هل ينتهي صعود الدولار إلى حركة ارتدادية عنيفة؟
بروجيكت سنديكيت
2022-09-05 07:54
بقلم: كينيث روجوف
كمبريدج ــ شهد الدولار الأميركي فورة من النشاط هذا الصيف. فقد انخفض الين الياباني واليورو إلى أدنى مستوياتهما مقابل الدولار في عشرين عاما؛ الآن يحوم اليورو، الذي ظلت قيمته أعلى من الدولار لفترة طويلة، بالقرب من مستوى التكافؤ. واستعاد مؤشر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الموسع للدولار المرجح بالتجارة تقريبا الذروة التي بلغها في مارس/آذار 2020 وسط حالة الذعر التي أحدثها اندلاع جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). مع التعديل تبعا للتضخم في الولايات المتحدة وشركائها التجاريين، يتبين لنا أنه أعلى بالفعل.
يحدث هذا على الرغم من تسجيل الولايات المتحدة أعلى معدل تضخم سنوي في أربعين عاما وأسوأ ميزان تجاري منذ الأزمة المالية العالمية. تُـرى ماذا يجري، وهل من المنتظر أن تسجل قيمة الدولار هبوطا شديدا؟ مع الاعتراف بما تنطوي عليه محاولات تفسير أسعار الصرف، ناهيك عن التنبؤ بها، من صعوبة شديدة، يبدو أن أربعة عوامل رئيسية تؤثر على تحركات العملات الرئيسية في العالم.
الأمر الأكثر أهمية هو أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بدأ يرفع أسعار الفائدة، ومع ابتعاد الاقتصاد الأميركي في ما يبدو عن الركود الحقيقي، لا يزال المجال متاح للمزيد من إحكام السياسات. على الرغم من التضخم المرتفع بذات القدر في أوروبا، يتوخى البنك المركزي الأوروبي قدرا أعظم من الحرص. يرجع هذا جزئيا إلى أن التوقعات الاقتصادية لمنطقة اليورو أكثر هشاشة. يساور القلق البنك المركزي الأوروبي إزاء مستويات الديون المرتفعة في إيطاليا، لكنه يعتقد أيضا أن معدلات تضخم أسعار الطاقة الحالية لن تستمر.
واليابان، مثلها في ذلك كمثل الصين، لم تشهد حتى الآن تضخما كبيرا. من غير المرجح أن يشرع بنك اليابان في تشديد سياساته في أي وقت قريب، كما خفض بنك الشعب الصيني أسعار الفائدة في أغسطس/آب. تشكل الأحوال الجيوسياسية أيضا عاملا وراء قوة الدولار. تفرض الحرب الدائرة في أوكرانيا خطرا داهما أكبر كثيرا على أوروبا والولايات المتحدة، في حين تشكل التهديدات العسكرية الصينية بشأن تايوان خطرا كبيرا على الجميع، وخاصة اليابان المجاورة.
سواء مع الركود أو بدون ركود، سيكون لزاما على كل من أوروبا واليابان إعادة هيكلة قدراتهما الدفاعية بشكل كبير، مع ما يصاحب ذلك من ارتفاع في النفقات العسكرية الطويلة الأجل. ثم هناك التباطؤ الاقتصادي المستمر في الصين، الذي يؤثر على أوروبا واليابان بدرجة أكبر كثيرا من تأثيره على أميركا. الأسباب الأساسية وراء تباطؤ النمو في الصين ــ بما في ذلك عمليات الإغلاق المرتبطة بسياسة خفض الإصابات بكوفيد-19 إلى الـصِـفر، وإرث الإفراط في البناء، وحملات القمع ضد قطاع التكنولوجيا، والمركزية المفرطة للقوة الاقتصادية ــ هي في حقيقة الأمر قضايا دأبت على التعليق عليها لبعض الوقت، وأنا لا أرى تحولا حادا ومستداما في الأفق.
أخيرا، مع استمرار الارتفاع الشديد في أسعار الطاقة، فإن حقيقة اكتفاء الولايات المتحدة ذاتيا في مجال الطاقة، في حين تظل أوروبا واليابان من أكبر مستوردي الطاقة، تعود بالفائدة أيضا على الدولار.
