محددات القيمة التبادلية: البدائل والمكملات، الندرة والوفرة
المبحث الأول من الفصل الأول من الجزء الثاني من كتاب بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن (6)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-06-22 08:30
و. توفر البدائل أو المكمّلات أو العكس
سادساً: ومن محددات القيمة التبادلية للسلع والخدمات، إضافةً لمقياس المنفعة والقيمة الاستعمالية والعرض والطلب، توفر البدائل وعدم توفرها من جهة، وتوفر المكملات وعدم توفرها من جهة أخرى، ذلك أنه كلما توفرت البدائل للسلعة الاقتصادية، قلّت قيمتها التبادلية، وكلما تضاءلت أو انعدمت البدائل زادت قيمة السلعة أو الخدمة.
وكذلك الحال في المُكمّلات، فكلما توفرت المكمّلات ازدادت القيمة التبادلية للسلعة أو الخدمة، وكلما قلّت قَلّت وإذا انعدمت فلربما تنعدم القيمة التبادلية بالمرة.
ويمكن التمثيل للبدائل بما لو توفر البديل للحم الغنم، كلحم البقر أو الدجاج أو غيرهما، فإنه بنفس النسبة تنخفض قيمة لحم الغنم ويقلّ الطلب عليه أيضاً، عكس ما لو لم يتوفر البديل، فإن قيمة لحم الغنم تزداد حينئذٍ ويزداد الطلب عليه كما تزداد الحاجة والرغبة فيه، فيكون هذا المثال ملتقى عدد من العوامل ولكن، ومع ذلك، فإنه يمكن التفكيك بين عامل العرض والطلب، وعامل توفر البدائل والمكمّلات.
كما يمكن التمثيل للمكمّلات بإطارات السيارات أو مصابيحها أو وقودها أو غير ذلك، فإنه كلما انعدمت هذه المكمّلات في الأسواق انعدمت القيمة التبادلية للسيارات نفسها، أو انخفضت إلى حد كبير، وإذا قلّ وجود هذه المكملات قلّت القيمة التبادلية للسيارات، نظراً لقلة الطلب عليها حينئذٍ وتحوّل الناس إلى بدائل أخرى، كركوب الباصات أو القطارات أو حتى الدراجات أو المشي على الأقدام مهما أمكنهم ذلك.
نعم، قد يزيد قلة عرض المكملات من قيمة السيارات، فيما إذا كانت الأطراف مضطرة لشراء السيارات والمكملات، فإنها ستدفع ثمناً أكبر للمكمّلات كما ستدفع ثمناً أكبر للسيارات فيما إذا عقد البائع المحتكر علاقة تلازم بين السلعتين ورفع قيمة السيارات لذلك، وأما فيما عدا ذلك فإن زيادة قيمة المكملات يستدعي انخفاض قيمة السلعة الأصلية.
وعلى أي، فإن وفرة البدائل وقلتها، وتوفر المكملات وعدمه، من العوامل المؤثرة إلى حد كبير في زيادة القيمة التبادلية للسلعة أو الخدمة، أو في انخفاضها، أو في الحفاظ عليها على نفس المستوى السابق.
نعم قد يقال: إن العرض والطلب هما العامل المباشر لارتفاع القيمة التبادلية أو انخفاضها، والمكمّلات والبدائل عامل أساسي مؤثر في هذا العامل المباشر، فهما في الطول منه لا العرض، ولكن الصحيح أن البدائل والمكمّلات يمكن تفكيكها عن عامل العرض والطلب، إذ قد تكون مؤثرة في رفع القيمة التبادلية أو خفضها حتى من دون حركة منحنى العرض والطلب، ولذا اعتبرناها عاملاً مستقلاً، إذ قد تكون في طول عامل العرض والطلب كما قد تكون في عرضه، وذلك نظراً لتأثير العامل السيكولوجي في كثير من الأحيان عند توفر البدائل، على خفض السعر حتى من دون أن ينخفض الطلب، وعلى رفع السعر عند انعدام البدائل حتى من دون أن يرتفع الطلب، وذلك يعني بعبارة أخرى، أن احتمال / أو إمكانية انخفاض الطلب أو ارتفاعه أو العرض كذلك، مؤثر في انخفاض القيمة التبادلية أو ارتفاعها، وليس الارتفاع أو الانخفاض الفعلي للعرض والطلب، فقط.
ز. الندرة والوفرة
سابعاً: ومن محددات القيمة التبادلية: الندرة "Scarcity" والوفرة "Abundance"، وقد ذكر بعض علماء الاقتصاد هذا العامل، بينما ذكر علماء آخرون عامل العرض والطلب، وقد يتوهم أنهما وجهان لعملة واحدة، إذ كلما ندرت السلعة قلّ عرضها، وكلما زادت زاد عرضها، فهما عامل واحد.
فرق الندرة والوفرة عن العرض والطلب
لكن هذا الرأي غير صحيح، وتوضح ذلك: معادلة العموم من وجه المنطقية، وذلك فيما إذا أردنا من الندرة والوفرة، الندرة والوفرة الواقعيين (الثبوتيين فلسفياً) دون ما إذا أردنا من الندرة ندرة العرض ومن الوفرة وفرته، فإن من الواضح أنه سيكون ذلك تعبيراً آخر عن العرض، وقال بعض علماء الاقتصاد: (الندرة هي الصفة المميزة للسلعة الاقتصادية، وكون السلعة الاقتصادية نادرة لا يعني أن من العسير إيجادها، بل إنه لا يمكننا مد أيدينا وأخذها بحرية، بل يجب على المرء إما إنتاجها أو أن يعرض سلعاً اقتصادية أخرى في مقابلها)(1)، ولعل هذا المفهوم أمر متوسط بين المفهومين السابقين، فتدبر.
أما الندرة والوفرة الواقعيين، فيعنيان كثرة أو ندرة (الموجود) من السلعتين لا (المعروض)، وقد يكون الشيء موجوداً ولكنه لا يكون معروضاً للبيع، وأوضح مثال على ذلك: صورة الاحتكار، فإن البضاعة قد تكون متوفرة بكثرة في المخازن ولكنها غير معروضة للبيع.
وإذا كان المقصود من الندرة والوفرة، الواقعيين، فقد سبق أن الواقع لا يؤثر في القيمة التبادلية (قيمة السوق)، إذ أن العجز عن الوصول إلى السلعة، لهو نظير للجهل بها، فكما أنك إذا جهلت كثرة العرض فإنك مستعد لأن تدفع غالياً، وكما أن البائع إذا جهل كثرة الطلب فإنه مستعد لأن يبيع رخيصاً، فكذلك إذا عجزت عن الوصول إلى البضائع أو عجز البائع عن أن يبيع بضاعته، فإن البضائع المتوفرة في المخازن لو كانت أكثر من حجم الطلب ألف بالمائة فرضاً، ولكن لم يكن من الممكن للمالك أن يعرض للبيع منها (ويسلم للمشتري، في زمن الشراء أو في الزمن المحدد) إلا عُشرها، فذلك يعني تساوي حجم العرض والطلب وستكون القيمة حينئذٍ متكافئة متعادلة، أما إذا لم يكن ممكناً عرض 99% منها، أي كان الممكن عرض 1% منها فقط، فإن المعروض حينئذٍ يكون عُشر المطلوب فتنخفض القيمة تبعاً لذلك، على حسب مرونة الطلب، فإن كانت مرونة كاملة انخفضت القيمة 90% بالمائة، وإلا فأقل وأقل.. وهكذا..
وقد يقال: إن (الندرة الواقعية) تؤثر في حدوث الغلاء، و(الكثرة الواقعية) تؤثر في حصول الرخص، ولكن مع العلم بهما، فيكون للعلم بهما أو حتى الاحتمال العقلائي، تأثير في القيمة التبادلية، فيرجع ذلك إلى تأثير العامل السيكولوجي، ولكن إذا كان متعلَّقه الندرة والوفرة.
الشيخ الصدوق: سعة الأشياء وقلتها أو قلة الريع
وقد ذهب الشيخ الصدوق في كتاب (التوحيد) إلى تأثير عامل الوفرة والندرة، وقد أسماها سعة الأشياء وقِلّتها، كما ذهب إلى تأثير عامل ارتفاع التكلفة (قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: الغلاء هو الزيادة في أسعار الأشياء حتى يباع الشيء بأكثر مما كان يباع في ذلك الموضع، والرخص هو النقصان في ذلك.
فما كان من الرخص والغلاء عن سعة الأشياء وقلتها، فإن ذلك من الله عز وجل ويجب الرضا بذلك والتسليم له، وما كان من الغلاء والرخص بما يؤخذ الناس به لغير قلة الأشياء وكثرتها(2) من غير رضا منهم به، أو كان من جهة شراء واحد من الناس جميع طعام بلد فيغلو الطعام لذلك، فذلك من المسعر والمتعدي بِشِرى طعام المصر كله. كما فعله حكيم بن حزام، كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله، فمرّ عليه النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا حكيم بن حزام، إياك أن تحتكر)(3)
ويقصد (قدس سره) من (فما كان من الرخص والغلاء عن سعة الأشياء وقلتها)، مثل الألماس والذهب حيث كانت أسعارها غالية لقلتها وندرتها، ومثل الأسماك وبعض أنواع الطيور، نعم لو تدخل البشر لزيادة إنتاجية الطبيعة، عبر تشبيكها بالعمل ورأس المال المكثف، كانت هذه السعة الإضافية من الناس والحيوانات البرية حيث كانت أسعارها رخيصة لسعتها وكثرتها، فإن هذه الكثرة والسعة أو القلة هي من الله تعالى (بعوامل طبيعية)، ولذا كان الرخص والغلاء منه تعالى.
وقال: (ولو كان(4) منه عز وجل لوجب الرضا به والتسليم له، كما يجب إذا كان عن قلة الأشياء أو قلة الريع لأنه من الله عز وجل)(5)، ويقصد من الريع ريع الأرض وقلته التي تنشأ من موقعها الجغرافي السيء أو جدبها وعدم خصوبتها والتي هي في حالتها الأولية من الله تعالى.
وكما وجدنا فإن الشيخ الصدوق أضاف عاملاً آخر للغلاء وارتفاع القيمة التبادلية وهو (قلة الريع)، إذ كلما قلّ الريع اضطر المنتج إلى رفع القيمة التبادلية كي يعوّض عن انخفاض الريع، وقلة الريع هو الوجه الآخر لارتفاع التكلفة.
لكن الظاهر أن القلة والكثرة الواقعية غير مؤثرة في القيمة التبادلية إلا عبر معادلة العرض والطلب، فلو كانت قليلة جداً ولكن كان الطلب عليها أقل لكانت رخيصة، ولو كانت كثيرة جداً وكان الطلب عليها أكثر كانت غالية، إلا أن تفسّر القلة والكثرة بالنسبية، أي بالنسبة إلى الطلب، فإنها حتى لو كانت كثيرة جداً ولكن مادام الطلب عليها أكثر فهي قليلة بالنسبة، ولكن على أية حال، وكما سبق، فإن للقلة والكثرة الواقعية تأثيراً سيكولوجياً في صورة العلم بها أو احتمالها احتمالاً عقلائياً، كما أن العرض والطلب لا يتفردان في التأثير على القيمة التبادلية، بل إن للقيمة الاستعمالية والمنفعة دوراً وتأثيراً، ولذا لا تنخفض قيمة لوحة بيكاسو أو الجوهرة السوداء النادرة أو الحديقة الغناء أو المنزل الفاخر إلى قيمة رسم عادي أو تفاحة واحدة، حتى لو انعدم الطلب عليها بالمرة، بأن لم يوجد من يرغب في شرائها لسبب أو آخر، إذ لا المالك يكون على استعداد لخفض قيمتها إلى قيمة اللوحة أو التفاحة(6)، ولا أن الناس يجدون قيمتها مساويةً للوحة العادية والتفاحة، بل غاية الأمر يذعنون بعجزهم عن شرائها أو عدم رغبتهم رغم استحقاقها للقيمة الكبيرة.
جالياني: المنفعة والندرة معاً
ومن جهة أخرى فقد ذهب جالياني إلى أن محدد القيمة التبادلية هو المنفعة والندرة معاً، أي أنه جمع بين هذا العامل السابع والعامل الأول، (فبعد أن يعرِّف جالياني "Galiani" مصطلح القيمة "Value" بصورة محددة (الكتاب الأول، الفصل الثاني) كعلاقة مساواة ذاتية بين كمية من سلعة معينة وكمية من سلعة أخرى ـ يعالج جالياني المساواة الموضوعية حول السوق "Objective equivalences on the market" كحالة خاصة من هذه العلاقة، ولكنه لا يطور الانتقال من القيم الذاتية إلى القيم الموضوعية بهذا المعنى ـ بحيث إن عبارة: قيمة سلعة معينة لا يكون لها معنى إلا عند الإشارة إلى كمية معينة من سلعة أخرى، فإن جالياني يجيب على السؤال المتعلق بالعوامل التي تحدد تلك القيمة بأنها المنفعة "Utility: والندرة "Scarcity" (utilita e rarita) ويباشر تطوير هذه المفاهيم بطريقة أشكُ بوجود مثيل لها في الكثير من المقررات المدرسية الأولية في وقتنا الحاضر...
فما يميز جالياني عن جيفونس ومنجر هو:
أولاً: افتقاده إلى مفهوم المنفعة الحدية، رغم أن مفهوم الندرة النسبية يقترب منه نوعاً ما.
وثانياً: فشله في تطبيق تحليله على مشاكل التكلفة ومشاكل التوزيع. وقد يشكل النقص الأول سبباً لعدم امتلاك جالياني نظرية مقبولة للسعر، رغم أنه كان قادراً على التقدم أكثر مما فعل رغم ذلك النقص، كما يبين نجاح إسنارد اللاحق. ولكنه ترك بصماته على الموضوع حتى في تلك الحالة)(7).
عامل الندرة والتضخم على مستوى النصوص
ومن الروايات الرائعة التي تشير إلى عامل الندرة والوفرة (الواقعيين)، وتؤكد أنهما ليسا المدار في التضخم وارتفاع أو انخفاض الأسعار، ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ وَكَّلَ بِالسِّعْرِ مَلَكاً فَلَنْ يَغْلُوَ مِنْ قِلَّةٍ وَلا يَرْخُصَ مِنْ كَثْرَةٍ)(8).
والجملة الثانية (فَلَنْ يَغْلُوَ...) صريحة في أن الغلاء والرخص وهما التعبير الآخر عن (القيمة التبادلية) ليسا تابعين للقلة (الندرة) أو الكثرة (الوفرة)، والمراد بهما ظاهراً الواقعيين وليس المراد بهما قلة العرض وكثرته، بل قلة وجود السلعة ثبوتاً وكثرتها.
ولكن الجملة الأولى تشير إلى أن سبب الغلاء هو ملك مكلف بذلك، فقد يتوهم أن ذلك تصريح بتدخل مباشر لعالم الغيب في خفض الأسعار ورفعها، لكن الظاهر أن المراد، بقرينة سائر الروايات، أن الملك عامل طولي وليس المراد أنه عامل مباشر، وقد فصّلنا الكلام في موضع آخر من هذا الكتاب عن طولية عالم الغيب وأن كل ما تذكر فيه الملائكة أو الشياطين كسبب لظاهرة طبيعية كالرزق والموت الزراعة و... فالمراد السبب الطولي الغيبي لا المباشر المادي، وعلى أي، فإن السبب المباشر هو عامل ظاهري وهو العرض والطلب على ما يستفاد من أخبار أخرى، وقد أشرنا إلى بعضها في عنوان (العرض والطلب).
وقال العلامة المجلسي في بحار الأنوار: (وأما الأسعار فقد ذهبت الأشاعرة إلى أنه ليس المسعِّر إلا الله تعالى بناءً على أصلهم من أن لا مؤثر في الوجود إلا الله.
وأما الإمامية والمعتزلة فقد ذهبوا إلى أن الغلاء والرخص قد يكونان بأسباب راجعة إلى الله، وقد يكونان بأسباب ترجع إلى اختيار العباد.
وأما الأخبار الدالة على أنهما من الله، فالمعنى أن أكثر أسبابهما راجعة إلى قدرة الله، أو أن الله تعالى لما لم يصرف العباد عما يختارونه من ذلك مع ما يُحدث في نفوسهم(9) من كثرة رغباتهم أو غناهم بحسب المصالح فكأنهما وقعا بإرادته تعالى، كما مر القول فيما وقع من الآيات والأخبار الدالة على أن أفعال العباد بإرادة الله تعالى ومشيته وهدايته وإضلاله وتوفيقه وخذلانه، ويمكن حمل بعض تلك الأخبار على المنع من التسعير والنهي عنه، بل يلزم الوالي أن لا يجبر الناس على السعر ويتركهم واختيارهم فيجري السعر على ما يريد الله تعالى)(10).
وقد استدل البعض على نظرة الإسلام إلى (الوفرة) وتأثيراتها معيارياً، بقوله (عليه السلام): (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيَّع)، ولكن قد يقال:
أولاً: لم يثبت ورود هذه الرواية عن الإمام علي (عليه السلام)، وإنما أرسلها عنه (عليه السلام) بعض الكتّاب المتأخرين(11)، والموجود في نهج البلاغة: (مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ)(12).
ثانياً: أن الرواية لا تفيد تقبيح الوفرة كما استفاده هذا البعض، إذ هي تشير إلى القضية الخارجية كقضية خبرية، لا إلى الجهات المعيارية وما ينبغي وما لا ينبغي.
وبعبارة أخرى: لا يدل ذلك على إدانة الوفرة في حد ذاتها أو كونها علمياً السبب في ضياع حق آخرين، بل قد تكون من المقارنات.
ولكن قد يقال: إن العرف يفهم من هذا الكلام السببية كما يفهم التقبيح. ولكنه لو صح فإنما هو تقبيح للوفرة التي إلى جانبها حق مضيّع، دون ما لو لم يضيع الحق فإنه لا تكون الوفرة حينئذٍ مبغوضة، فتدبر جيداً.
(اقتصادنا): الرغبة تنخفض مع زيادة الوفرة
وقال في (اقتصادنا): (والمنفعة الاستعمالية وإن كانت الأساس الرئيسي للرغبة ولكنّها لا تنفرد بتحديد درجة الرغبة في الشيء، فإن درجة الرغبة في أيّ سلعة كانت تتناسب طرداً مع أهمية المنفعة التي تؤديها السلعة، فكلّما كانت السلعة أعظم منفعةً كانت الرغبة فيها أكثر. وتتناسب درجة الرغبة عكسياً مع مدى إمكانية الحصول على السلعة، فكلّما توفّرت إمكانات الحصول على السلعة أكثر تنخفض درجة الرغبة في السلعة، وبالتالي تهبط قيمتها. ومن الواضح أن إمكانية الحصول على السلعة تتبع الندرة والكثرة، فقد يكون الشيء كثيراً ومتوفّراً بصورة طبيعية إلى الدرجة التي تجعل من الممكن الحصول عليه من الطبيعة دون جهد، كالهواء، وفي هذه الحالة تبلغ القيمة التبادلية درجة الصفر؛ لانعدام الرغبة، ومهما قلّت إمكانية الحصول على الشيء تبعاً لقلّة وجوده أو صعوبة إنتاجه ازدادت الرغبة فيه وتضخمت قيمته)(13).
وهذا الكلام يعكس وجهة النظر المعروفة في علماء الاقتصاد في الندرة والوفرة من حيث محوريتهما في القيمة التبادلية.
المناقشة
لكن قوله: (فكلّما توفّرت إمكانات الحصول على السلعة أكثر تنخفض درجة الرغبة في السلعة، وبالتالي تهبط قيمتها)، ليس بالصحيح على إطلاقه وبدون تقييد، فإن الرغبة في الحصول على السلع الأساسية (بل وحتى الثانوية) لا تنخفض مع مجرد توفر إمكانات الحصول عليها، لأن الحاجة ومن ثم الإشباع لا ينخفضان بمجرد إمكانية الحصول على السلعة، بل بالحصول عليها فعلاً واستهلاكها، وإنما تنخفض الرغبة في السلعة مع انخفاض فائدتها، (والأصح: مع انخفاض الإحساس بفائدتها)، أو مع انخفاض الإشباع الحاصل منها وانخفاض الحاجة إليها، ألا ترى أنك لا تنخفض درجة رغبتك في الماء، إذا كنت بأشدّ حالات العطش(14)، سواء أكان أمامك نهر من الماء أو جدول أو إناء واحد، وسواء أكان الحصول عليه صعباً أم كان في المتناول، نعم يختلف الثمن، والقيمة التبادلية، الذي تكون مستعداً لدفعه ثمناً للماء، وينخفض إذا كان متوفراً وكان عرضه أكبر من طلبه، فالذي اختلف بالوفرة والندرة هو القيمة لا الرغبة.
وإذا أردنا تصحيح جملته السابقة لزم أن نقول: (وكلما توفرت إمكانية الحصول على السلعة مجاناً أكثر، تنخفض درجة الرغبة في شراء السلعة وبالتالي تهبط قيمتها)، فلاحظ إضافة كلمتي (مجاناً) و(شراء) فإن هذا هو الصحيح فقط، أي ليست الوفرة بمجردها السبب في انخفاض القيمة، بل السبب توفر السلعة مجاناً، وأما لو توفرت بكثرة ولكن بثمن فإن ذلك لا يخفض سعرها لكونه السبب في انخفاض الرغبة، بل لمجرد كثرة العرض، وعلى أية حال لا مدخلية للتوفر وعدمه في أغلب السلع أو أكثرها في زيادة الرغبة وعدمها، نعم قد يكون ذلك في الأثريات والتحفيات وشبه ذلك.
وأما الهواء فلا يصح أنه (وفي هذه الحالة(15)، تبلغ قيمته التبادلية درجة الصفر لانعدام الرغبة)، إذ إنما تبلغ قيمته التبادلية درجة الصفر لأنه متوفر لك مجاناً من دون حاجة إلى بذل ثمن، لا لمجرد أنه متوفر في الطبيعة، كما لا تنعدم "الرغبة في الهواء" لتوفره في الطبيعة دون جهد، بل تنعدم "الرغبة في شرائه" لتوفره مجاناً في الطبيعة، إذ لا يوجد عاقل يشتري ما هو متوفر مجاناً، ولذا لو توفر الماء أو الهواء في الطبيعة وكان بمقدورك الحصول عليه دون أي جهد بدني، كما لو كان النهر أمامك أو كنت في الهواء الطلق ولكنه كان فرضاً مملوكاً للغير ولا يمنحه لك دون ثمن، فإن مجرد كثرته حتى بشكل مذهل، لا تبلغ بقيمته درجة الصفر، إلا لو قررت أن تكون معتدياً وأمكنك ذلك، وإذا قررت أن تكون معتدياً وأمكنك ذلك فإنه حتى النادر من السلع ستبلغ قيمته التبادلية لديك الصفر، لا المتوفر منها فقط.
بعبارة أخرى: عرض السلعة بثمن أو بدون ثمن أو الملكية والمجانية، هي ذات المدخلية في القيمة التبادلية، فإنه لا تخضع القيمة التبادلية لدى العقلاء وفي أسواقهم، للجهات التكوينية فحسب، (أي للندرة والوفرة والرغبة وعدمها)، بل تخضع أيضاً للجهات الاعتبارية (كالملكية وعدمها)، فإذا توفر الماء مثلاً تكويناً بشكل كبير جداً لكنه كان مملوكاً للغير ومعروضاً للبيع بسعر معين، فإنه يختلف عما لو توفر بشكل كبير جداً وكان غير مملوك للغير وغير محتاج في الحصول عليه إلى بذل مال؛ إذ في الصورة الثانية فقط تبلغ قيمته التبادلية صفراً، (لأنه ليس مملوكاً للغير أساساً)، دون الصورة الأولى، فإنه تبقى له قيمة تبادلية وإن كانت منخفضة إلى حد ما.
ويمكن أن نمثل بوجه آخر: وهو أن الماء / الهواء أو... لو توفر في الطبيعة وكان بمقدورك الحصول عليه دون أدنى جهد بدني (كما هو كذلك عادة في الهواء، وفي الماء لدى من يسكن على حافة عين عذبة أو نهر نظيف).
ولكن ظالماً مترصداً حكم عليك بأن تدفع مقابل كل ساعة من استنشاق الهواء أو كل غرفة تغترفها من الماء دولاراً مثلاً، فإن رغبتك فيه لا تنخفض ولا تبلغ قيمته التبادلية الصفر، لمجرد عدم حاجتك في استنشاقه أو شربه إلى جهد، سوى أنه هددك أنك إذا استنشقت الهواء دون أن تدفع الثمن، حرمك من إعانات البطالة، أو منعك من الاستيراد والتصدير، أو لم يسمح بأن ترسو المناقصة عليك أو شبه ذلك، أو حتى لو هددك بأن لا يفعل ما من صلاحياته وحقوقه أن يفعله أو لا يفعله، كأن لا يشتري منك بضائعك مع كونه المشتري أو المستورد الأكبر لها، ومن البديهي أنك في كل هذه الصور يمكنك استنشاق الهواء المتوفر بكثرة دون أي جهد بدني، لكنك مع ذلك ستجد أن للهواء حينئذٍ قيمة تبادلية، وإن كان منشأها ظلماً، اللهم إلا مع تعميم والجهد البدني ليشمل (المضاعفات السلبية)، لكنه مما لا يعرب عنه هذا المصطلح كما لا تساعد عليه اللغة.
وعلى أي تقدير، فإن الأدق والأولى أن نقوم بتعديل العبارة السابقة إلى: (فقد يكون الشيء كثيراً ومتوفراً بصورة طبيعية إلى الدرجة التي تجعل من الممكن الحصول عليه من الطبيعة بصورة مجانية ودون أي جهد ودون أي مضاعفات سلبية)، وأن يقال، بتعديل عباراته الأخرى: (وفي هذه الحالة تبلغ القيمة التبادلية درجة الصفر، لانعدام الرغبة في شرائه بثمن، لا لانعدام الرغبة فيه نفسه).
وقوله: (ومهما قلّت إمكانية الحصول على الشيء، تبعاً لقلّة وجوده أو صعوبة إنتاجه، ازدادت الرغبة فيه وتضخمت قيمته)، ليس بصحيح كقاعدة عامة، وإن صح ذلك أحياناً، فإنه إذا قلّت إمكانية الحصول على الشيء كالبرتقال مثلاً لقلة وجوده، فإنه كثيراً ما لا تزداد الرغبة فيه مع بقاء فائدته كما هي، نعم قد تزداد رغبة بعض الناس فيه إذا رأوا ندرته، لكن عامة الناس ليسوا هكذا، أو هم على أنواع، كما أن قيمته لا تتضخم بالضرورة إلا إذا ازداد الطلب عليه، وأما من دون زيادة الطلب عليه فإنه مهما قلّت إمكانية الحصول عليه فإنه لا تتضخم قيمته.
وبعبارة أدق: مع توفر الهواء أو الماء في الطبيعة بشكل كبير بحيث يمكنك الحصول عليه بدون حاجة إلى أي جهد، فإن (الرغبة في الماء والحاجة إليه) مع العطش لا تنخفض أصلاً، بل إن (الحاجة إلى التبادل) هي التي تنخفض أو تنعدم، فالصحيح أنه (مع توفر إمكانات الحصول على السلعة أكثر تنخفض / تنعدم درجة الحاجة إلى إجراء عملية التبادل عليه، إذ يمكن الحصول عليها دون تبادل، ولكن الرغبة في استهلاك السلعة لا تنخفض أبداً.