أين ذهب كل هذا المال؟
بروجيكت سنديكيت
2021-09-18 07:21
بقلم: روبرت سكيدلسكي
لندن ــ وسط كل هذه الأحاديث حول توقيت وكيفية إنهاء أو عكس برامج التيسير الكمي، يتبادر إلى ذهني سؤال واحد لم يُـطرَح قَط تقريبا: لماذا كان تأثير الجرعات الضخمة من مشتريات السندات من جانب البنوك المركزية في أوروبا والولايات المتحدة منذ عام 2009 ضئيلا للغاية على مستوى الأسعار العام؟
خلال الفترة من عام 2009 إلى 2019، ضخ بنك إنجلترا 425 مليار جنيه إسترليني (588 مليار دولار) ــ نحو 22.5% من الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة عام 2012 ــ إلى اقتصاد المملكة المتحدة. كان المقصود من هذا دفع التضخم إلى الارتفاع إلى المستوى الذي حدده بنك إنجلترا في الأمد المتوسط بنسبة 2%، من مستوى منخفض بلغ 1.1% فقط في عام 2009. ولكن بعد عشر سنوات من التيسير الكمي، ظل التضخم أقل من المستوى الذي كان عليه في عام 2009، على الرغم من حقيقة مفادها أن أسعار المساكن وأسواق البورصة كانت في ازدهار، ولم يتعاف نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى معدل الاتجاه الذي كان عليه قبل الأزمة.
منذ اندلعت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) في مارس/آذار 2020، اشترى بنك إنجلترا ما قيمته 450 مليار جنيه إسترليني إضافية من السندات الحكومية البريطانية، ليصل الإجمالي إلى 875 مليار جنيه إسترليني، أو 40% من الناتج المحلي الإجمالي الحالي. وحتى الآن لم يكن تأثير هذه الجولة الثانية من التيسير الكمي على التضخم ملموسا، لكن أسعار الأصول ارتفعت مرة أخرى بشكل ملحوظ.
الحكم العام المعقول هنا هو أن زيادة كمية الأموال من خلال برامج التيسير الكمي تعطي دَفـعة ضخمة مؤقتة لأسعار المساكن والأوراق المالية، وهذا بالتالي يعود بالفائدة بشكل كبير على أصحاب هذه الأصول. وتتقاطر نسبة صغيرة من هذه الثروة المتزايدة إلى الاقتصاد الحقيقي، لكن أغلبها يجري تداوله ببساطة داخل النظام المالي.
الحجة الكينزية المعتادة، المستمدة من النظرية العامة لجون ماينارد كينز، هي أن أي انهيار اقتصادي، أيا كان سببه، يُـفضي إلى زيادة كبيرة في اكتناز السيولة. فتتدفق الأموال إلى الاحتياطيات، وترتفع المدخرات، في حين ينخفض الإنفاق. لهذا السبب، زعم كينز أن التحفيز الاقتصادي في أعقاب الانهيار يجب أن يتم من خلال السياسة المالية وليس السياسة النقدية. يجب أن تكون الحكومات "مُـنفِـق الملاذ الأخير" لضمان استخدام الأموال الجديدة في الإنتاج بدلا من اكتنازها.
ولكن في أطروحته حول المال، قدم كينز رواية أكثر واقعية تقوم على "الطلب المضارب على المال". زعم كينز أن المال لا يُـكـتَـنَز بالضرورة أثناء دورة انكماش اقتصادي حاد، لكنه يتدفق من التداول "الصناعي" إلى التداول "المالي". يدعم المال في التداول الصناعي العمليات الطبيعية المتمثلة في إنتاج الناتج، لكن في التداول المالي، يُـستَـخـدَم المال "لأغراض اقتناء وتداول الحقوق الشرعية القائمة للثروة، بما في ذلك البورصة ومعاملات سوق المال". يتسم الكساد بتحويل الأموال من التداول الصناعي إلى التداول المالي ــ من الاستثمار إلى المضاربة.
وعلى هذا فإن السبب وراء فشل التيسير الكمي في ترك أثر حقيقي على مستوى الأسعار العام ربما يكون أن جزءا كبيرا من الأموال الجديدة استُـخـدِم لتغذية المضاربة في الأصول، مما تسبب بالتالي في خلق فقاعات مالية، في حين ظلت الأسعار (والناتج ككل) مستقرة.