قد يضيف بعض المراقبين أن الولايات المتحدة ملاذ أكثر أمانا من أوروبا واليابان. وقد يكون هذا صحيحا، برغم أن أميركا غارقة في حرب أهلية باردة لا نهاية لها ما دام الرئيس السابق دونالد ترمب ضالعا في المعادلة. وسوف يخضع التكامل في منطقة اليورو، الذي يَـعِـد بالتقدم كلما طرأت أزمة، لاختبار شديد القسوة إذا بدأت أسعار الفائدة الحقيقية العالمية في الارتفاع. يقترب التضخم في ألمانيا من تسجيل أعلى مستوياته في سبعين عاما، لكن زيادة أسعار الفائدة بقوة أكبر من جانب البنك المركزي الأوروبي قد تؤدي إلى انفجار الفوارق في الفوائد على ديون الحكومة الإيطالية.
تحمل قوة الدولار الحالية عواقب عميقة مؤثرة على الاقتصاد العالمي. الواقع أن حصة كبيرة من التجارة العالمية، ربما النصف، مقومة بالدولار ــ وينطبق هذا في العديد من البلدان على الواردات والصادرات. وعلى هذا فإن ارتفاع قيمة الدولار يدفع قسما كبيرا من العالم إلى تقليص الواردات، إلى الحد الذي وجد معه الباحثون تأثيرا سلبيا كبيرا من الناحية الإحصائية على التجارة العالمية.
يهدد الدولار القوي بالتأثير بشكل بالغ القسوة على الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، لأن الشركات والبنوك الخاصة في هذه البلدان التي تقترض من مستثمرين أجانب من غير الممكن أن تفعل ذلك إلا بالدولار. وتميل أسعار الفائدة المرتفعة في الولايات المتحدة إلى دفع أسعار فائدة المقترضين الأضعف إلى الارتفاع على نحو غير المتناسب.
الواقع أن مؤشر الدولار الواسع كان ليرتفع بدرجة أكبر لو لم تسارع البنوك المركزية في العديد من الأسواق الناشئة إلى رفع أسعار الفائدة بشكل استباقي لوقف الضغوط التي تدفع العملات الوطنية إلى الهبوط. لكن إحكام السياسات على هذا النحو يلقي بِـثِـقَـله على اقتصاداتها المحلية بطبيعة الحال. كان صمود الأسواق الناشئة الأكبر حجما حتى الآن في مواجهة أسعار الفائدة الأعلى في الولايات المتحدة وزيادة قيمة الدولار مفاجأة سارة. لكن إلى متى يمكنها أن تصمد إذا استمر الاحتياطي الفيدرالي على مسار إحكام السياسات بقوة؟ لا أحد يستطيع أن يجيب على هذا السؤال الآن، وخاصة إذا سجلت أسعار السلع الأساسية المزيد من الانخفاض في ذات الوقت (كما حذر زميلي في جامعة هارفارد جيفري فرانكل) وانزلقت الولايات المتحدة وأوروبا إلى الركود، فضلا عن التباطؤ في الصين.
في الأمد القريب، سيؤثر الدولار المزدهر على أميركا بدرجة أقل حِـدَّة من شركائها التجاريين، ويرجع هذا في الأساس إلى حقيقة مفادها أن فواتير التجارة الأميركية بالكامل تقريبا مقومة بالدولار. لكن الدولار الأقوى على نحو مستمر من شأنه أن يخلف تأثيرا محليا أطول أمدا، لأن الولايات المتحدة ستصبح أكثر تكلفة نسبيا كموقع للإنتاج. ولن يساعد هذا السياحة الأجنبية، التي لا تزال منخفضة بشدة عن مستواها في عام 2019. تُـرى هل من الممكن أن ينقلب الارتفاع الأخير في قيمة الدولار مقابل العملات الرئيسية الأخرى في الاتجاه المعاكس؟ من المؤكد أن بعض الارتفاعات الكبيرة السابقة في قيمة الدولار، بما في ذلك في منتصف ثمانينيات القرن العشرين وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أعقبتها في النهاية انخفاضات حادة. ولكن مرة أخرى، من الصعب للغاية التنبؤ بأسعار الصرف، حتى لعام واحد.
الواقع أن حدوث انخفاض إضافي بنحو 15% في قيمة اليورو والين مقابل العملة الأميركية أمر محتمل تماما، وخاصة إذا اتخذت الاحتكاكات الجيوسياسية منعطفا آخر نحو الأسوأ. الشيء الوحيد الذي قد نجزم به عن يقين هو أن فترة أسعار صرف العملات الرئيسية الهادئة بدرجة غير عادية، والتي بدأت في عام 2014، أصبحت الآن ذِكرى من الماضي.