السياسة الصناعية الغربية والقانون الدولي
بروجيكت سنديكيت
2023-06-06 05:55
بقلم: جوزيف ستيغليتز
نيويورك ــ مع استنان قانون خفض التضخم العام الماضي، انضمت الولايات المتحدة بشكل كامل إلى بقية الاقتصادات المتقدمة في العالَـم في مكافحة تغير المناخ. يسمح قانون خفض التضخم بزيادة كبيرة في الإنفاق لدعم الطاقة المتجددة، والبحث والتطوير، وغير ذلك من الأولويات، وإذا صحت التقديرات بشأن نتائجه، فسوف يكون أثره على المناخ كبيرا.
صحيح أن تصميم القانون ليس مثاليا. فقد كان بوسع أي خبير اقتصادي صياغة مشروع قانون كفيل بتحقيق قدر أعظم كثيرا من الفوائد مقابل تكلفته. لكن السياسة الأميركية فوضوية، ويجب أن يُـقاس النجاح مقابل ما هو ممكن، وليس استنادا إلى فكرة مثالية نبيلة. على الرغم من النقائص التي تعيب قانون خفض التضخم فإنه أفضل كثيرا من لا شيء. ولم يكن تغير المناخ لينتظر أميركا حتى ترتب بيتها السياسي.
إلى جانب قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم ــ الذي يهدف إلى دعم الاستثمار، والتصنيع المحلي، والإبداع في إنتاج أشباه الموصلات ومجموعة من التكنولوجيات الأخرى المتطورة ــ عمل قانون خفض التضخم على توجيه الولايات المتحدة في الاتجاه الصحيح. فهو يتجاوز التمويل ليركز على الاقتصاد الحقيقي، حيث ينبغي له أن يساعد في إعادة تنشيط القطاعات المتأخرة.
الواقع أن أولئك الذين يركزون فقط على أوجه القصور التي تعيب قانون خفض التضخم يلحقون بنا الأذى جميعا. فمن خلال رفض وضع القضية في منظورها الصحيح، يساعدون ويحرضون أصحاب المصالح المكتسبة الراسخة والذين يفضلون أن نظل معتمدين على الوقود الأحفوري.
بين كبار الرافضين سنجد أولئك الذين يدافعون عن النيوليبرالية والأسواق غير المقيدة. بوسعنا أن نعزو إلى هذه الإيديولوجية ضعف النمو، واتساع فجوات التفاوت، والتقاعس عن التصدي لأزمة المناخ طوال السنوات الأربعين الأخيرة. دأب أنصار هذه الإيديولوجية على الدفع بالحجج ضد السياسات الصناعية مثل قانون خفض التضخم، حتى بعد أن أوضحت تطورات جديدة في النظرية الاقتصادية لماذا كانت مثل هذه السياسات ضرورية لتعزيز الإبداع والتغير التكنولوجي.
يعود الفضل جزئيا إلى السياسات الصناعية في تحقيق "المعجزة" الاقتصادية في اقتصادات شرق آسيا في النصف الثاني من القرن العشرين. علاوة على ذلك، استفادت الولايات المتحدة ذاتها لفترة طويلة من مثل هذه السياسات ــ وإن كانت هذه الاستفادة مخفية عادة في وزارة الدفاع، التي ساعدت في تطوير الإنترنت بل وحتى أول متصفح للإنترنت. على نحو مماثل، يستند قطاع المستحضرات الصيدلانية الرائد عالميا في أميركا إلى أساس من البحوث الأساسية الممولة حكوميا.
تستحق إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الثناء لرفضها الصريح لاثنين من الافتراضات النيوليبرالية الأساسية. على حد تعبير جيك سوليفان مستشار الأمن القومي في إدارة بايدن مؤخرا، يتلخص الافتراضان في أن "الأسواق تخصص رأس المال دائما بشكل مُـنتِـج وفَـعّـال" وأن "نوع النمو لا يشكل أهمية". بمجرد أن يدرك المرء مدى خلل مثل هذه الافتراضات، يصبح وضع السياسة الصناعية على الأجندة أمرا تلقائيا.
لكن عددا كبيرا من أكبر القضايا اليوم تتسم بطبيعة عالمية، وهي تتطلب بالتالي التعاون الدولي. حتى لو حققت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هدف خفض الانبعاثات إلى الصِـفر الصافي بحلول عام 2050، لن يكون هذا كافيا بمفرده لحل مشكلة تغير المناخ. يتعين على بقية بلدان العالم أيضا أن تفعل الشيء ذاته.