يتمثل أحد الآثار المترتبة على هذا في عمل التيسير الكمي على توليد دورات من الازدهار والكساد. على عكس أتباع جون ماينارد كينز التقليديين، الذي اعتقدوا أن الأزمات ترجع إلى صدمة خارجية أو أخرى، أعرب الاقتصادي هايمان مينسكي عن اعتقاده بأن النظام الاقتصادي قد يعمل على توليد الصدمات من خلال ديناميكياته الداخلية. زعم مينسكي أن الإقراض المصرفي يمر عبر ثلاث مراحل انحطاط، والتي أسماها "التحوط"، و"المضاربة"، و"الاحتيال". في البداية، يجب أن يكون دخل المقترض كافيا لسداد أصل القرض وفوائده. ثم يجب أن يكون مرتفعا بالقدر الكافي لتلبية أقساط الفائدة فقط. وفي المرحلة الأخيرة، يصبح التمويل مجرد مقامرة على ارتفاع أسعار الأصول بالقدر الكافي لتغطية الإقراض. وعندما يُـفضي الانقلاب الحتمي لأسعار الأصول في الاتجاه المعاكس إلى الانهيار، تتلاشى الزيادة في الثروة الورقية، فيتراجع الاقتصاد الحقيقي في أعقاب ذلك.
وعلى هذا فسوف ينظر مينسكي إلى التيسير الكمي على أنه مثال لعدم الاستقرار المالي الناجم عن تصرفات الدولة. اليوم، هناك بالفعل علامات واضحة تشير إلى تجاوزات في سوق الرهن العقاري. الواقع أن أسعار المساكن في المملكة المتحدة ارتفعت بنحو 10.2% في العام الذي انتهى بشهر مارس/آذار 2021، وهذا أعلى معدل نمو منذ أغسطس/آب 2007، في حين "تومض بلون أحمر ساطع" مؤشرات المبالغة في تقدير قيم الأصول في سوق الإسكان في الولايات المتحدة. وتوضح دراسة اقتصادية (لم تُـنـشَـر حتى الآن) أجرتها سنديا كريشنان من أكاديمية ديساي للاقتصاد في مومباي عدم وجود أي علاقة بين أسعار الأصول وأسعار السلع في المملكة المتحدة والولايات المتحدة خلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2016.
ليس من المستغرب إذا أن تشير تقديرات لجنة السياسة النقدية التابعة لبنك إنجلترا في توقعاتها لشهر فبراير/شباط 2021 إلى أن الاحتمال قائم بنحو الثلث لانخفاض التضخم في المملكة المتحدة إلى ما دون صفر% أو ارتفاعه فوق مستوى 4% في السنوات القليلة المقبلة. يعكس هذا النطاق الواسع نسبيا حالة من عدم اليقين بشأن مسار الجائحة في المستقبل، لكنه يعكس أيضا عدم اليقين الأساسي بشأن التأثيرات المترتبة على التيسير الكمي ذاته.
في رواية من تأليف مارجريت آتوود تدور أحداثها في المستقبل، والتي نشرت في عام 2003 بعنوان "Oryx and Crake"، يقوم مركز تطوير الأدوية HelthWyzer بإقحام فيروس بشكل عشوائي في حبوب الأدوية، على أمل تحقيق الربح من بيع كل من الحبوب والترياق الذي طورته خصيصا لذلك الفيروس. يشرح كريك، وهو عالِـم مجنون أن "أفضل أنواع الأمراض من منظور الأعمال هي تلك التي تتسبب في إحداث مرض مستمر... حيث لا يتعافى المريض ولا يموت قبل أن تنفد كل أمواله. إنها عملية حسابية دقيقة.
مع التيسير الكمي، اخترعنا الدواء المعجزة الذي يعالج أمراض الاقتصاد الكلي التي يتسبب في إحداثها. لهذا السبب تُـعَـد التساؤلات حول توقيت سحبه "حسابات دقيقة".
لكن الترياق حاضر وواضح. فأولا، يتعين على الحكومات أن تتخلى عن وهم مفاده أن البنوك المركزية تخلق الأموال بشكل مستقل عن الحكومة. ثانيا، يتعين عليها أن تنفق بنفسها الأموال التي يجري إنشاؤها بناء على طلبها. على سبيل المثال، ينبغي للحكومات أن تمتنع عن اكتناز الأموال المجازة التي من المقرر سحبها مع انتعاش النشاط الاقتصادي، فتستخدمها بدلا من ذلك لخلق الوظائف في القطاع العام.
سوف يُـفضي القيام بذلك إلى جلب التعافي دون التسبب في خلق حالة من عدم الاستقرار المالي. إنها الوسيلة الوحيدة لفطم أنفسنا عن إدماننا طوال عشر سنوات على التيسير الكمي.