هل تزكي اليابان النظرية النقدية الحديثة؟
بروجيكت سنديكيت
2021-12-26 06:09
بقلم: تاكاتوشي إيتو
طوكيو ــ منذ اندلاع الأزمة المالية في عام 2008، ارتفعت الديون العامة إلى عنان السماء، وخاصة أثناء جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). وفقا لصندوق النقد الدولي، ارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمال في الاقتصادات المتقدمة من نحو 70% في عام 2007 إلى 124% في عام 2020. لكن الخوف من أن يتسبب الدين العام المتزايد الارتفاع في تغذية أزمات مالية في المستقبل تضاءل كثيرا، ويرجع هذا جزئيا إلى انخفاض عائدات السندات الحكومية بشدة لفترة طويلة.
على الرغم من أن العائدات بدأت تنخفض قبل هذا بفترة طويلة، في تسعينيات القرن العشرين، فإنها ظلت منخفضة بفعل التيسير الكمي بعد الركود في عام 2008 ثم في عام 2020. لا يشك سوى قِـلة من المراقبين في أن النفقات المالية الضخمة كانت مبررة لتخفيف المعاناة خلال مثل هذه الأحداث. لكن دعاة النظرية النقدية الحديثة يدفعون بهذا المنطق بضع خطوات أخرى أبعد.
يؤكد أنصار النظرية النقدية الحديثة على عدم وجود مبرر للخوف من اندلاع أزمة مالية ما دام الدين مقوم بعملة البلد ذاته، لأن التخلف عن السداد من غير الممكن أن يحدث في هذه الحالة. وعلى هذا فإن أي سحب للحافز المالي يجب أن يكون تدريجيا. وفي الوقت ذاته، يمكن استخدام إصدارات جديدة من الدين العام لتمويل الاستثمارات في البنية الأساسية، وبرامج دعم الدخل، وغير ذلك من البنود المدرجة على الأجندة التقدمية، شريطة أن يظل معدل التضخم أقل من المستوى المستهدف من قِـبَـل البنك المركزي (نحو 2% في عموم الأمر).
يستشهد أنصار النظرية النقدية الحديثة باليابان كدليل على هذا المفهوم. فبرغم أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليابان (بما في ذلك الحكومة المركزية والمحلية) أعلى من 250%، مقارنة بنحو 160% في الولايات المتحدة، فإن عائد السندات الحكومية لعشر سنوات ظل قريبا من الصِـفر طوال فترة جائحة كوفيد-19، ولم يتجاوز متوسط معدل التضخم الصِـفر إلا بالكاد طوال عشرين عاما. ولم تخلف إصدارات السندات السنوية الجديدة ومستويات الديون البالغة الارتفاع أي أثر واضح عل تكاليف الاقتراض.
ولكن قبل أن تسارع دول أخرى إلى محاكاة اليابان، يجب أن تضع في الاعتبار أن سندات الحكومة اليابانية تصدر بالين، وجميعها تقريبا مملوكة لمقيمين في اليابان، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال المؤسسات المالية والبنك المركزي. وهذا يجعل اليابان مختلفة عن الولايات المتحدة، التي يملك سندات خزانتها مستثمرون في مختلف أنحاء العالم.
يعتقد بعض الساسة في اليابان أن بلدهم يستحق الإشادة بوصفه نموذجا للنظرية النقدية الحديثة يحتذى به. في هذا الشهر فقط، وافق البرلمان الياباني على ميزانية تكميلية، والتي تعتمد على إصدار سندات جديدة بقيمة 22 تريليون ين (192 مليار دولار أميركي)، بالإضافة إلى 44 تريليون ين في الميزانية الأولية. وبهذا يصل إجمالي الإصدارات الجديدة في هذه السنة المالية إلى 66 تريليون ين، أو نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي. يتمثل أحد بنود الإنفاق المثيرة للجدال في الميزانية التكميلية في تحويل 100 ألف ين لكل قاصر من السكان (18 عاما أو أقل).
الشيء الوحيد الذي أصاب فيه دعاة النظرية النقدية الحديثة هو أن الحكومة اليابانية لا تحتاج إل التخلف عن سداد ديونها، ولا ينبغي لها هذا. وحتى لو لم يكن هناك من يشتري هذه الديون، فمن الممكن أن يستمر بنك اليابان في شراء سندات جديدة ومرحلة عن طريق ضخ النقود. قد يؤدي هذا إلى ارتفاع معدلات التضخم بشدة. لكن دعاة النظرية النقدية الحديثة سيقولون إن إصدارات السندات يمكن وقفها إذا تجاوز معدل التضخم 2%.
