الحقيقة الوسطى فيما يتصل بفوضى التضخم

بروجيكت سنديكيت

2024-02-19 06:02

بقلم: باري آيكنجرين

بيركلي ــ طوال ثلاث سنوات بالتمام، كانت مهنة الاقتصاد تركز بشكل جماعي على التضخم. كان شهر فبراير/شباط من عام 2021، قبل 36 شهرا على وجه التحديد، المرة الأخيرة التي كان فيها تضخم مؤشر أسعار المستهلك في الولايات المتحدة (كل البنود، ونسبة التغير في 12 شهرا) عند المستوى المستهدف 2% الذي حدده بنك الاحتياطي الفيدرالي، أو أقل منه.

الآن، تُـظـهِـر نوبة التضخم الأخيرة الأعلى من المستوى المستهدف علامات تشير إلى اقترابها من نهايتها. يُـعَـد "إظهار العلامات"، بطبيعة الحال، رمزا لحقيقة مفادها أن لا أحد يستطيع أن يُـجزِم أبدا. فقد تُـفـضي أي صدمة أخرى ــ ارتباكات في الأسواق المالية أو حدث جيوسياسي كبير، على سبيل المثال ــ إلى إخراج اتجاه انحسار التضخم عن مساره. ولكن حتى الآن يبدو أن هذا المسار يتجه مباشرة نحو 2%.

أملي أن نكون تعلمنا شيئا من هذه السنوات الثلاث المؤلمة. في الماضي، كانت زيادات الأسعار الحادة تعمل كحافز للتقدم في إدارة التضخم. لقد تعلمنا من بعض النوبات أهمية الحفاظ على استقلالية البنك المركزي حتى يتمكن من التصرف دون أي اعتبارات سياسية. ومن نوبات أخرى تعلمنا أن البنوك المركزية تحتاج إلى إنشاء تسلسل هرمي لأولويات السياسة ونقل هذه الأولويات إلى الأسواق المالية وعامة الناس.

ولكن هذه المرة، ليس من الواضح ماذا تعلمنا، إن كنا تعلمنا أي شيء. الحق أن التفكير في الأسباب التي أدت إلى نوبة التضخم الأخيرة، ولماذا تبدو زيادات الأسعار في انحسار الآن، يظل مشوشا.

يتعلق الارتباك الرئيسي هنا بالدور الذي يضطلع به بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. فهل يستحق اللوم عن ارتفاع التضخم في أوائل عام 2021 وما يقابله من فضل في الانخفاض الأخير؟

تتلخص إحدى وجهات النظر في أن تسارع التضخم لا علاقة له بالسياسة النقدية. بل كان تسارعه راجعا إلى صدمات العرض: الانخفاض المرتبط بجائحة كوفيد-19 في مستويات المشاركة في قوة العمل، وتعطل سلاسل التوريد، ونقص الطاقة. كانت استجابة الاحتياطي الفيدرالي بطيئة لكنها كانت مناسبة. ذلك أن التحرك بسرعة أكبر لم يكن ليعزز توافر أشباه الموصلات، أو يساعد في ترويض التضخم الناجم عن نقص الـمُـدخلات. وما كان لـيـفـضي إلا إلى تفاقم دورة الانكماش الاقتصادي التي كانت جارية في عام 2020 وأوائل عام 2021.

على ذات المنوال، يزعم بعض المراقبين أن بنك الاحتياطي الفيدرالي لعب دورا ضئيلا في انخفاض التضخم الأخير. فإذا كان التضخم انخفض بسبب إصلاح سلاسل التوريد المعطلة ولأن العمال الذين تركوا قوة العمل عادوا إليها مرة أخرى، فإن ذات النتيجة السعيدة كانت لتتحقق من دون أسعار فائدة أعلى. علاوة على ذلك، إذا كانت الطريقة الرئيسية التي تؤدي بها أسعار الفائدة المرتفعة إلى قمع التضخم تتلخص في خفض الإنفاق وزيادة البطالة، فلن يتوفر لدينا سوى قِـلة من الأدلة التي تشير إلى حدوث أي تأثير: إذ يظل الإنفاق قويا والبطالة عند أدنى مستوياتها تاريخيا.

