دور العمل في تحديد القيمة التبادلية
المبحث الأول من الفصل الأول من الجزء الثاني من كتاب بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن (8)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-07-26 06:49
عند دراسة مستفيضة وتحليل دقيق لواقع القيمة التبادلية سنجد؛ فيما نرى، أنها تتولّد من الجهات الحقيقية والاعتبارية التالية، اولا المنفعة والقيمة الاستعمالية، ثانياً الرغبة، ثالثاً الحاجة والإشباع، رابعاً المنفعة الحدية، خامساً العرض والطلب، سادسا البدائل والمكملات، سابعا الندرة والوفرة، ثامناً: تكلفة الإنتاج، تاسعاً: (رأس المال) ومدى تكثيفه:
ي. العمل
عاشراً: ومن العوامل التي تقوم بتحديد القيمة التبادلية: العمل وكميته والوقت المبذول عليه أو روحه وقوته، ولعلنا يمكننا أن نعدّه نوعاً من أنواع تكلفة الإنتاج، ولو بالمعنى الأعم، فكما أن الخشب الذي يشتريه النجار ليصنع منه النوافذ والأبواب لو ازدادت تكلفته بأن ارتفعت قيمته، انعكس ذلك على ارتفاع قيمة المنتَج في السوق، أي ارتفعت قيمته التبادلية كتعويض عما خسره النجّار في مرحلة شراء المادة ـ الخشب، كذلك لو ازدادت كمية العمل اللازم لإنتاج السلعة (الباب أو النافذة)، وذلك لأن العمل له في حد ذاته قيمة ويقابل بالثمن، لذلك نجد العقلاء يعطون للخياط والبنّاء أموالاً مقابل عملهم، فالقيمة السوقية أو القيمة التبادلية تخضع فيما تخضع له من المحددات، لكمية العمل المُنفَق في الإنتاج أو لقوته، أو للوقت الذي استغرقه.
وههنا يجب التفريق بين (العمل) و(روح العمل) و(قوة العمل أو الطاقة التي تولّد العمل) مع أنها بأجمعها تقابل بالمال وتتكوّن منه القيمة السوقية للسلعة الاقتصادية، كما يجب التفريق بينها وبين (وقت العمل) وبين المعدل المجموعي المتوسط العام للعمل أو قوّته أو وقته، وسيأتي ذلك، فانتظر.
فالعمل إذاً واحد من محددات القيمة التبادلية فيما نرى، ولكنه بحسب رأي آخر، العامل الوحيد والأساس المنفرد في تحديد القيمة التبادلية بحسب (نظرية العمل) التي طرحها "جون لوك" أولاً ثم تمسك بها "آدم سميث" ولكن في حدود الجماعات البدائية، ثم شيّدها "ريكاردو" بتفصيل ثم التقطها منه "ماركس" فأصبحت أساس نظريته.
و(أوضح "ريكاردو: أن العمل هو المصدر الوحيد للقيمة، سواء كان ذلك في المجتمعات البدائية أم الحديثة. والمقصود بالعمل هو العمل المباشر والعمل غير المباشر، أو العمل الحاضر أو الحي الذي يقدمه العمال أنفسهم والعمل السابق أو المخزون في الآلات والمعدات أو في رأس المال عموماً. أن تملك رأس المال من قبل المنتج الرأسمالي لا يغير من الأمر شيئاً، إذ أن القيمة ستبقى تحدد بالعمل وحده، سواء كان العمل الحاضر أو العمل السابق المتجسد في رأس المال. يعتقد "ريكاردو" أن قيمة السلعة تتحدد بما بذل فيها من عمل، ولذلك فالعمل هو أساس القيمة. وفي حال تملك الرأسمالي لرأس المال فإن قيمة الناتج ستوزع بين العامل والرأسمالي، فالأول يستلم أجراً والثاني يستلم ربحاً، أما الريع فإنه لا يدخل في تكوين القيمة، إذ أنه ليس من مكوناته، بل إنه يظهر نتيجة للقيمة أو نتيجة لزيادة الطلب وارتفاع الأسعار)(1).
