ركائز الأمن الاقتصادي
صندوق النقد الدولي
2023-06-21 08:36
بقلم: رالف أوسا
الانقطاعات الحالية في سلاسل الإمداد تعيد التأكيد على أهمية النظام التجاري متعدد الأطراف القائم على قواعد منظمة التجارة العالمية
بات الأمن الاقتصادي في صدارة المناقشات حول السياسات في الوقت الذي أدت فيه مجموعة من الأزمات – جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا في الآونة الأخيرة – إلى انقطاعات في سلاسل الإمداد العالمية. وتعكف الحكومات حول العالم على تحري السبل لجعل البلدان أقل عرضة لتلك الانقطاعات، لا سيما في الوقت الحالي الذي تضيف فيه الاضطرابات الجغرافية-السياسية المتصاعدة بعدًا جديدًا إلى حالة عدم اليقين السائدة. وفي هذا الصدد، أصبحت إعادة توطين الأنشطة والتوريد من الدول الصديقة من التوصيات الشائعة على مستوى السياسات، وزاد الحديث عن التفكك العالمي.
وفي هذا المقال، أطرح رؤية مختلفة تؤكد على المنافع المتأتية من قوة النظام التجاري متعدد الأطراف القائم على قواعد منظمة التجارة العالمية. وأدلل على أن مثل هذا النظام هو أفضل ضمان للأمن الاقتصادي لما يتيحه من مرونة غير مسبوقة للأسر والشركات المتضررة من نقص الإمدادات. أما أين قد يقع عجز الإمدادات أو من لديه القدرة على التدخل، فهي أسئلة يصعب التنبؤ بإجابتها، مما يجعل من الضروري توفير مجموعة واسعة من الخيارات الخارجية.
وهناك شواهد متزايدة على أن "الأمن المرن" الذي يتيحه نظام التجارة متعدد الأطراف قد أثبت فعالية كبيرة في التخفيف من نقص الإمدادات. وتكيف إثيوبيا مع الحرب الفادحة في أوكرانيا هو مثال واضح على ذلك. فكما أشار تقرير منظمة التجارة العالمية الذي صدر مؤخرًا حول التداعيات التجارية للحرب، استوردت إثيوبيا 45% من القمح من روسيا وأوكرانيا قبل الحرب ثم شهدت لاحقًا تراجعًا حادًا في حجم هذه الواردات – بنسبة 75% في حالة روسيا و99,9% في حالة أوكرانيا. غير أن إثيوبيا استطاعت التصدي لهذه الانقطاعات من خلال الزيادة الكبيرة في واردات القمح من الولايات المتحدة والأرجنتين رغم عدم استيرادها القمح من الأرجنتين من قبل. وهكذا، يتضح أن مثل هذا الإحلال الفوري بين الموردين البدلاء كان ليصبح أكثر صعوبة في اقتصاد عالمي متفكك.
وضع سلاسل الإمداد العالمية
تعكس الشواهد تركزًا كبيرًا في سلاسل الإمداد العالمية. فعلى سبيل المثال، لا نجد تنوعًا في سلاسل الإمداد إلا في قلة قليلة من الشركات الأمريكية من حيث استيراد نفس المنتج من أكثر من بلد (دراسة Antràs, Fort, and Tintelnot 2017). واستنادا إلى البيانات الاقتصادية الكلية، تشير تقديرات اقتصاديي منظمة التجارة العالمية إلى أن 19% من الصادرات العالمية تُصنف ضمن فئة منتجات "عنق الزجاجة"، التي تُعرف بأنها المنتجات المتاحة من خلال عدد محدود من الموردين رغم حصتها السوقية الكبيرة (راجع دراسة Majune and Stolzenburg التي تصدر قريبًا). ومما يثير الاهتمام أن هذه الحصة تضاعفت خلال العقدين الماضيين، مما يعني أن سلاسل الإمداد العالمية أصبحت أقل تنوعًا بمرور الوقت.
وقد نميل إلى تفسير هذه الحقائق باعتبارها شواهد بديهية على نقص التنوع، ولكن كونها مجرد انعكاس للتكاليف الغارقة الباهظة في تكوين سلاسل القيمة العالمية هو الاحتمالية الأكبر. فالشركات تتحمل تكلفة كبيرة في تحديد المورد الأجنبي المناسب، وتنسيق عمليات الإنتاج، وبناء علاقات موثوقة، ومن ثم فإن عليها ترشيد استراتيجيات التوريد العالمية. والأهم من ذلك أن الشركات لها مصلحة كبيرة أيضًا في تجنب انقطاعات سلاسل الإمداد نظرًا لتأثيرها المباشر على ميزانياتها النهائية. وحسب تقديرات شركة ماكينزي، فإن انقطاعات سلاسل الإمداد تكلف الشركات ما يزيد عن 40% من أرباحها السنوية خلال العقد الواحد في المتوسط.