من المؤسف أن عملية صنع السياسات في الاقتصادات المتقدمة لم تكن تُـفضي مؤخرا إلى تعزيز التعاون الدولي. لنتأمل هنا قومية اللقاحات التي رأيناها أثناء الجائحة، عندما كدست الدول الغربية الغنية اللقاحات واستأثرت بالملكية الفكرية لتصنيعها، مفضلة بذلك تعزيز أرباح شركات الأدوية على احتياجات مليارات من البشر في البلدان النامية والأسواق الناشئة. ثم جاء غزو روسيا الشامل لأوكرانيا، والذي أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بشدة في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا وأماكن أخرى، دون أي مساعدة تقريبا من الغرب.
ما زاد الطين بلة أن الولايات المتحدة رفعت أسعار الفائدة، فتعززت بذلك قيمة الدولار مقابل العملات الأخرى وتفاقمت أزمات الديون في مختلف أنحاء العالم النامي. مرة أخرى، لم يقدم الغرب إلا القليل من المساعدة الحقيقية ــ مجرد كلمات. على الرغم من موافقة مجموعة العشرين في السابق على إطار لتعليق خدمة الديون من جانب الدول الأكثر فقرا في العالم بشكل مؤقت، فإن المطلوب حقا هو إعادة هيكلة الديون.
على هذه الخلفية، ربما يعمل قانون خفض التضخم وقانون الرقائق والعلوم على تعزيز فكرة مفادها أن العالَـم النامي خاضع لمعايير مزدوجة ــ أي أن سيادة القانون لا تنطبق إلا على الفقراء والضعفاء، في حين يستطيع الأثرياء والأقوياء أن يفعلوا ما يحلو لهم. لعقود من الزمن، ظلت البلدان النامية تعاني وتتألم بسبب القواعد العالمية التي منعتها من دعم صناعاتها الوليدة، على أساس أن القيام بذلك من شأنه أن يقوض تكافؤ الفرص. لكنها كانت تعلم دوما أن تكافؤ الفرص وهم لا وجود له. كان الغرب يستأثر بكل المعرفة والملكية الفكرية، ولم يتردد في اكتناز أكبر قدر ممكن منهما.
الآن، أصبحت الولايات المتحدة أكثر صراحة في ما يتصل بتقويض تكافؤ الفرص، وتسير أوروبا على خُـطاها. على الرغم من ادعاء إدارة بايدن أنها تظل ملتزمة بمنظمة التجارة العالمية "والقيم المشتركة التي تقوم عليها: المنافسة العادلة، والانفتاح، والشفافية، وسيادة القانون"، فإن كل هذا لا يعدو كونه حديثا أجوف. فحتى وقتنا هذا لا زالت الولايات المتحدة لا تسمح بتعيين قضاة جدد في هيئة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية، فتضمن بهذا عجز هيئة تسوية المنازعات عن اتخاذ أي إجراء ضد انتهاكات قواعد التجارة الدولية.
من المؤكد أن منظمة التجارة العالمية تعاني من وفرة من المشكلات: وقد نبهت شخصيا إلى عدد كبير منها على مر السنين. لكن الولايات المتحدة هي التي بذلت قصارى جهدها لصياغة القواعد الحالية خلال ذروة النيوليبرالية. كيف للدولة التي كتبت القواعد أن تدير لها ظهرها عندما يكون من المريح لها أن تفعل ذلك؟ أي نوع من "سيادة القانون" هذا؟ لو كانت البلدان النامية والأسواق الناشئة تجاهلت قواعد الملكية الفكرية بطريقة فاضحة مماثلة، لكانت عشرات الآلاف من الأرواح أُنقِـذَت أثناء الجائحة. لكنها لم تتجاوز ذلك الخط، لأنها تعلمت الخوف من العواقب.
من خلال تبني السياسات الصناعية، تعترف الولايات المتحدة وأوروبا علانية بضرورة إعادة كتابة القواعد. لكن هذا سيستغرق وقتا طويلا. لضمان عدم تفاقم مشاعر السخط والمرارة (على نحو مبرر) في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل إلى أن يحدث ذلك، ينبغي للحكومات الغربية أن تعمل على إنشاء صندوق تكنولوجي لمساعدة الآخرين على مواءمة الإنفاق في الداخل. هذا من شأنه أن يحقق تكافؤ الفرص إلى حد ما على الأقل، وأن يعزز ذلك النوع من التضامن العالمي الذي نحتاج إليه في التصدي لأزمة تغير المناخ وغير ذلك من التحديات العالمية.