وقد سبق جالياني، ريكاردو وماركس في طرح نظرية العمل كمحدد للقيمة التبادلية، (وبينما بشّر جالياني، بهذا الشكل، بكثير من التطورات اللاحقة (المنفعة الحدية)، فقد استبق أيضاً نظرية القيمة للسنوات المائة التالية (ريكاردو وماركس). ذلك لأنه، وبصورة حادة تثير الدهشة، يتحول من الندرة "rarita" إلى العمل "fatica"، ممجداً الأخير على الفور بوصفه العامل الوحيد للإنتاج والشرط الوحيد "che da valore alla cosa" (لكل القيمة). وهذا يفسد نظرية القيمة لدى جالياني بمعنى ما، ولكنه يستثير اهتماماً كبيراً بمعنى ما آخر. أن كلمة "fatica" تعني كمية العمل ـ وهي تتكيف لمراعاة العادات الاجتماعية التي تحدد عدد الأيام في السنة وعدد الساعات في اليوم التي يعمل فيها المرء فعلاً، وكذلك لمراعاة الاختلافات في المقدرة الطبيعية بين الناس "talenti"، التي تفسر وجود أسعار مختلفة لـ "fatica" أفراد مختلفين ـ وبعد استثناء السعر الاحتكاري للأشياء النادرة "Venere de Medici" مثلاً، فإن جالياني يجعل القيمة التوازنية تتناسب مع كمية العمل تلك (حيث تُراعى التقلبات المؤقتة بصورة ملائمة). ولكن هذه هي نظرية ريكاردو وماركس من حيث كل معالمها الجوهرية والكثير من تفاصيلها، وهي مرضية أكثر من نظرية آ. سميث(2)، حينما ننظر إليها من زاوية ريكاردية)(3).
وقال بعض علماء الاقتصاد: (تقدر نظرية العمل قيمة المنتج باعتبارها تعادل وقت العمل اللازم لإنتاجها، وقد قدّم آدم سميث الفكرة كمؤرخ ينظر إلى القيمة في اقتصاد غير نقدي، ويقول سميث: "إنه في الوضع المبكر البدائي للمجتمع الذي سبق جمع رأس المال وملكية الأراضي كان تبادل السلع يتم على أساس مقادير العمل اللازمة لإنتاجها، وفي أمة الصيادين، كما يقول في أحد أمثلته الشهيرة، إذا كان الوقت اللازم لاصطياد القندس يبلغ ضعف الوقت اللازم لاصطياد الغزالة، فإن القندس الواحد سيتم مبادلته بغزالتين، وفي أمة الصيادين لن تدخل النقود في مثل هذه العملية، إذ أن دخول الصيادين يمكن حسابها على أساس إعداد القنادس والغزلان التي يصطادونها)(4).
وهنا تعليقات سريعة:
تأملات في نظرية العمل
الأول: أن (تقدير قيمة المنتج باعتباره يعادل وقت العمل اللازم لإنتاجه) هو أحد الآراء والنظريات المطروحة، قال فريدريك إنجلز في (موجز رأس المال): (إن القيمة التبادلية تفترض مقدماً معادلاً ثالثاً تقاس به العمل، تلك المادة الاجتماعية المشتركة للقيمة التبادلية، أو إذا توخينا الدقة نقول: وقت العمل الضروري اجتماعياً لإنتاجها)(5)، وهناك بدائل أربعة(6) أخرى سبقت الإشارة إليها(7) وسيأتي مزيد تفصيل بإذن الله تعالى.
الثاني: أن قول سميث: (كان تبادل السلع يتم على أساس مقادير العمل اللازمة لإنتاجها، وفي أمة الصيادين، كما يقول في أحد أمثلته الشهيرة: إذا كان الوقت اللازم لاصطياد القندس يبلغ ضعف الوقت اللازم لاصطياد الغزالة، فإن القندس الواحد سيتم مبادلته بغزالتين)، مجرد إدعاء لا دليل عليه، وهو نوع من الرجم بالغيب، كما أنه لم يُقِم هو عليه دليلاً، إلا مجرد استحسان ذوقي!، بل الظاهر أن الأمر بالعكس، لبداهة مدخلية المهارة ونوعية ما اصطاده في القيمة، ولذا لو اصطاد أحدهم سمكة صغيرة واصطاد الآخر غزالاً أو ثوراً لم يبادله به أبداً وإن كان الجهد أو الوقت المبذول في كليهما متساوياً، مادام الثور يطعم مائة شخص والسمكة لا تشبع حتى الشخص الواحد، وسيأتي تقييم أوسع وأدق لكلام سميث وإنجلز الذي هو تلخيص لرأس المال.