كذلك يشير تباطؤ تكيف سلاسل الإمداد العالمية مع الاضطرابات التجارية بين الصين والولايات المتحدة إلى وجود تكاليف غارقة باهظة. ويمكن بالفعل رصد البوادر الأولى على هذا الانفصال في عدد من المنتجات شديدة الانكشاف، كما أشار تشاد باون مؤخرًا. ولكن مما يثير الدهشة أن حجم التجارة الثنائية بين الصين والولايات المتحدة سجل مستويات قياسية عام 2022 بالرغم من استمرارهما في فرض تعريفات جمركية مرتفعة.
وعلى مستوى الاقتصاد الكلي، تجدر الإشارة إلى أن التخصص على مستوى البلدان هو نتيجة طبيعية لقوى الميزة النسبية وأحد المصادر المعتادة للمكاسب التجارية. وقد أشرت بالفعل في دراسات أخرى إلى أن منافع التجارة تكمن تحديدًا فيما توفره من فرص الحصول على المنتجات التي يصعب العثور على بدائل محلية لها، وذلك باعتبار أن العشرة بالمائة من المنتجات الأكثر أهمية تمثل 90% من مكاسب التجارة (دراسة Ossa 2015). ويتضح من ذلك أن التنوع في إنتاج منتجات "عنق الزجاجة" المشار إليها آنفًا يفرض على الأرجح تكلفة كبيرة على مستويات الرخاء.
وحسب تقديرات اقتصاديي منظمة التجارة العالمية، قد يؤدي تفكك الاقتصاد العالمي إلى كتلتين متنافستين إلى الحد من الدخول الحقيقية بنسبة 5,4% في المتوسط، بينما تساهم إعادة إحياء التعددية في زيادة الدخول الحقيقية بنسبة 3,2%، وبالتالي تبلغ تكلفة الفرصة البديلة للتحول إلى المنافسة الجغرافية-السياسية بدلًا من التعاون الدولي 8,6%. وتجدر الإشارة إلى أن تكاليف الفرصة البديلة تتراوح ما بين 6,4% بالنسبة للاقتصادات المتقدمة و10,2% بالنسبة للاقتصادات النامية لتصل إلى 11,3% بالنسبة للاقتصادات الأقل نموًا. وتواجه البلدان منخفضة الدخل المخاطر الأكبر على الإطلاق نظرًا لأنها الأكثر استفادة من الآثار التكنولوجية الإيجابية المقترنة بالتجارة الدولية.
أهمية التدخل من خلال السياسات
صدرت مؤخرًا دراسة تتضمن تحليلًا أكثر دقة لأهمية التدخل من خلال السياسات لمواجهة الانقطاعات المحتملة في سلاسل الإمداد (دراسة Grossman, Helpman, and Lhuillier 2023). ويشير المؤلفون إلى إخفاقين سوقيين متقابلين يمكن تصحيحهما من خلال السياسات. فمن ناحية، تجد الشركات حافزًا على عدم ضخ استثمارات كافية في صلابة سلاسل الإمداد نظرًا لما يتحمله المستهلكون من تكلفة جزئية نتيجة انقطاعات سلاسل الإمداد. ومن ناحية أخرى، فإن الشركات لديها الحافز على زيادة الاستثمارات في صلابة سلاسل الإمداد التي قد تتيح لها الاستفادة من فرص الربح الاستثنائية المقترنة بانقطاعات سلاسل الإمداد. والخلاصة أن أهمية التدخل من خلال السياسات محدودة، وربما ترغب الحكومات في التشجيع على إعادة توطين النشاط، أو الإنتاج في الخارج، أو كليهما، أو تجنب الخيارين.
ويعني ذلك بالضرورة ضعف الحجة للتدخل في سلاسل الإمداد العالمية من خلال السياسات. والصلابة مرغوبة ولكنها مكلفة، ولا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن الشركات دائمًا ما تكون أقل أو أكثر عرضة من اللازم لمخاطر سلاسل الإمداد. ولكن علينا أن نقر بأن هذا التحليل يستند إلى بعض اعتبارات الأمن القومي التي تشير إليها المناقشات الجارية حول السياسات. ففي ظروف معينة، يمكن القول بأن الشركات لا تراعي العوامل الأمنية الخارجية المرتبطة بأنشطتها التجارية – مما قد يبرر حينها التدخل المحدود في سلاسل الإمداد العالمية لمراعاة تلك العوامل.
