العولمة تخوض معركتها الأخيرة
بروجيكت سنديكيت
2023-02-23 05:34
بقلم: روبرت سكيدلسكي
هل ستنهار الموجة الثانية من العولمة لتتحول إلى حرب عالمية كما حدث في الموجة الأولى؟
لندن- هل بدأ الاقتصاد العالمي يتعولم أم العكس؟ لو طُرح هذا السؤال في عام 1990 لكان الجواب واضحا. إذ كانت الشيوعية قد انهارت لتوها في أوروبا الوسطى والشرقية. وفي الصين، بدأ "دنغ شياوبينغ" يطلق العنان للمشروع الرأسمالي. ونستحضر هنا الإعلان الشهير لعالم السياسة، فرانسيس فوكوياما، عن "نهاية التاريخ"، وكان يَقصد بهذه العبارة انتصار الديمقراطية الليبرالية والأسواق الحرة.
وقبل ذلك بسنوات، حذر الخبير الاقتصادي البريطاني ليونيل روبينز، وهو من أشد المؤمنين بالأسواق الحرة، من أن الأسس السياسية الهشة للنظام الدولي بعد الحرب لا يمكن أن تدعم الاقتصاد المعولم. ولكن خلال فترة النشوة والانتصار في أوائل تسعينيات القرن العشرين، لم تلق مثل هذه التحذيرات آذاناً صاغية. وعلى أي حال، كانت تلك الفترة "لحظة أحادية القطب"، وكانت الهيمنة الأمريكية أقرب كيان متاح إلى حكومة عالمية. وفي ظل هزيمة الاتحاد السوفيتي، أصبح يُعتقد أن آخر حاجز سياسي أمام التكامل الاقتصادي الدولي قد أزيل.
وكان ينبغي للاقتصاديين وعلماء السياسة الذين أذهلتهم الأفكار المجردة، أن يولوا قدرا أكبر من الاهتمام للتاريخ. ولو فعلوا ذلك لأدركوا أن العولمة غالبا ما تأتي في موجات، ثم تنحسر بعد ذلك. وقد تم تمكين الموجة الأولى من العولمة، التي حدثت بين عامي 1880 و1914، من خلال انخفاض كبير في تكاليف النقل والاتصالات. وبحلول عام 1913، كانت أسواق السلع أكثر تكاملاً من أي وقت مضى، وحافظ معيار الذهب على أسعار صرف ثابتة؛ وتدفق رأس المال الذي تحميه الإمبراطوريات بحرية وبدون أي مخاطر تذكر. ومما يؤسف له أن هذا العصر الذهبي الذي يتسم بالليبرالية وبالتكامل الاقتصادي أفسح الطريق لحربين عالميتين، فصلهما الكساد العظيم. إذ تقلصت التجارة إلى مستويات 1800، وجفت تدفقات رأس المال، وفرضت الحكومات تعريفات وضوابط على رأس المال لحماية الصناعة والتوظيف، وانفصلت الاقتصادات الكبرى لتتحول إلى تكتلات إقليمية. وخاضت ألمانيا، واليابان، وإيطاليا، الحرب لتأسيس تكتلاتها الخاصة بها.
وأصبحت الموجة الثانية من العولمة، التي بدأت في ثمانينيات القرن العشرين وتسارعت بعد نهاية الحرب الباردة وصعود الاتصالات الرقمية، تتراجع الآن بوتيرة سريعة. إذ انخفضت نسبة التجارة العالمية إلى الناتج المحلي الإجمالي من ذروة بلغت 61 في المائة قبل الأزمة المالية لعام 2008 إلى 52 في المائة في عام 2020، كما قُيدت حركة رأس المال بصورة متزايدة في السنوات الأخيرة. ونظرًا لأن الولايات المتحدة والصين تقودان تشكيل تكتلات جيوسياسية منفصلة، ولأن الاقتصاد العالمي يتحول تدريجيًا من الترابط إلى الانقسام، فإن العولمة آخذة في التراجع.
ولفهم سبب انهيار العولمة للمرة الثانية، يجدر إعادة النظر في وصف "جون ماينارد كينز" لِلُندن عشية الحرب العالمية الأولى بعبارة ترسخت في أذهاننا. إذ كتب في عام 1919 أن "مشاريع العسكرة والإمبريالية والسياسات المتعلقة بهما، وتلك المتعلقة بالمنافسات العرقية والثقافية، والاحتكارات، والقيود والإقصاء، التي كان من المفترض أن تؤثر سلبا على العولمة، "لم تتجاوز كونها مواضيع تسلية في الجريدة اليومية [للمستثمر والمستهلك]، ويبدو أنها لم تمارس أي تأثير على الإطلاق على المسار المعتاد للحياة الاجتماعية والاقتصادية، التي كان تدويلها شبه مكتمل عمليًا".