صياغات نظرية العمل، والتقييم العام
الثالث: نظرية (العمل) كمقياس مرجعي لتحديد القيمة التبادلية، يمكن أن تطرح بعدة صياغات:
الأولى: النظرية كما هو ظاهرها، أي أن كمية العمل الشخصي هي المقياس الأول والأخير، والمراد كمية العمل والجهد الذي يبذله هذا العامل أو ذاك لإنتاج سلعة معينة أو خدمة محددة، أي أن المدار هو العمل الشخصي الذي يقوم به آحاد العمال.
الثانية: أن المقياس هو متوسط كمية عمل/ أو وقت عمل / أو قوة عمل مجموع العمال اللازم لإنتاج هذه السلعة أو الخدمة، فلو كان إنتاج هذه السلعة كصبغ الجدار أو تسوير الدار يكلف ثلث العمال(8) ساعة مثلاً (أو ستين حركة) وكان يكلف ثلثهم الآخر نصف ساعة (أو ثلاثين حركة) ويكلف ثلثهم الأخير عشر دقائق (أو عشر حركات)، فإن المتوسط هو 33.3 دقيقة أو حركة تقريباً هي حاصل قسمة المائة دقيقة أو حركة (المجموع) على ثلاثة.
ولكن الأدق أن يقال: إن المقياس ليس هو متوسط كمية (أو وقت) عمل مجموع العمال فقط، بل وكيفية عملهم ومهارتهم والظروف الطبيعية وغير ذلك(9).
الثالثة: أن المقياس ليس كمية العمل الشخصي أو النوعي (الاجتماعي = المجموعي) المصروف على إنتاج السلع والخدمات، بل هو كمية العمل الذي يجب أن يصرف على إعادة إنتاج السلع والخدمات المنتَجة من قبل، والغريب أن بعض علماء الاقتصاد اختار هذا الرأي.
وهذا المقياس الأخير ينظر إلى المستقبل، والمقياس الأول والثاني ينظران إلى الماضي أو الحاضر، إذ قد يكلف إنتاج السلعة ساعة من الوقت بينما يكلف إعادة إنتاجها نصف ساعة من الوقت(10).
ومع قطع النظر عن اعتراضنا العام على كون (العمل) هو المحدد الوحيد للقيمة التبادلية، فإن الأمر لو دار بين هذه الثلاثة، فإن الأول أقرب للعدالة، بل هو العدالة كلما أمكن التقيّد به، ولكن اعتباره مقياساً دائمياً أمر صعب، إذ من أين نعلم أن هذا المزارع مثلاً بذل ساعة من الجهد والوقت على سقي الحديقة أو المزرعة، أو ساعتين؟ كما يكثر الخلاف في ذلك، إلا فيما لو كان العامل يعمل بإشراف مباشر من رب العمل مع خضوعه لرقابة دقيقة مع إحاطة رب العامل العلمية بأنه مثلاً لا يتعمد التباطؤ في الإنتاج وإطالة مدة العمل مثلاً، وكل هذه أمور تكلف جهداً ووقتاً وقد تسبب خلافاً ونزاعاً في كثير من الأحيان.
وعلى أي، فليس هذا المقياس عملياً إلا في بعض الحالات؛ ولذلك فإن اللجوء إلى إحدى الصياغتين الثانية والثالثة هو الخيار الأكثر عملية وفائدة، لكن الخيار الثاني مرجّح على الثالث لأنك تدفع على عمل منه مضى، لا على عمل منه سيأتي، نعم قد يكون للعمل الآتي مستقبلاً دورٌ ولو بسيط في تحديد قيم الأعمال الماضية بخفضها أو رفع قيمتها، لكنه إنما يصح لو لم يَجرِ الاتفاق على دفع التكاليف بحسب ما لها من القيمة في زمن إنجاز أعمالها، كما يصح في صورة التنبؤ بارتفاع أو انخفاض قيمة العمل مستقبلاً، إذ قد يؤثر ذلك، بالسلب أو الإيجاب نسبياً، على قيمته حالياً.
