الحرب والدولار
بروجيكت سنديكيت
2023-10-31 07:30
بقلم: هارولد جيمس
برلين ــ رويدا رويدا، نقترب من أول صراع عالمي في عصر ما بعد الحرب الباردة. إبان الحرب الباردة، ساعَـد اثنان من العوامل اليقينية الثابتة على الحفاظ على استقرار الأمور (على الرغم من خطورتهما)؛ الآن لم يعد لهذين العاملين وجود: توازن الرعب النووي ("الدمار المتبادل المؤكد") وهيمنة الدولار الأميركي، الذي يُــنـظَـر إليه على نطاق واسع على أنه سلاح نووي مالي.
كانت الـسِـمة الفريدة المشتركة بين هاتين الأداتين اللتين تتمتعان بقوة مادية ومالية متفجرة أن استخدام أي منهما لم يكن واردا حقا. ذلك أن استخدام أي من الخيارين كان يعني فعليا تدمير الذات، نظرا لكل التأثيرات الارتدادية، والأضرار الجانبية، والعواقب غير المقصودة التي قد تترتب على ذلك. وعلى هذا فإن القوة الكامنة فيهما كانت تجريدية أكثر من كونها ملموسة.
الآن، تغير الموقف. فلا يخلو الأمر من صراعات مستمرة حيث قد يشعر أحد الأطراف بالإحباط إلى الحد الذي يجعله يستخدم سلاحا نوويا، كما دأب الرئيس الروسي فلاديمير بوتن على التهديد بأن يفعل منذ غزا أوكرانيا. وكان الدولار يُـسـتَـخدَم بالفعل كسلاح بشكل كامل كوسيلة لنشر العقوبات المالية والحفاظ على الردع.
صحيح أن المشكلات الناجمة عن هيمنة الدولار كانت قائمة لفترة طويلة ــ طويلة إلى الحد الذي يجعل أولئك الذين يتنبؤون بزواله يلقون معاملة "الصبي الذي صرخ... الذئب". في أواخر ستينيات القرن العشرين، تصدى رجل الاقتصاد روبرت مونديل الحائز على جائزة نوبل لمن أعلنوا انحدار الدولار في عصره (وأغلبهم في فرنسا)، بإطلاق تكهن غير عادي من ثلاثة أجزاء بدا بعيد الاحتمال في ذلك الوقت. فقد توقع على وجه التحديد تفكك الاتحاد السوفييتي؛ وسعي أوروبا إلى إنشاء اتحاد نقدي؛ وبقاء الدولار باعتباره العملة الدولية الرائدة طوال حياته. وتبين أنه كان مُـحِـقا في كل ما تكهن به (توفي قبل عامين).
لكن الدولار أصبح اليوم عُـرضة على نحو متزايد للاضطرابات المالية، وهو ما يتجلى بوضوح في أسواق السندات التي تدقق في الدين العام الأميركي الطويل الأجل. هذه المشكلات ذات طبيعة فنية جزئيا، بطبيعة الحال؛ لكنها أيضا سياسية. ففي غياب أسباب انعدام اليقين بشأن موقف أميركا المالي في الأمد البعيد، ستظل الأسواق هادئة. لكن إدارة الرئيس جو بايدن نشرت استثمارات عامة ضخمة في وقت حيث أصبح الكونجرس الأميركي مختلا بشكل كامل، الأمر الذي يلقي بظلال من الشك على قدرة الإدارة حتى على الإبقاء على الحكومة عاملة وسداد الديون. ومن المرجح أن تكون هذه الالتزامات المالية ــ التي أفضت إلى نمو اقتصادي قوي ــ والجمود السياسي الحالي من سمات الحكم الطويلة الأمد في الولايات المتحدة.
الدولار معرض للخطر أيضا لأن العالَـم يحاول من خلال وصل النقاط فهم استراتيجية الولايات المتحدة في الدفاع عن أوكرانيا ضد العدوان الروسي؛ والدبلوماسية في الشرق الأوسط، التي أخرجتها حركة حماس الآن عن مسارها؛ والجهود الرامية إلى الحفاظ على السلام في مضيق تايوان. والنقاط بالطبع هي الدولارات. كما لاحظ نائب مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق خوان زاراتي قبل عشر سنوات، فإن العقوبات تحقق نجاحا بالغا ضد الدول الصغيرة والمعزولة نسبيا؛ ولكن كلما كان الهدف أكبر، كلما ازداد الضرر الذي تلحقه العقوبات بأولئك الذين يفرضونها.