المشكلة أن الأوان ربما يكون فات بحلول ذلك الوقت. مع نمو مخزون الديون إلى مستويات بالغة الارتفاع، يتطلب الأمر خفض العجز والديون المتراكمة بدرجة هائلة لتغطية ثمن استرداد السندات المستحقة السداد. والتوقف المفاجئ عن إصدار السندات عند معدل التضخم 2% من شأنه أن يُـفضي في الأرجح إلى ركود حاد. الخيار الآخر الوحيد المتاح هو أن يستمر بنك اليابان في شراء الديون، مما قد يؤدي إلى ارتفاع التضخم، إن لم يكن فرط التضخم.
علاوة على ذلك، لا تعني إمكانية تجنب التخلف عن السداد أن الاستمرار في إصدار السندات بعد المرحلة الحادة من الأزمة قد يعزز الرفاهة الاجتماعية. الواقع أن التحويلات النقدية، كتلك التي نالت الموافقة للتو، وغير ذلك من البرامج، تعود بالفائدة على الأجيال الحالية، في حين يتحمل دافعو الضرائب في المستقبل ــ وكثيرون منهم لم يولدوا بعد ــ العبء الضريبي المترتب على استرداد السندات في نهاية المطاف. وحتى عندما يجري ترحيل السندات الحالية إلى أجل غير مسمى، فسوف تتحمل أجيال المستقبل مدفوعات الفائدة عن الاستهلاك الحالي الممول بالاستدانة.
تعتمد صلاحية النظرية النقدية الحديثة جزئيا على نصيب الفرد المتوقع في النمو الحقيقي (المعدل تبعا للتضخم). إذا كان عدد السكان في ازدياد، وإذا كانت أجيال المستقبل ستصيب قدرا أعظم من الثراء مقارنة بالأجيال الحالية، فسوف يكون "عبء" إصدارات السندات الحالية ضئيلا حقا. بهذا المنطق، تعمل إصدارات السندات للاستهلاك على نحو أشبه بأنظمة المعاشات التي تقوم على مبدأ الدفع أولا بأول. ما دام الاقتصاد ينمو بسرعة أكبر من عبء الفائدة، فإن نظام الدفع أولا بأول يصبح نهجا معقولا، لأن كل جيل يستطيع ببساطة أن يحول العبء إلى الجيل التالي، إلى ما لا نهاية.
مثله كمثل "مخطط بونزي" لا يعمل هذا إلا إذا استمرت قاعدة الهرم في التوسع. في الولايات المتحدة، ربما تكون الحكومة قادرة على الاستمرار في زيادة ديونها والإبقاء عل نظام الضمان الاجتماعي القائم على الدفع أولا بأول لعدة عقود من الزمن. لكن اليابان لا تملك مثل هذا الـتَـرَف، لأن عدد سكانها كان في انخفاض منذ عام 2008 (وعدد سكانها في سن العمل منذ عام 1998)، وكان نصيب الفرد في دخلها راكدا لمدة ثلاثين عاما. أي أن هذا المخطط سينهار قريبا.
لا يستطيع الناخبون والساسة اليابانيون أن يستمروا في التعامل مع الأموال النقدية التي تُـجـمَـع عن طريق إصدارات السندات الجديدة والـمُـرَحَّـلة على أنها هِـبة من السماء. وإذا كان الناخبون راغبين في إعادة توزيع الدخل، فيتعين عليهم أن يتقبلوا حقيقة مفادها أن التحويل يجب أن يأتي من أثرياء اليوم (أكثرهم من كبار السِـن)، وليس من أجيال المستقبل. وإذا أصبح نظام الضمان الاجتماعي أكثر سخاء، بسبب توقعات مفرطة في التفاؤل، فيجب أن يضاف شرط استرجاع الأموال.
من ناحية أخرى، إذا نشأت الحاجة إلى التحفيز المالي، فيجب أن يكون الإنفاق موجها بشكل أكثر حكمة لدعم النمو في المستقبل، من خلال تعزيز الاستثمار في رأس المال البشري والإبداع على سبيل المثال. لكن التأييد المطلق للنظرية النقدية الحديثة، وما يترتب على ذلك من عواقب مرتبطة بالسياسات، هو آخر شيء تحتاج إليه اليابان. والآن وقد مرت المرحلة الحادة من الأزمة، يُحـسِـن القادة اليابانيون صنعا بالبدء في التفكير في المخزون الهائل من الديون الذي يثقل كاهل اليابان.