هذا الرأي صحيح وشديد البساطة. فإلى جانب صدمات العرض، لعب الطلب والتوقعات ــ وهي العوامل التي تقع بالكامل ضمن قدرة بنك الاحتياطي الفيدرالي على التأثير ــ دورا ملموسا في نوبة التضخم الأخيرة في أميركا.

مع اندلاع جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، وجدت الأسر الأمريكية نفسها وقد أصبح دخلها أقل بمقدار 30 مليار دولار شهريا مقارنة بأحوالهم في اقتصاد طبيعي. ولكن بين قانون CARES ومشروع قانون الإغاثة الاقتصادية أثناء جائحة كوفيد-19 الذي وقعه الرئيس دونالد ترمب في عام 2020، وخطة الإنقاذ الأمريكية التي أقرها الرئيس جو بايدن في أوائل عام 2021، قدمت الحكومة 200 مليار دولار شهريا في هيئة تخفيضات ضريبية وزيادات في الإنفاق لسد فجوة الدخل هذه التي بلغت 30 مليار دولار.

من حسن الحظ أن هذه التدابير أفضت إلى الحد من الضائقة بين الأسر والشركات المتأثرة سلبا. ولكن من الصعب أن نتصور أنها كانت لتساعد أيضا في تجنب تأجيج التضخم ــ خاصة وأن العرض كان مقيدا.

حتى مع التسليم بأن الطلب القوي كان جزءا من قصة التضخم، فهل كانت السياسة النقدية التقييدية التي انتهجها الاحتياطي الفيدرالي هي حقا التي أوصلت القصة إلى نهايتها السعيدة؟ ذلك أن ما كان حافزا ماليا قويا في الربع الأول من عام 2021 لم يدم طويلا. فقد تحرك مقياس الأثر المالي الذي يستخدمه مركز هاتشينز، والذي يوضح كيف يساهم تغير الموقف المالي في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، إلى المنطقة السلبية بالفعل في الربع الثاني من عام 2021 ــ وظل هناك. وعلى هذا فربما كانت السياسة المالية سبب اندلاع مشكلة التضخم وحلها في آن واحد.

السبب الرئيسي وراء الشك في اضطلاع بنك الاحتياطي الفيدرالي بدور ملموس في انحسار التضخم هو أن البطالة لم ترتفع بمجرد أن بدأ صناع السياسات في رفع أسعار الفائدة. وفقا لوجهة النظر هذه، يستلزم كبح التضخم أن تعمل أسعار الفائدة الأعلى على منع الشركات من الاستثمار وتشغيل العمالة، وبالتالي تثبيط عزيمة الأسر، التي انزلقت حديثا إلى حالة من انعدام اليقين بشأن مستقبلها، عن الإنفاق بذات المستوى التي تعودت عليه من قبل.

لكن وجهة النظر هذه تتجاهل مصداقية سياسة البنك المركزي وقنوات التوصيل التي يستعين بها. فقد أشار الاحتياطي الفيدرالي بما لا يدع مجالا للشك إلى أنه في حال عدم انخفاض التضخم لن يتردد في بذل مزيد من الجهد، حتى على حساب ارتفاع معدلات البطالة. كما أعلن أنه لن يسمح للتضخم بالاستمرار، مما أدى إلى اعتدال الحاجة المتصورة لزيادات الأجور. الواقع أن نمو الأجور تسارع حقا، ولكن ليس بشكل مُـفـرِط. وبدوره، تسبب هذا الاعتدال في منع ارتفاع معدلات البطالة في حين عمل أيضا على الحد من احتياج الاحتياطي الفيدرالي إلى بذل مزيد من الجهد.

الدرس المستفاد إذن هو أن السياسة النقدية ليست التفسير الكامل لصعود وهبوط التضخم في الولايات المتحدة. لكنها أيضا ليست عديمة الأهمية، كما يتصور بعض منتقدي الاحتياطي الفيدرالي.

* باري آيكنجرين، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وهو كبير مستشاري السياسات الأسبق في صندوق النقد الدولي. وهو مؤلف العديد من الكتب، بما في ذلك في الدفاع عن الدين العام
https://www.project-syndicate.org

ذات صلة

مستقبل عضوية فلسطين في الأمم المتحدة وآثارهاالتعليم العالي: المشهد المحذوفضرورة الشراكة العراقية التركيةالخواطر النفسانية والوساوس الشيطانيةالسياسية الامريكية في المنطقة فقاعة ضارة