يتمثل سبب آخر وراء ضعف الدولار حاليا في الشكوك العميقة التي تساور عدد كبير من الأميركيين الآن إزاء ما يسمى العولمة المفرطة والاعتماد المفرط على التمويل. من الواضح أن أنجوس ديتون، رجل الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل، كانت يتحدث بلسان كثيرين عندما نشر كتابا جديدا انتقد فيه بقسوة غيره من خبراء الاقتصاد الذين ساعدوا في تحويل العالَـم إلى مكان غير متكافئ إلى الحد الذي يستفز أعمال العنف والثورات. كما أشار ديتون إلى أن الوضع في أميركا اليوم يذكرنا بالتفكك الاجتماعي في أواخر العهد السوفييتي في روسيا.
الواقع أن الانتخابات الرئاسية المرتقبة في الولايات المتحدة في عام 2024 ستجمع بين كل عناصر فوضى الدولار هذه، وخاصة إذا كان الاقتصاد راكدا في ذات الوقت. في خضم مثل هذه الاضطرابات المالية، ربما يضيف هذا السيناريو إلى جاذبية أولئك الذين يقترحون تخلي أميركا عن دورها القيادي والمواقف السياسية التي تبنتها بعد عام 1945. لقد أبقت إدارة بايدن في نهاية المطاف على أغلب التعريفات الجمركية التي فُـرِضَت في عهد ترمب، وفشلت المحادثات الأميركية مع الاتحاد الأوروبي بشأن خفض التعريفات والتصدي لصادرات الصين من الصلب بطرق متوافقة مع منظمة التجارة العالمية. الأمر ينطوي على خطر حقيقي للغاية يتمثل في خوض الديمقراطيين والجمهوريين حملاتهم الانتخابية على وعد بالتحول بعيدا عن العولمة.
من الواضح أن المجتمع الدولي في احتياج إلى مبادئ توجيهية أفضل لإدارة الدبلوماسية المالية أشبه بتلك التي جرى تطويرها في وقت لاحق أثناء سباق التسلح النووي إبان الحرب الباردة. في عام 1969، بدأت القوى العظمى العالمية تتخذ خطوات لجعل العالم أكثر أمانا عبر محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية (SALT)، وهي عملية طويلة تمخضت عن معاهدات الحد من الأسلحة الاستراتيجية. ورغم أن احتواء وتقييد استخدام الأسلحة النووية لا يزال يشكل أولوية قصوى في نظر المجتمع الدولي، فلابد وأن يُـضـاف منع التدمير الذاتي المالي إلى الأجندة.
إن وقف تحويل القنوات المالية العالمية إلى "سلاح نووي" يعني إعادة الاتصال بموضوعات تسوية ما بعد عام 1945. في مؤتمر بريتون وودز ومؤتمر الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو، كان الاقتصاد والأمن وجهين لعملة واحدة. لكن العلاقة الوثيقة بين الأمم المتحدة ومؤسسات بريتون وودز (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) كانت معيبة. كان أكبر خمسة مساهمين في المؤسسات المالية الدولية هم أيضا الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. لكن قوة سلطة النقض التي يمتلكها الأعضاء الدائمون دمرت فعالية تلك الهيئة، والآن تسربت روح سلطة النقض إلى مؤسسات بريتنون وودز عبر قواعد التصويت بالأغلبية المطلقة.
بالاستعانة بإجراءات أبسط لاتخاذ القرار على أساس الأغلبية، يصبح من الممكن تأسيس عملية قضائية للتعامل مع العقوبات المالية وفرضها ــ بما في ذلك مصادرة الأصول ــ على الدول المارقة مثل روسيا. ومن الممكن أن تسير محادثات الحد من الأسلحة النقدية على خُـطى محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، ليتوج الأمر في النهاية بمعاهدة الحد من الأسلحة النقدية.
يجب أن يكون هذا أولوية قصوى. ذلك أن النظام النقدي الدولي الأكثر قوة من شأنه أن يعمل على توليد قدر أعظم من الأمان من خلال خلق قدرة عالمية أقوى للوقاية من انتهاكات السلام ووقف الزيادة المثيرة للقلق التي طرأت على تواتر هذه الانتهاكات.