والأهم من كل ما مضى هو الاعتراض الجوهري على نظرية العمل، والذي يختلف معها، إذ يرى أن (العمل) لا يشكّل العامل الوحيد المحدِّد (أو الموجِد) للقيمة، وهذا هو الذي توهمه ماركس، بل قد لا تكون له قيمة أبداً، بل قد يشكل قيمة مضادة أي يكون مضاداً للقيمة:
أ) العمل ليس وحده المحدّد للقيمة ودور التخصص
أما أنه لا يشكل العامل الوحيد فلما اتضح سابقاً من مدخلية عوامل عديدة أخرى، كالمنفعة الاستعمالية وحجم التكلفة ووجود البدائل والمكملات، وقلة العرض والطلب أو كثرتهما، في زيادة القيمة التبادلية وخفضها، وكذلك ما سيتضح لاحقاً أيضاً من تأثير عوامل أخرى كثيرة في زيادة القيمة السوقية.
وقد اعترف "ريكاردو" نفسه بمدخلية عاملي (المنفعة) و(الندرة) إلى جوار كمية العمل في تحديد قيمة الناتج، (وعن العوامل التي تحدد قيمة الناتج أو سعره يعتقد "ريكاردو" أن العنصر الأول يجب أن يكون منفعته، أي فائدته "إذا لم تكن سلعة ما نافعة بأي طريقة ـ أي إذا لم يكن باستطاعتها أن تسهم في إشباع احتياجاتنا بأي طريقة ـ فإنها تفتقر إلى قيمة قابلة للتبادل"(11). وبالرغم من وجود سوابق لهذه الفكرة فإننا نجد صورة مبكرة في الجانب الآخر للرؤية الحديثة فيما يتعلق بتحديد السعر، وهي التفاعل بين العرض والطلب.
وبعد أن أكد الحاجة إلى منتجات قابلة للتبادل، يرى أن قيمتها تنبع إما من الندرة، وإما من كمية العمل اللازمة للحصول عليها. وذلك ينطبق على أي شيء يمكن إنتاجه بصورة متكررة؛ أي شيء فيما عدا "التماثيل والصور النادرة، والكتب والعملات النادرة، والأنبذة ذات الجودة الخاصة التي لا يمكن صنعها إلا من كروم تزرع في تربة خاصة"(12). أما السلع والمصنوعات اليدوية غير المتجددة الإنتاج، فتعتبر حالة خاصة للغاية، في حين أن السلع التي يمكن تكرار إنتاجها، والتي يحكمها من حيث قيمة التبادل والعمل المتجسد فيها، فهي الحالة العامة. هنا يقتبس ريكادرو عبارة من آدم سميث تؤيد نظريته يقول فيها: "من الطبيعي أن ما يحتاج في العادة إنتاجه إلى يومين من العمل أو ساعتين يجب أن يساوي ضعف ما يحتاج إنتاجه عادة إلى يوم واحد أو ساعة واحدة من العمل"(13).
وقد لاحظ آخرون أن ريكاردو نجح في كتاباته اللاحقة في تخفيف مواقفه التي كانت متصلبة جداً في البداية، وأن ذلك ساعد كثيرين ممن أرادوا أن يجدوا لديه ما أرادوا أن يعتقدوا بوجوده. ومع ذلك فإن التزامه التزاماً ثابتاً بالنظرية القائلة أن القيمة ترجع إلى أن العمل هو مصدر التأثير الذي مارسه في السنوات التالية)(14).
وقد أشار عدد من علماء الاقتصاد إلى بعض العوامل المؤثرة في القيمة، ومنها: مدخلية التخصّص، إلى جوار العمل نفسه، في محصّلة الأرباح، وقال بعضهم: (وعلى أية حال، فإنه حتى في الاقتصاد البدائي للصيادين يكون التخصص أمراً له أهميته، فالصيادون الذين يجيدون العدو أيضاً ربما يصطادون من الغزلان أكثر مما يصطادونه من القندس، أما الصيادون المتمرسون على الجلوس والانتظار فإنهم ينجحون في اصطياد القندس، ويزداد الإنتاج الإجمالي ـ بأعداد أكبر من الغزلان والقنادس ـ إذا ما تخصص الصيادون في أفضل ما يجيدونه، كما أن التبادل أو التجارة في الحيوانات ستعني أن جميع الصيادين في نهاية الأمر سيكسبون أكثر إذا ما ركزوا على اصطياد نوع واحد من الحيوانات.