وتتسق هذه الاعتبارات النظرية إلى حد كبير مع الشواهد المتاحة. فقد أثبتت التجارة العالمية صلابة ملحوظة – وكانت أيضًا من مصادر الصلابة المهمة – أثناء الجائحة والحرب في أوكرانيا. فعقب تفشي كوفيد-19، تعافت التجارة بعد مرور ثلاثة أرباع على الهبوط الذي شهده الربع الثاني من عام 2020، وزودت الأسر باحتياجاتها من الكمامات واللقاحات والأجهزة اللازمة للعمل من المنزل لمواجهة حالة الطوارئ التي هددت الصحة العامة. وبعد عام منذ بداية الحرب في أوكرانيا، لا يزال أداء التجارة يتجاوز التوقعات عقب التراجع المبدئي في بعض المنتجات، مثل القمح. وقد ساعد ذلك في ضمان تجنب نقص الغذاء إلى حد كبير، حتى في البلدان شديدة الانكشاف مثل مصر وإثيوبيا وتركيا.
أهمية النظام التجاري متعدد الأطراف القوي
يتضح من هذه الاعتبارات أن الدور الأساسي للسياسات يكمن في إتاحة الإطار الاقتصادي اللازم لازدهار سلاسل الإنتاج الصلبة. ومن الجوانب المهمة لهذا الدور الدفاع عن النظام التجاري متعدد الأطراف الذي يضمن أن تظل الحواجز التجارية منخفضة وواضحة وغير تمييزية. ويجدر بنا أن نتذكر أن النظام التجاري متعدد الأطراف هو أحد إنجازات المجتمع الدولي التاريخية وليس نتاجًا طبيعيًا للسياسات التجارية الدولية. فقد أنشئ هذا النظام في لحظة حاسمة عقب الحرب العالمية الثانية بعد ثلاثة عقود كارثية شهدت تراجع العولمة.
وطبيعة النظام التجاري متعدد الأطراف باعتباره نظامًا قائمًا على القواعد من العوامل المهمة للغاية لأمن سلاسل الإمداد. فالنظام لا يحد من مخاطر انقطاعات سلاسل الإمداد الناجمة عن السياسات فحسب، بل تزداد معه أيضًا احتمالية استمرار الانفتاح السوقي عندما تكون هناك حاجة ماسة إلى توافر مصادر بديلة للإمداد. وتغيب هذه المزايا عن النظام التجاري القائم على القوى الذي يتيح للبلدان حرية تعديل السياسات التجارية حسبما يتراءى لها.
وهناك العديد من الدراسات حول أثر عدم اليقين بشأن السياسات التجارية في تقويض التدفقات التجارية. فعلى سبيل المثال، أشارت دراسة Handley (2014) إلى أن تراجع التعريفة الجمركية المفروضة يزيد من التدفقات التجارية حتى وإن ظلت التعريفة المطبقة ثابتة. والسبب في ذلك أن تراجع التعريفة المفروضة يحد من عدم اليقين بشأن السياسات التجارية من خلال تضييق نطاق التغير المحتمل في التعريفة المطبقة. وأحيانًا ما تطبق البلدان تعريفات أقل من التعريفة المفروضة بموجب التزاماتها تجاه منظمة التجارة العالمية، مما تنشأ عنه فروق بين التعريفة الملزمة والتعريفة المطبقة.
وبوجه أعم، يترتب على ذلك ضرورة الحفاظ على مصداقية النظام التجاري متعدد الأطراف. فالأهمية لا تكمن في السياسات التي تلتزم بها البلدان فحسب، بل في مدى المصداقية المعتقدة لهذه الالتزامات. ويعني ذلك أن أي انتهاكات لقواعد منظمة التجارة العالمية تنشأ عنها أضرار جانبية حادة تؤدي إلى تقويض النظام التجاري متعدد الأطراف ككل. والحفاظ على مصداقية النظام التجاري متعدد الأطراف يفرض على منظمة التجارة العالمية تحديًا مماثلًا لما تواجهه البنوك المركزية من تحد في تثبيت ركائز التوقعات التضخمية.
وجميع ما سبق لا يعني أن الإطار الاقتصادي لعمل التجارة العالمية يستحيل تحسينه. فإذا كان الهدف هو تعزيز صلابة سلاسل الإمداد العالمية، فمن الطبيعي الاسترشاد بمبدأ "إعادة صياغة العولمة" كما تسميه منظمة التجارة العالمية. فالفكرة هي العمل تجاه تحقيق عولمة أكثر شمولًا بحيث تتيح لمجموعة أكبر من البلدان المشاركة في سلاسل القيمة العالمية.