وفي عصرنا هذا، تهدد الجغرافيا السياسية مرة أخرى بخرق النظام الدولي. فالتجارة، كما لاحظ مونتسكيو، لها تأثير مهدئ. ولكن التجارة الحرة تتطلب أسسا سياسية قوية قادرة على تهدئة التوترات الجيوسياسية. وفيما عدا ذلك، كما حذر روبنز، تصبح العولمة لعبة محصلتها صفر. وإذا استرجعنا الماضي، ربما كان الفشل في جعل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ممثلًا حقيقيًا لسكان العالم هو الخطيئة الأصلية التي أدت إلى رد الفعل الحالي ضد الانفتاح الاقتصادي.
ولكن الجغرافيا السياسية ليست السبب الوحيد وراء انهيار الموجة الثانية من العولمة. إذ أدى الاقتصاد النيوليبرالي، الذي سيطر على صنع السياسات في ثمانينيات القرن العشرين، إلى تأجيج عدم الاستقرار العالمي من خلال ثلاث طرق رئيسية.
أولاً، أخفق النيوليبراليون في تفسير حالة عدم اليقين. ووفرت فرضية كفاءة السوق- وهي الاعتقاد بأن الأسواق المالية تحدد أسعار المخاطر على نحو صحيح في المتوسط- أساسًا فكريًا لإلغاء القيود التنظيمية وجعلت صانعي السياسات يغفلون عن مخاطر تحرير التمويل. وفي الفترة التي سبقت أزمة عام 2008، كان الخبراء والمؤسسات متعددة الأطراف، بما في ذلك صندوق النقد الدولي، لا يزالون يدعون أن النظام المصرفي آمن وأن الأسواق تنظم نفسها بنفسها. ورغم أن هذا يبدو سخيفًا، إلا أن وجهات نظر مماثلة لا تزال تدفع البنوك إلى خفض أسعار المخاطر الاقتصادية اليوم.
ثانيًا، كان الاقتصاديون النيوليبراليون غافلين عن الاختلالات العالمية. وأدى السعي لتحقيق التكامل الاقتصادي الذي يقوده السوق إلى تسريع نقل الإنتاج الصناعي من الاقتصادات المتقدمة إلى الاقتصادات النامية. ومع ذلك، على عكس المتوقع، فقد أدى إلى تدفق رأس المال من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية. وببساطة، دعم العمال الصينيون مستويات المعيشة في الغرب بينما أهلك الإنتاج الصيني وظائف التصنيع الغربية. وأدى هذا الاختلال في التوازن إلى تغذية الحمائية، حيث تستجيب الحكومات للضغط العام من خلال تقييد التجارة مع المنتجين منخفضي التكلفة، وساهم في تقسيم الاقتصاد العالمي إلى تكتلات اقتصادية منافسة.
والسبب الأخير هو أن الاقتصاد النيوليبرالي لا يبالي بتزايد عدم المساواة. إذ بعد أربعة عقود من العولمة المفرطة والتخفيضات الضريبية والتضييق المالي، يمتلك أغنى 10 في المائة من سكان العالم 76 في المائة من إجمالي الثروة، بينما بالكاد يمتلك النصف الأفقر 2 في المائة. وبما أن نسبا متزايدة من الثروات ينتهي بها المطاف في أيدي المضاربين التقنيين والمحتالين، فقد استندت ما يسمى بحركة "الإيثار الفعال" إلى منطق منحنى "لافر" لتقول أن السماح للأثرياء بأن يصبحوا أكثر ثراءً من شأنه أن يشجعهم على التبرع للأعمال الخيرية.
هل ستنهار الموجة الثانية من العولمة لتتحول إلى حرب عالمية كما حدث في الموجة الأولى؟ إنه أمر ممكن بالتأكيد، خاصة بالنظر إلى نقص الثقل الفكري لدى المجموعة الحالية من قادة العالم. وحتى لا يحدث انحدار إلى الفوضى العالمية مرة أخرى، نحتاج إلى أفكار جريئة تقوم على الموروثات الاقتصادية والسياسية ل"بريتون وودز" وميثاق الأمم المتحدة لعام 1945. وإلا قد تتخذ العولمة مسارا مباشرا إلى حد ما نحو سيناريو "هرمجدون".