هل يبالغ الاحتياطي الفيدرالي في استجابته؟
بروجيكت سنديكيت
2023-01-30 06:17
بقلم: راغورام راجان
شيكاغو ــ من الواضح أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي عازم على خفض التضخم. لكن لا أحد يستطيع أن يجزم عن يقين إلى أي مدى سيكون لزاما عليه أن يرفع أسعار الفائدة الرسمية ــ وإلى متى سيتعين عليه الإبقاء عليها مرتفعة ــ لتحقيق هدفه. لذا، يتساءل كثيرون ما إذا كان الاحتياطي الفيدرالي ليتسبب في جلب الركود.
يتجه التضخم الآن نحو الانخفاض، ويرجع هذا جزئيا إلى حل العقبات في سلاسل التوريد، ولكن أيضا بسبب تزايد ضَـعف الطلب. وتسببت أسعار الفائدة الأعلى في تباطؤ المشتريات المنزلية، وبالتالي بناء المساكن. والتهمت أسعار السلع والخدمات المرتفعة ميزانيات الأسر وأعاقت الإنفاق الاستهلاكي. كما أدى النمو الهزيل في الصين إلى تراجع أسعار السلع الأساسية عالميا.
بيد أن الاحتياطي الفيدرالي غير راض عن الوضع الحالي. فهو يخشى أن الأجور لا يزال من الممكن أن تلحق بالتضخم ثم تدفعه إلى الارتفاع، إلى أن ينشأ بعض التباطؤ في سوق العمل الأميركية الملتهبة. آخر ما يريده الاحتياطي الفيدرالي هو أن يضغط على زر التوقيف المؤقت ليرى التضخم يرتفع مرة أخرى مع احتفال الأسواق المالية بارتفاع أسعار الأصول المالية، ليعود الطلب إلى الارتفاع. هذا من شأنه أن يجبر صناع السياسات على رفع أسعار الفائدة بدرجة أعلى ولفترة أطول. الواقع أن "الانتهاء من الأمر مرة واحدة" سيكون أفضل كثيرا للاقتصاد وسمعة الاحتياطي الفيدرالي من "القيام بالأمر على مراحل متكررة".
علاوة على ذلك، لا يعتقد الاحتياطي الفيدرالي بالضرورة أن بعض التباطؤ في سوق العمل يعني معدل بطالة أعلى كثيرا. في الظروف المثالية، ستنخفض نسبة الوظائف الشاغرة إلى العمال العاطلين عن العمل، مع انخفاض فرص العمل بشكل كبير. ولكن حتى لو ارتفعت البطالة بشكل طفيف، لن يرتدع الاحتياطي الفيدرالي. فقد خلص إلى أنه حتى لو تباطأ الاقتصاد بدرجة أكبر مما ينبغي، فمن الممكن دائما تحفيزه للعودة إلى النمو من خلال خفض أسعار الفائدة. وعلى هذا فإن الآراء تُـجـمِـع على أن الاحتياطي الفيدرالي سيميل إلى جانب الإفراط في اتخاذ التدابير، لأن هذا سيظل يسمح له بالإبقاء على أي تراجع عند مستوى معتدل عن طريق خفض أسعار الفائدة. الواقع أن أسعار السوق تشير إلى أن الاحتياطي الفيدرالي سيعود إلى خفض أسعار الفائدة في وقت لاحق من هذا العام.
ترى ما الخطأ الذي قد يحدث من منظور هذا الإجماع؟ لنتأمل هنا سيناريوين بديلين..
أولا، قد يدفع الاحتياطي الفيدرالي الاقتصاد إلى الركود، لكن التضخم قد يظل مستقرا بعناد فوق المستوى المستهدف 2%. مثل هذا الركود التضخمي ــ الذي يشبه سبعينيات القرن العشرين، عندما أصبحت توقعات التضخم راسخة عند مستويات أعلى ــ من شأنه أن يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة بدرجة أكبر في ذات الوقت مع تقلص الاقتصاد. هنا ستصبح حماسة الاحتياطي الفيدرالي في مكافحة التضخم، وقدرته على تحمل الضغوط السياسية، موقع اختبار حقيقي.
يتلخص الاحتمال الثاني في انخفاض التضخم، ولكن مع انخفاض حاد (وليس طفيف) في النمو. لنتأمل الآن أوضاع سوق العمل الحالية. لم تكن الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم تكافح للعثور على عمال فحسب، بل كانت أيضا حتى الآن متمسكة بالموظفين لديها حتى في حين كانت الشركات الكبيرة تعلن عن تسريح العمال، والسبب على وجه التحديد أنها تدرك إلى أي مدى أصبح استئجار العمالة صعبا. الواقع أن بعض الشركات لا تزال تستأجر العمالة، بتشجيع من احتمال توظيف المزيد من العمال الأعلى جودة الآن بعد أن أغلقت الشركات الكبرى أبوابها.
