العقوبات المفروضة على روسيا بدأت تؤتي ثمارها
بروجيكت سنديكيت
2023-08-29 03:11
سيرجي جورييف
باريس ــ في غضون أيام من الغزو الكامل النطاق الذي شنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتن ضد أوكرانيا قبل ثمانية عشر شهرا، فَـرَضَ الغرب عقوبات غير مسبوقة على البنك المركزي الروسي، فَـجَـمَّـدَ مئات المليارات من الدولارات من أصوله. سَـجَّـل الروبل هبوطا شديدا ليصل إلى مستوى قياسي من الانخفاض بلغ 136 مقابل الدولار الأميركي بعد أسبوع من الغزو. ولكن بعد أن فَـرَضَ البنك المركزي ضوابطه على الـعُـملة ورؤوس الأموال، ارتد الروبل إلى الارتفاع ليصل إلى 51.5 مقابل الدولار ــ وهو التعافي الذي رَوَّجَ له الكرملين بحماس.
اليوم، أصبح ما قد يدعو قادة روسيا إلى الاحتفال أقل كثيرا. يقدم سعر صرف الروبل المؤشر الأكثر وضوحا للأداء الاقتصادي في روسيا، على الأقل بالنسبة إلى الأُسَـر الروسية. وعلى هذا فقد كان انخفاض قيمة العملة بشدة مؤخرا إلى ما دون العتبة المهمة سياسيا، 100 روبل مقابل الدولار، سببا في إصابة الكرملين بالتوتر والعصبية. كما تسبب هذا في تعريض البنك المركزي ــ الذي عمل خلال العام الفائت على تخفيف أو إزالة عدد كبير من ضوابط رأس المال ــ لسيل منهمر من الانتقادات الشديدة.
دأب مساعد بوتن الاقتصادي، مكسيم أوريشكين، على انتقاد البنك المركزي لكونه متشددا بدرجة مُـفـرِطة. لكنه بعد تدهور الروبل الأخير، كتب مقالة افتتاحية يلوم فيها صناع السياسات على كونهم مفرطين في "التساهل" وأنهم سمحوا بالنمو الائتماني الـمفرط. على الفور، دعا البنك المركزي إلى اجتماع استثنائي لمجلس الإدارة، حيث قرر رفع أسعار الفائدة بنسبة هائلة (3.5 نقطة مئوية)، وأشار إلى أن مزيدا من الارتفاعات من المرجح أن تأتي في الشهر المقبل. كما يبدو أن ضوابط إضافية للعملة مطروحة على الطاولة. من ناحية أخرى، يُـقـال إن وزير المالية أنطون سيلوانوف يدعو إلى إرغام الـمُـصَـدِّرين الروس على إعادة عائداتهم الدولارية إلى الوطن وبيعها للبنك المركزي.
بكل تأكيد، لا يوجد سبب يحملنا على الاعتقاد بأن اقتصاد روسيا أصبح على حافة الانهيار. لا تنطوي العتبة 100 روبل مقابل الدولار على أي شيء سحري. وكان رفع أسعار الفائدة مؤخرا رد فعل نموذجيا لارتفاع التضخم؛ وكان القائمون على البنوك المركزية الغربية ليفعلوا ذات الشيء. مع ذلك، سلط انخفاض قيمة العملة الضوء على حجم الضغوط التي ألقتها الحرب ــ والعقوبات المفروضة ردا على الحرب ــ على عاتق الاقتصاد الروسي.
في إبريل/نيسان من عام 2022، كتبت أن بوتن لا ينبغي له أن يحتفل بارتفاع قيمة الروبل، الذي عكس تطورين سيتبين في نهاية المطاف مدى الضرر الذي يفرضانه على الاقتصاد الروسي. أولا، انخفضت الواردات نتيجة للعقوبات الغربية، الأمر الذي أدى إلى خسارة القدرة على الوصول إلى السلع الاستهلاكية المستوردة والمدخلات الوسيطة، وبالتالي تقييد القدرة التصنيعية في روسيا. ثانيا، ازدادت عائدات تصدير النفط ــ وهو التطور الذي من شأنه أن يحفز الحكومات الغربية ويحملها على فرض حظر نفطي وتحديد سقف لأسعار النفط الخام الروسي.
هذا هو ما حدث على وجه التحديد. ففي مايو/أيار من عام 2022، أعلنت أوروبا أن حظرا على نحو 90% من واردات النفط الروسية سيدخل حيز التنفيذ في غضون ستة إلى ثمانية أشهر. بعد ذلك بفترة وجيزة، وافقت دول مجموعة السبع على سقف السعر.