وفي هذا الاقتصاد البدائي للصيد لا يمكننا التمييز بين قيمة السلعة ذاتها وقيمة وقت العمل اللازم لإنتاجها؛ إذ أن القيمتين متماثلتان أساساً(15)، أما في الاقتصاد الحديث، فإن السلع يتم تبادلها مقابل نقود، ويتم دفع الأرباح إلى أولئك الذين يملكون رأس المال، والإيجار إلى من يملكون الأراضي، وبعبارة أخرى: هناك صانع ومالك أرض يجب أن يتم معهما تقاسم قيمة المنتج (الدخل الناشئ من البيع)، فإما أن يكون الدخل الذي يذهب إلى الصانع ومالك الأرض مكافأة مكتسبة، أو أن يكون قد جرى حرمان العمال من حصة من المنتج تمثل حقهم العادل.
ما الذي كان سميث يعتقد أنه الصحيح من بين هذه البدائل؟ على الرغم مما كتبه بأن العامل يجب دائماً "أن يتنازل عن نفس القدر من راحته وحريته وسعادته"، فإنه كان يرى أن صاحب العمل يدفع أجراً للعامل يختلف عن القيمة التي يقدرها العامل لعمله، وينتهي سميث إلى عدم استخدام نظرية العمل للقيمة إلا فيما ندر)(16)، ويعتقد بعض علماء الاقتصاد أن كلمات سميث في هذا الحقل مضطربة كما أوضحناه في موضع آخر.
ب) وقد لا تكون للعمل قيمة أبداً
وأما أنه قد لا تكون للعمل قيمة أبداً (حتى لدى ماركس، حسبما نفترض من أنه لا يمكن أن يرفض ما نذكره هنا)، فكما إذا بذل العامل العادي أو الماهر مائة ساعة من وقته، أو أكثر أو أقل، في إنتاج غير نافع للمجتمع بالمرة، كما لو قام بنقل أحجار الجبل من موضع لآخر، من دون فائدة متوخاة، أو قام العامل الماهر بصناعة جهاز فاشل أو صنع آلة لا يمكن الانتفاع بها بالمرة، فإنه حيث لا توجد فيه فائدة وقيمة استعمالية، فإنه لا توجد له قيمة تبادلية، أي أنه ليست له قيمة سوقية نتيجة فقدانه للقيمة الموضوعية والاستعمالية، فهل يقول ماركس بأن على عامة الناس أو على الحكومة أو على التجار، أن تدفع له أجرة عمله الفاشل؟ من الواضح أنه لا يمكن الالتزام بوجود قيمة لهذا المنتَج رغم أنه قد جرى بذل طاقة ووقتٍ وعملٍ كبير عليه، وذلك فيما إذا كان العامل قد أنتجه من دون طلب الحكومة أو الرأسمالي أو الإنسان الآخر العادي منه؟ (أي إذا أنتجه من دون أن يكون أجيراً على أن يعمل هذا العمل، من غير أن يتحمل مسؤولية نتائجه)، خاصة إذا كان يعلم هو بعبثية عمله.
وأما إذا كان يتوهم أنه عمل منتج لكنه اكتشف فجأة أنه عمل غير نافع أبداً، فلماذا يستحق الأجرة على المجتمع أو على أي شخص آخر؟ خاصة إذا علمنا أن الاستحقاق هو من المعاني الإضافية ذات الطرفين، أي أنه يستحق على قيامه بهذا العمل، على شخص آخر أجرة عمله، فلماذا يستحق على شخص آخر الأجرة؟ وما ذنب الشخص الآخر؟ وهل الناس أو الحكومات مسؤولة عن الأعمال العبثية أو غير النافعة لكل أحد؟ وما الدليل على ذلك؟.
نعم، العامل الذي ينتج بضاعة كاسدة فاسدة تماماً، هو نظير للعامل العاطل عن العمل في أنه يستحق مادام ليس له مصدر رزق، على بيت المال (والوزارات المعنية) نفقات حياته، ولكن ذلك لأنه إنسان يجب على الناس والحكومة التضامن معه وتكفل نفقاته عبر برامج الضمان الاجتماعي والدفعات التحويلية وشبه ذلك، لا لأنه أنتج عملاً فاسداً فاستحق عليه أجراً!.
والأمر كذلك من كلتا الجهتين: المعيارية ـ الأخلاقية، والعلمية الموضوعية:
أما العلمية الموضوعية: فإن الواقع الخارجي هو كذلك، إذ لا تجد في أسواق العالم من يبذل المال بإزاء عمل فاسد غير نافع أبداً، لمجرد أن شخصاً ما قام به، إلا إذا كنت أنت الذي طلبته منه، فإذا عمل ووفى بالشروط المطلوبة، ثم حدث أن عمله لم يحقق أياً من الأهداف المطلوبة، لا بتقصير منه، فإنه يستحق عليك الأجرة حينئذٍ، وذلك فيما إذا استأجرت منه طاقة عمله أو وقت عمله دون ما إذا كانت الأجرة على نتيجة العمل، أي ـ وبتعبير أصولي ـ إذا كانت الأجرة على المعنى المصدري لا الاسم المصدري.
وأما من الناحية الأخلاقية ـ المعيارية: فكما سبق، إذ أن العامل يستحق علينا حق التضامن معه والوقوف إلى جواره، وتكفل ضروريات حياته، لأنه إنسان، مادام عاجزاً عن العمل المنتج، ولكنه لا يستحق علينا شيئاً من المال بإزاء نفس عمله، إذا كان عمله عبثياً أو غير منتج بالمرة، وكان قد قام به بسوء اختياره وبقلة تدبيره(17)، ولم يكن عمله هذا بطلب من جهة معينة!.
بل وفوق ذلك، فإنه حتى لو قام العامل بالعمل والإنتاج، بكل مهارة واحترافية، ثم عاكسته الظروف، أفَترى انه يستحق على الناس شيئاً؟ ولنفرض مثلاً أن عاملاً خاط ثوباً أو صنع ساعةً أو أن مهندساً بنى بيتاً فخماً ثم هدمته العواصف أو احترق الثوب أو ضاعت الساعة في الصحراء؛ فهل يستحق علينا، لقاء عمله هذا الذي لم يكن بطلب منّا، شيئاً؟ وما الدليل على تحمّل شخص ما مسؤولية نتائج أعمال شخص آخر؟
وكما ظهر، فإن الخطأ قد يحدث نتيجة الخلط بين وجوب تعويضه عن عمله غير المنتج، وهو مما لا يقول به عاقل، وبين وجوب تكفل نفقاته كإنسان انقطعت به السبل فيما لو كان كذلك، أي حيث ضاعت جهوده من دون أن يملك مصدر رزقٍ يملك بديلاً فاعتصره الفقر حينئذٍ.
وكما الأمر في العامل فكذلك في التاجر ورأس المال، فإن رأس المال لو أصبح هشيماً تذروه الرياح أو لو ابتلع البحر بضاعة التاجر، فإنه لا يستحق على الحكومة أو الناس شيئاً، كما لا يستحق مالك الأرض على أحد شيئاً لو انخسفت أرضه فلم يعد بقادر على زراعتها مثلاً أو انخفضت إنتاجيتها.
ج) وقد يشكّل قيمة مضادة
وأما أن العمل قد يشكل قيمة مضادة، فكما لو أنتج مستحضراً طبياً خطراً أو فاسداً يضر بالمريض، فإنه لا يمتلك حينئذٍ قيمة استعمالية لفرض أنه ضار، كما أنه لا يملك قيمة تبادلية إذ لا يشتريه منه أحد في سوق العقلاء، وفوق ذلك فإن عليه أن يتحمّل تكاليف إتلافه في بعض الحالات كلما شكّل وجوده خطورة ما، فيكون (العمل) منتجاً لما يضاد القيمة، وكذلك لو أنتج زجاجاً مهشماً أو سيارةً بدون فرامل مع عدم إمكانية إصلاحها أو الاستفادة من قطعاتها فرضاً، وكون وجودها خطراً على المجتمع أو على فردها.
إخضاع بعض المعادلات العلمية للقواعد المعيارية
بقي: أن المعادلات العلمية يجب أن تخضع للمعادلات المعيارية، كلما أمكن الاختيار بين بدائلها أو التحكم في عللها، أو أمكن التأثير على نتائجها فيما إذا كانت بنحو المقتضي، بل أنها خاضعة لها عادة في كافة حكومات العالم، فلو فرض مثلاً أن عرض العمل زاد أضعاف عرض الطلب على اليد العاملة، فإن من الطبيعي أن تنخفض في السوق القيمة التبادلية للعمل والقوة العاملة والعامل، وتنخفض أكثر فأكثر، باستمرار كثرة العرض، مع اضطرار العمال للعمل ولو بثمن بخس.
الخيارات لدى انخفاض أجرة اليد العاملة:
وههنا نواجه بعدة خيارات في كيفية التعامل مع ذلك، بعضها تكويني ـ موضوعي، وبعضها معياري ـ أخلاقي.
فمن الخيارات التكوينية: زيادة الطلب عبر اتباع سياسة مالية توسعية، أو بإجراء سياسة نقدية سهلة، إذ يزيد ذلك من الطلب على اليد العاملة بدرجة كبيرة نتيجة تزايد الاستثمار.
والسياسة المالية والنقدية تعدّ من دائرة التحكم في العلل، إذ علة انخفاض قيمة اليد العاملة كانت قلة الطلب عليها مع وجود فائض منها، والسياستان تزيدان الطلب.
ومن الخيارات التشريعية ـ المعيارية: أن تخضع النتائج، أي انخفاض أسعار اليد العاملة، لتشريعات قانونية معيارية، كقانون: (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)(18)، والعدل والإنصاف، و: (لِئَلَّا يَتْوَى حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ)(19)، و: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)(20)، فإنه أكل مال بالباطل، مادام عمله ذا قيمة استعمالية أكبر، ولكن الطلب الضعيف والعرض القوي، خفضه، وذلك واضح إذا كان خفض الطلب عن خطة تستهدف خفض سعر العمالة، أو كان هناك تخطيط وراء زيادة العرض، يستهدف التلاعب بأسعار اليد العاملة، فإنه من أكل أموال الناس بالباطل حينئذٍ.
بل قد يقال: إن الأمر كذلك لو كان ضعف الطلب أو زيادة العرض كبيراً بشكل غير متعارف. ومع أن فيه تأملاً، إلا أن ذلك يمكن أن يعلّل بأن الأجرة المنخفضة جداً ظلم، وذلك يبتني على التدبر في المعادلة المطروحة في هذا البحث، وهي أن (القيمة التبادلية ليست وليدة العرض والطلب فقط، بل هي وليدة المنفعة والقيمة الاستعمالية وغيرها)، ولو كانت وليدة العرض والطلب فقط لأمكن أن يقول قائل بأنه لا يوجد ظلم ولا عدل إلا بحسب موازين العرض والطلب، وأنه نتيجة لذلك فإنه إذا انخفضت قيمة اليد العاملة إلى ما يقارب العُشر مثلاً، حسب العرض الكبير لها والطلب القليل عليها، فليس ظلماً من أرباب العمل أن يستخدموهم بعُشر القيمة التي تولدت عند نقطة توازن العرض والطلب، عكس ما لو كانت القيمة التبادلية وليدة للمنفعة الاستعمالية أيضاً، إضافةً إلى العرض والطلب، فإن عُشر القيمة المتعارفة ظلم للعمال، لأن الفرض أن قيمتها الاستعمالية هي عشرة أضعاف، والعدل هو رعاية نقطة التوازن بين منفعة العمال (جانب العرض) ومنفعة وحاجة أرباب العمل (جانب الطلب).
كما قد يستدل بأن الوجدان يشهد بأن ذلك ظلم وتضييع لحق العمال، إذ نستشعر بالضرورة أن أرباب الأعمال استغلوا حاجة العمال وكثرة العرض وقلة الطلب، ليعطوهم أجوراً لا تعادل إلا عُشر قيمة عملهم في الصور المتعارفة، بل أن هذا البرهان الإنّي (الانتقال من المعلول إلى العلة) أوضح دليل على بطلان نظرية مدارية العرض والطلب باعتبارهما المحدد الأول والأخير ـ معيارياً ـ للقيم التبادلية، وإلا لكان إعطاء الأجير أجراً يقارب الصفر عدلاً ما دام الطلب قليلاً جداً والعرض كثيراً جداً، مع أن الوجدان يرفض ذلك.
وقد يقال: إن الأجرة المنخفضة جداً نتيجة كثرة عرض العمالة وقلة الطلب، مندرجة في دائرة الإكراه الأجوائي، حسبما اصطلح عليه السيد الوالد في كتاب (الفقه: الاقتصاد)، ولو نوقش في كونه إكراهاً بالمعنى المصدري فإنه إكراه بالمعنى الاسم المصدري، وملاك الأدلة شامل له، بل إطلاق الظلم يعمّه، فتدبر وتأمل.
كما أن الوجدان يرفض عكسه في قيمة (المنتَج) فإن عرضها مهما زاد وقلّ الطلب، ولكن معيارياً، يجب أن لا تخفض أسعارها، بتواطؤ المستهلكين، إلى أقلّ من حدّ التكلفة، لأنه ظلم، إلا لو كان للمنتجين بدائل أخرى ممكنة يتوازن العرض والطلب فيها، وكان بمقدورهم، بدون تكاليف تذكر الانتقال إليها، فإذا أصروا على إنتاج نفس السلع والخدمات السابقة التي تكاد قيمتها تبلغ الصفر فحينئذٍ لا يكون من الظلم، إعطاؤهم حسب قيمة السوق، إذا تمّ ذلك بدون تواطؤ بين المستهلكين.
بل قد يقال: بأن (قيد تواطؤ المستهلكين) لا حاجة إليه، فإنه ظلم حتى إذا كان لا عن تواطؤ ما دامت المنفعة الاستعمالية أكبر بكثير وما دامت التكلفة أكبر أيضاً، ولذا تتخذ بعض الحكومات سياسة وضع حد أدنى للأسعار، أسعار المنتجات وأسعار اليد العاملة. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ)(21)، فإنه ظاهر في مقياسية الإجحاف ومراعاة حال الطرفين معاً: المنتج والمستهلك أو المشتري والبائع، متجاوزاً قاعدة تقاطع العرض والطلب، فإن (موازين العدل) لا تتمحور حول العرض والطلب فقط، بل تدور عرفاً مدار القيمة الاستعمالية والجهد المبذول إلى جوار معادلة العرض والطلب، فتدبر.
وقد يجيب عالم اقتصادي، بأن اليد الخفية لا تسمح بحدوث ذلك الظلم، إذ مع قلة الطلب وكثرة العرض وانخفاض القيم ينصرف المنتجون إلى إنتاج سلع أخرى، كما يتحول العمال إلى أعمال أخرى.
لكن هذا الجواب غير ناهض إلا في بعض الحالات، ولا يصح ولا ينهض في كثير من الحالات التي لا يوجد فيها للعمال فرص بديلة (ولذا ترتفع نسبة البطالة)، ولا للمنتجين القدرة على التكيف مع تقلبات العرض والطلب والانتقال لإنتاج سلعة أخرى مرغوبة؛ لأسباب وعوامل ذهنية أو جسمية أو تاريخية، أو لاحتياج التغيير إلى مهارات أخرى أو رأسمال آخر لا يتيسر لكل منتج. فهذا بحث إجمالي موجز عن (العمل) باعتباره محدداً من محددات القيمة التبادلية، وليس محدداً وحيداً فريداً، وسيأتي في المبحث الأخير من هذا الفصل تفصيل أكثر.
ولا بأس بالإشارة أخيراً، إلى أن البعض ارتأى أن الإسلام في تصنيفه للعناصر الثلاثة للإنتاج، فضّل العمل على عنصرَي رأس المال والأرض، لكن هذه مقولة لا دليل عليها ولم يستدل هو عليها، بل إنها جميعاً تسير في خطوط متوازية، والصحيح أنها جميعاً تحكمها مجموع العوامل العشرين المحددة للقيم والكسر والانكسار بينها وتركيبات تشابك تلك العناصر، ولعلنا نعود إلى هذه المسألة في بحث آخر تفصيلاً بإذن الله تعالى.