ولكن مع تزايد التباطؤ في سوق العمل، قد تصبح هذه الشركات الصغيرة أكثر ثقة في أن العمال الأعلى جودة سيظلون متاحين في المستقبل. في هذه الحالة، قد تتوقف هي أيضا عن استئجار العمالة، أو حتى الاستغناء عن بعض العمال الذين استأجرتهم عندما كانت أسواق العمل مُـحـكَـمة. بعبارة أخرى، قد يتحول تيار التسريح الذي نشهده الآن إلى فيضان.
هذا من شأنه أن يؤثر على أسواق أخرى. على سبيل المثال، تباطأت مبيعات المساكن بشكل كبير في الولايات المتحدة، لكن أسعار المساكن ظلت صامدة في عموم الأمر، ربما بسبب عدم دخول قدر كبير من المعروض الجديد إلى السوق. ومع ارتفاع معدلات الرهن العقاري بشكل كبير خلال العام الماضي، سيضطر مالك المسكن بقرض رهن عقاري مدته ثلاثين عاما بفائدة 4% إلى سداد مدفوعات شهرية أكبر كثيرا إذا انتقل إلى مسكن أفضل قليلا برهن عقاري جديد بفائدة 7%. لأنه لا يستطيع الشراء، فهو لن يبيع. ولأن هذه الديناميكية تحد من المعروض من المساكن في السوق، فسوف تكون الضغوط التي تدفع الأسعار إلى الهبوط ضئيلة.
ولكن إذا ازدادت عمليات تسريح العمالة، فسوف يصبح المزيد من مالكي المساكن عاجزين حتى عن سداد أقساط الرهن العقاري بنسبة 4%، وسوف يضطرون إلى البيع بأسعار بخسة. بهذا سيزداد المعروض فجأة، وسوف تنخفض أسعار المساكن بشكل حاد، وقد يتسبب الجمع بين تعاظم حالة عدم اليقين بشأن تشغيل العمالة وانخفاض الثروة السكنية في تحطيم ثقة المستهلك، فيؤدي هذا بدوره إلى المزيد من انخفاض النمو.
لنتأمل الآن قطعة دومينو أخرى. لقد مررنا للتو عبر فترة دامت ثلاث سنوات انخفضت فيها حالات إفلاس الشركات، وخاصة بسبب الدعم المالي المرتبط بالجائحة. ولكن على الرغم من بعض العلامات الأخيرة التي تدل على الضائقة التي تمر بها الشركات، فقد يبدو أن عددا أكبر كثيرا من الشركات "الجريحة" لابد وأن تضطر إلى إغلاق أبوابها. فلماذا لا يحدث ذلك؟
أحد الأسباب هو أن العديد من الشركات أعادت تمويل ذاتها في الأشهر الأولى من الجائحة، مستفيدة من شروط الائتمان السهلة لتمديد آجال استحقاق ديونها. لكن الشركات الأكثر ضعفا لن يكون بوسعها أن تفعل الكثير في ذلك الوقت، وسرعان ما سيزداد حجم الديون المستحقة على الشركات. إذا كان لابد من ترحيل هذا الدين في بيئة تتسم بقدر متزايد من الكآبة الاقتصادية، فمن العادل أن نراهن على أن كثيرين لن يتمكنوا من إعادة التمويل، وسوف تزداد حالات إفلاس الشركات بشكل كبير. ربما كان القطاع المالي الرئيسي ذكيا بالقدر الكافي للابتعاد عن العملات الرقمية المشفرة، لكنه ليس حصينا ضد ضائقة الأسر والشركات. وكما نعلم من التاريخ، من الممكن أن تؤدي خسائر القطاع المالي بسرعة إلى سيناريوهات كارثية.
في هذين السيناريوين، يعرف الاحتياطي الفيدرالي على الأقل ما يتعين عليه القيام به في السيناريو الأول: رفع أسعار الفائدة لمحاربة التضخم المرتفع بعناد. ولكن إذا كانت التطورات غير خطية في اتجاه نزولي، فمن الصعب أن نرى معالم الطريق التي يستطيع الاحتياطي الفيدرالي أن يستخدمها للإبحار بين مطرقة القيام بأقل مما ينبغي والاضطرار إلى "القيام بالأمر على مراحل متكررة" ومطرقة الإفراط في اتخاذ التدابير ومراقبة الاقتصاد وهو ينزلق إلى الهاوية.
لعل أفضل تصرف من جانب الاحتياطي الفيدرالي هو الاحتراس من الرضا عن الذات بشأن قدرة الاقتصاد على الانحناء دون أن ينكسر، والإبقاء على قدر شديد من الحساسية في التعامل مع البيانات الواردة مع دخولنا فترة تتسم بأقصى درجات الخطر.