سمح تأخير تطبيق هذه السياسات للرئيس الروسي بوتن بالحصول على عائدات ضخمة. ورغم أن الغرب جَـمَّـدَ نحو 300 مليار دولار من احتياطيات البنك المركزي الروسي، فإن فائض الحساب الجاري غير المسبوق الذي سجلته روسيا في عام 2022 بنحو 227 مليار دولار يكاد يعوض عن المبلغ المجمد. لكن طفرة الثروة هذ انتهت بالفعل: في النصف الأول من هذا العام، انخفضت عائدات روسيا من النفط والغاز بمقدار النصف تقريبا، الأمر الذي دفع العجز إلى النمو بنحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي.
كما تسبب الحظر النفطي وسقف الأسعار في انخفاض إجمالي صادرات روسيا بشدة بمقدار الثلث على أساس سنوي خلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى يوليو/تموز 2023. نتيجة لهذا، تقلص الفائض التجاري الروسي من 204 مليار دولار إلى 64 مليار دولار، وانخفض فائض الحساب الجاري إلى السُـدس تقريبا، من 165 مليار دولار إلى 25 مليار دولار فقط.
كما كان متوقعا، تسبب الانخفاض الحاد في الإيرادات من صادرات النفط والغاز في إحداث تدهور سريع في وضع روسيا المالي. لبرهة من الزمن، بدا الأمر وكأن قادة روسيا غير منزعجين: فلا تزال روسيا تحتفظ باحتياطيات كبيرة من عُـملة الرنمينبي، أي أنها قادرة على تحمل العجز في ميزانيتها. وتظل الحرب في أوكرانيا على رأس أولويات الكرملين: في النصف الأول من هذا العام وحده، كان الإنفاق العسكري الروسي أعلى بنسبة 12% من المبلغ المدرج في ميزانية العام بأكمله.
إلى جانب تمويل الحرب، كانت الحكومة الروسية تأمل أن يمنح الإنفاق المستمر الاقتصاد دَفعة كينزية (بما يتفق مع نظريات جون ماينارد كينز). لكن هذه الآمال لم تتحقق، ويرجع هذا على وجه التحديد إلى العقوبات التجارية التي قوضت قدرة روسيا الإنتاجية. بعد انعزاله عن الغرب وخسارته مئات الآلاف من العمال بسبب الحرب والهجرة، لم يعد اقتصاد روسيا قادرا على تحقيق المستوى من الإنتاج الذي يريده بوتن.
مع فرط نشاط الاقتصاد في روسيا، عملت زيادة الإنفاق الحكومي ببساطة على تغذية التضخم. إذا أضفنا إلى هذا تدفقات رأس المال المستمرة من الخارج ــ والتي تسارعت بعد إجهاض تمرد رئيس مجموعة فاجنر، يفجيني بريجوزين، في يونيو/حزيران ــ نجد أن انخفاض قيمة الروبل مؤخرا كان متوقعا. ولا ينبغي لقرار البنك المركزي بالضغط على المكابح أن يفاجئ أحدا، على الرغم من التأثير المحتمل الذي قد تخلفه أسعار الفائدة الأعلى على نمو الناتج. تتوقع بلومبرج الآن ارتفاع احتمال حدوث الركود في روسيا في الأشهر الستة المقبلة إلى 21%، مقارنة بنحو 6% قبل رفع أسعار الفائدة.
من الواضح أن العقوبات بدأت تُـحـدِث التأثير المنتظر منها بالفعل. لكن قدرة بوتن المستمرة على تمويل حربه في أوكرانيا توضح ضرورة بذل المزيد من الجهد. في ضوء الأساليب المدروسة المعقدة التي ابتكرتها الشركات للالتفاف حول الحظر النفطي وسقف الأسعار، يتعين على الغرب الآن أن يعمل على سد ثغرات العقوبات، في حين يواصل خفض سقف سعر النفط من 60 دولارا للبرميل اليوم إلى 50 أو 55 دولارا للبرميل، أو حتى أقل.
الأمر المهم الآخر الذي تعلمناه من الهبوط الذي شهده الروبل مؤخرا هو أن بوتن قادر على التحايل على العقوبات التجارية. الواقع أن الروبل أرخص الآن لأن روسيا تحتاج إلى الدولار الأميركي لدفع فاتورة وارداتها، التي تنامت بنحو الثلث على أساس سنوي ــ من 57 مليار دولار إلى 76 مليار دولار ــ في الربع الثاني من عام 2023. تعكس هذه الزيادة جزئيا ارتفاع تكاليف الالتفاف حول العقوبات، مما يؤدي إلى تفاقم الضغوط المفروضة على ميزانية روسيا وعملتها. من خلال إحكام عملية فرض ضوابط التصدير، يستطيع الغرب أن يرفع هذه التكاليف إلى مستويات أعلى، وهذا من شأنه أن يفرض على ميزانية روسيا ــ وبالتالي جهودها الحربية الإجرامية ــ ضغوطا خانقة.