارة عن رفضهم قبول ظروف العمل هذه، أو عن حياتهم التي أصبحت فظيعة عندما أجبروا (بسبب الافتقار إلى أي خيارات أخرى) على العمل في مثل هذه الوظائف.

ينطوي الذكاء الاصطناعي التوليدي اليوم على إمكانات هائلة وقد حقق بالفعل بعض الإنجازات المبهرة، بما في ذلك في مجال البحث العلمي. وبات من الممكن استخدامه لمساعدة العمال على أن يصبحوا أكثر اطّـلاعا، وأكثر إنتاجية واستقلالية وتنوعا. ولكن للأسف، يبدو أن صناعة التكنولوجيا تضع استخدامات أخرى في الاعتبار. وكما أوضحنا في كتاب "القوة والتقدم"، تفضل الشركات الكبرى التي تعمل على تطوير ونشر الذكاء الاصطناعي بأغلبية ساحقة الاتجاه إلى الأتمتة (استبدال البشر) على تعزيز القدرة (جعل الناس أكثر إنتاجية).

هذا يعني أننا نواجه خطر الإفراط في التشغيل الآلي: حيث من المحتم أن يُـزاح عدد كبير من العمال، وأن يخضع أولئك الذين يستمرون في وظائفهم لأشكال متزايدة الإذلال والتحقير من المراقبة والتحكم. يتطلب مبدأ "الأتمتة أولا ثم طرح الأسئلة لاحقا" ــ وبالتالي يزيد من تشجيع ــ جمع كميات هائلة من المعلومات في محل العمل وعبر كافة أقسام المجتمع، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل حول القدر الذي سيظل قائما من الخصوصية.

مثل هذا المستقبل ليس حتميا. ومن شأن تنظيم جمع البيانات أن يساعد في حماية الخصوصية، ومن الممكن أن تعمل القواعد الأقوى في محل العمل على منع أسوأ جوانب المراقبة القائمة على الذكاء الاصطناعي. لكن المهمة الأكثر جوهرية، كما قد يذكرنا ريكاردو، تتمثل في تغيير السرد العام حول الذكاء الاصطناعي. وربما يكون بوسعنا أن نقول إن الدرس الأكثر أهمية المستفاد من حياته وعمله يتلخص في حقيقة مفادها أن الآلات ليست بالضرورة طيبة أو شريرة في حد ذاتها. بل يعتمد تسببها في تدمير الوظائف أو خلقها على كيفية نشرها، وعلى هوية الأشخاص الذين يتخذون مثل هذه الاختيارات. في زمن ريكاردو، تولى كادر صغير من أصحاب المصانع اتخاذ القرار، وتركزت قراراتهم على الأتمتة وضغط العمالة بأكبر قدر ممكن من القسوة.

اليوم، يبدو أن كادرا أصغر من قادة التكنولوجيا يسلكون ذات المسار. لكن التركيز على خلق فرص ومهام جديدة للبشر، واحترام الأفراد كافة، من شأنه أن يضمن نتائج أفضل كثيرا. ولا يزال من الممكن أن يكون الذكاء الاصطناعي داعما للعمال، ولكن فقط إذا تمكنا من تغيير اتجاه الإبداع في صناعة التكنولوجيا وإدخال ضوابط تنظيمية ومؤسسات جديدة.

وكما كانت الحال في أيام ريكاردو، سيكون من السذاجة أن نثق في إحسان قادة الأعمال والتكنولوجيا. لقد تطلب الأمر إصلاحات سياسية كبرى لإنشاء ديمقراطية حقيقية، وإضفاء الشرعية على النقابات العمالية، وتغيير اتجاه التقدم التكنولوجي في بريطانيا أثناء الثورة الصناعية. ونحن اليوم نواجه ذات التحدي الأساسي.

* دارون عاصم أوغلو، أستاذ الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومؤلف مشارك (مع جيمس أ.روبنسون) لكتاب لماذا تفشل الأمم: أصول القوة والازدهار والفقر ومؤلف مشارك (مع سايمون جونسون) القوة والتقدم: كفاحنا المستمر منذ ألف عام على التكنولوجيا والازدهار

** سيمون جونسون، كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، وأستاذ في كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ورئيس مشارك لتحالف سياسة COVID-19، ورئيس مشارك في مجلس المخاطر النظامية لمعهد CFA. وومؤلف مشارك (مع دارون أسيموغلو) لكتاب "السلطة والتقدم: كفاحنا منذ ألف عام على التكنولوجيا والازدهار"

https://www.project-syndicate.org/

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي