الانفصال المدمر
بروجيكت سنديكيت
2023-04-05 06:45
بقلم: مايكل سبنس
ميلانو ــ على مدار العام الماضي، أصبح مسار العلاقات الصينية الأميركية واضحا على نحو لا يقبل الجدال: فالولايات المتحدة والصين تتجهان نحو انفصال جوهري وإن لم يكن كاملا. وبعيدا عن مقاومة هذه النتيجة، يبدو أن كلا الجانبين الآن تقبلا حقيقة مفادها أن اللعبة أصبحت غير تعاونية إلى حد كبير، حتى أنهما يعكفان على تضمين هذه الحقيقة في أطرهما السياسة. ولكن ما هي حتميات هذا الانفصال على وجه التحديد، وما العواقب التي ستترتب عليه؟
على الجانب الأميركي، أدت المخاوف بشأن الأمن القومي إلى خلق قائمة طويلة ــ ولا تزال في ازدياد ــ من القيود المفروضة على صادرات التكنولوجيا إلى الصين والاستثمارات هناك، وكذا على قنوات أخرى تنتقل التكنولوجيا عبرها في مختلف أنحاء العالم. لتعزيز تأثير هذه الاستراتيجية، تحاول الولايات المتحدة التأكد ــ بما في ذلك من خلال التهديد بفرض العقوبات ــ من انضمام دول أخرى إلى جهودها. ربما كان هذا النهج ليلقى مقاومة شديدة، بما في ذلك في أوروبا، لولا الحرب الدائرة في أوكرانيا.
يبدو أن الصراع أعاد ترسيخ العلاقات عبر ضفتي الأطلسي، بعد بضع سنوات من الانقسامات. وعلى الرغم من التزام الصين جانب الحياد رسميا في الحرب، فإنها ظلت ملتزمة أيضا بما يسمى "الشراكة بلا حدود" مع روسيا، والتي أَكَّـد عليها الرئيس الصيني شي جين بينج في زيارته الأخيرة إلى موسكو التي دامت ثلاثة أيام. في صميم شراكة شي جين بينج مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يكمن اعتقاد مشترك بأن الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة عازم على كبح وتلجيم بلديهما ــ لعرقلة جهود التنمية في البلدين، وإحباط طموحاتهما الإقليمية، وتقييد نفوذهما الدولي. تشكل هذه القناعة ــ التي تثبت صحتها على ما يبدو السياسة الأميركية في الآونة الأخيرة ــ أهمية مركزية أيضا في أحدث تكرار للأجندة الاقتصادية المحلية في الصين.
جلبت بداية فترة ولاية شي جين بينج الثالثة غير المسبوقة في السلطة موجة قوية من الوثائق التي تلقي الضوء على خطط الصين الاقتصادية، وخاصة استراتيجيتها لاستعادة نمو الناتج المحلي الإجمالي السريع. بعد توصلهم إلى استنتاج مفاده أن الاقتصاد العالمي سيكون أقل انفتاحا وأكثر عدائية، وبالتالي محركا أقل جدارة بالثقة للنمو، يسعى قادة الصين إلى تقليل اعتمادهم على الطلب على الصادرات. لذا، فعلى الرغم من استمرار قادة الصين في الترويج للتعددية والانفتاح الاقتصادي، فإن أولويتهم الأولى الآن تتمثل في الاستقرار والاعتماد على الذات في التجارة والاستثمار والتكنولوجيا.
المنطق الاقتصادي سليم. إذ يقارب اقتصاد الصين 80% من نظيره في الولايات المتحدة، وهذا يعني أن الصين تمتلك سوقا داخلية ضخمة للسلع والخدمات وعوامل الإنتاج. ومن خلال تحسين تكامل سوقها المحلية، ربما تتمكن الصين من الاستفادة الكاملة من إمكاناتها المعززة للنمو، وبالتالي عزل نفسها إلى حد ما عن الضغوط الأجنبية، بما في ذلك التحديات التي تهدد موقعها المركزي في سلاسل التوريد العالمية.
الواقع أن تنويع سلاسل التوريد ــ من خلال ما يسمى "دعم الأصدقاء" على سبيل المثال ــ جار بالفعل، وليس فقط بسبب المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. كما أن الصدمات المتكررة ــ من أحداث الطقس الشديدة القسوة المرتبطة بتغير المناخ إلى الجائحة والحرب ــ واستخدام العقوبات الاقتصادية على نحو متزايد كأداة من أدوات السياسة الخارجية، أعطت الشركات والحكومات الحافز لتعزيز مرونتها وقدرتها على الصمود.
في الأوضاع المثالية، قد تشمل المرونة الأكبر في عدد كبير من البلدان قدرا أقل من الاعتماد على الدولار الأميركي. ورغم أن هيمنة الدولار العالمية ليست معرضة لخطر وشيك، نظرا لغياب البديل القابل للتطبيق، فإن العديد من الدول الآسيوية تحاول إنشاء آليات لتسوية التجارة تتجنب الاعتماد على الدولار. من الناحية التكتيكية، هذا من شأنه يزيد من الصعوبة التي تواجهها الولايات المتحدة في تتبع المعاملات وتحديد انتهاكات العقوبات.
لا ريب أن العواقب الاقتصادية المترتبة على هذا الميل نحو المواجهة بعيدة المدى بقدر ما هي شديدة وقاسية. ولأن سلاسل التوريد العالمية أصبحت أقل مرونة وكفاءة، وأكثر تكلفة، فإن قدرتها على مواجهة الضغوط التضخمية سوف تتدنى. وبالتالي، سَـتُـترَك البنوك المركزية لإدارة نمو الأسعار وحدها، عن طريق قمع الطلب الزائد. كل هذا يولد رياحا معاكسة قوية تعرقل النمو.
علاوة على ذلك، كما رأينا مؤخرا، يتسبب إحكام السياسة النقدية بسرعة، بعد سنوات من أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض أو السلبية (بالقيمة الحقيقية)، في إنتاج ضغوط مالية ونوبات من عدم الاستقرار، وخاصة عندما تكون مستويات الديون ضخمة. سوف تُـفضي هذه التركيبة التي تتألف من أسعار الفائدة الأعلى وأعباء الديون السيادية الثقيلة إلى تفاقم الضغوط المالية. ورغم أن انخفاض التضخم قد يخفف من هذه الضغوط، فمن المرجح أن تظل أسعار الفائدة مرتفعة لبعض الوقت، وخاصة إذا تسببت الاتجاهات الاقتصادية العالمية غير المثالية والقوى المزمنة الممتدة الأثر، مثل الشيخوخة السكانية، في تدهور ظروف جانب العرض. ومن غير المرجح أن ينقلب الاتجاه المنحدر في نمو الإنتاجية ــ الذي أصبح واضحا بشكل خاص في العقد الأخير ــ في ظل اقتصاد عالمي مفتت حيث ترتفع الحواجز التي تمنع تطوير التكنولوجيا ونشرها. هذه الحواجز من شأنها أن تعرض للخطر أيضا التقدم الذي جرى إحرازه في أجندة الاستدامة، التي تتطلب تدفقات حرة وخالية من الاحتكاكات من التكنولوجيات القائمة والناشئة.
على نحو مماثل، سوف يتطلب التحول الأخضر تدفق رأس المال إلى حيث يخلف أكبر الأثر، بما في ذلك إلى البلدان الأدنى دخلا. ولن يتسنى حشد الاستثمار الرأسمالي المتنامي اللازم للتحول العالمي في مجال الطاقة ــ والذي يقدر بنحو 3 إلى 3.5 تريليون دولار ــ في غياب التنسيق الدولي. لحشد الاستثمار الخاص، تحتاج المؤسسات المالية الدولية إلى قدر متزايد من التمويل الرأسمالي والدعم من جانب المساهمين الرئيسيين كافة، وهو أمر بعيد الاحتمال في البيئة الحالية. يعرف كثيرون على جانبي ما يمكن أن يسمى "معادلة انعدام الثقة المتبادلة" أن الانفصال مسار غير مثالي وخطير بوضوح. ولكن في كل من الولايات المتحدة والصين يكون مصير الأصوات الـمُـعارِضة إما التجاهل أو الخنق، سواء من خلال الضغوط السياسية أو القمع الصريح.
تدرك العديد من الاقتصادات الناشئة والنامية أن اقتصادا عالميا مُـفتتا ــ ناهيك عن اقتصاد حيث تضطر إلى الاختيار بين كتلتين متنافستين ــ لن يصب في مصلحتها. لكنها تفتقر حاليا إلى القوة اللازمة لتغيير حافز كبار اللاعبين. ربما تكون الهند قادرة على الاضطلاع بمثل هذا الدور ذات يوم، ولكن ليس بَـعـد. ورغم أن أوروبا كبيرة بالقدر الكافي لتتمكن من مقاومة ضغوط الانفصال، فإنها ليست متكاملة تماما، كما يعرقلها اعتمادها على الغير في مجال الطاقة.
أما المؤسسات المتعددة الأطراف، فإنها مدينة لكبار المساهمين في العالَـم المتقدم بالقدر الذي يجعلها غير قادرة على الدفاع بقوة عن التعاون والانفتاح ونظام قادر على التكيف يقوم على القواعد ويعزز الكفاءة والنمو والشمولية. هذا لا يترك أي طرق فرعية واضحة بعيدا عن المسار الحالي. والمستقبل يحمل لنا الانفصال الجزئي والتفتت.