تهديد الركود التضخمي حقيقي

بروجيكت سنديكيت

2021-09-06 04:58

بقلم: نورييل روبيني

نيويورك ــ ظللت لعدة أشهر أحذر من أن المزيج الحالي من السياسات النقدية والائتمانية والمالية المتساهلة على نحو مستمر من شأنها أن تحفز الطلب الكلي بشكل مفرط وتؤدي إلى احتدام النشاط التضخمي. وما يزيد المشكلة تعقيدا على تعقيد أن صدمات العرض السلبية في الأمد المتوسط ستقلل من النمو المحتمل وتزيد من تكاليف الإنتاج. ومن شأن ديناميكيات الطلب والعرض هذه أن تؤدي مجتمعة إلى ركود تضخمي على غرار ما حدث في سبعينيات القرن العشرين (ارتفاع التضخم وسط حالة من الركود) وربما حتى تُـفضي في نهاية المطاف إلى أزمة ديون حادة.

حتى وقت قريب، كنت أركز بشكل أكبر على مخاطر الأمد المتوسط. ولكن الآن يستطيع المرء أن يبرهن على أن الركود التضخمي "المعتدل" بدأ بالفعل. فالتضخم آخذ في الارتفاع في الولايات المتحدة والعديد من الاقتصادات المتقدمة، في حين يتباطأ النمو بشكل حاد، على الرغم من الحافز النقدي والائتماني والمالي الضخم.

الآن، هناك إجماع على أن تباطؤ النمو في الولايات المتحدة والصين وأوروبا، وغيرها من الاقتصادات الكبرى، كان نتيجة لاختناقات العرض في أسواق العمل والسلع. تتلخص الرواية المتفائلة من جانب المحللين في وال ستريت وصناع السياسات في أن هذا الركود التضخمي المعتدل سيكون مؤقتا، ولن يدوم إلا بقدر دوام اختناقات العرض.

الواقع أن عوامل متعددة تكمن وراء الركود التضخمي المصغر هذا الصيف. بادئ ذي بدء، يعمل المتحور دلتا (من فيروس كورونا 2019) بشكل مؤقت على تعزيز تكاليف الإنتاج، وتقليل نمو الناتج، وتقييد المعروض من العمالة. الواقع أن العمال، الذين لا يزال كثيرون منهم يتلقون إعانات البطالة المدعمة التي من المقرر أن تنتهي في سبتمبر/أيلول، عازفون عن العودة إلى محال العمل، وخاصة الآن مع تفشي المتحور دلتا. وقد يحتاج من لديهم أطفال إلى البقاء في المنزل، بسبب إغلاق المدارس والافتقار إلى رعاية الأطفال الميسورة التكلفة.

على جانب الإنتاج، يعمل المتحور دلتا على تعطيل إعادة فتح العديد من قطاعات الخدمات وعرقلة سلاسل التوريد، والموانئ، والأنظمة اللوجستية العالمية. كما يؤدي نقص مدخلات أساسية مثل أشباه الموصلات إلى إعاقة إنتاج السيارات، والسلع الإلكترونية، وغير ذلك من السلع الاستهلاكية المعمرة، فيعزز التضخم بالتالي.

مع ذلك، يصر المتفائلون على أن كل هذا مؤقت. فبمجرد تلاشي المتحور دلتا وانتهاء العمل ببرامج إعانات البطالة، سيعود العمال إلى سوق العمل، وتتبدد اختناقات الإنتاج، ويتسارع نمو الناتج، ويعود التضخم الأساسي ــ الذي يقترب من 4% الآن في الولايات المتحدة ــ إلى الانخفاض باتجاه الهدف المحدد من قِـبَـل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بنسبة 2% بحلول العام المقبل.

ولكن ماذا لو لم تكن هذه النظرة المتفائلة صحيحة، واستمرت ضغوط الركود التضخمي إلى ما بعد هذا العام؟ من الجدير بالملاحظة أن مقاييس عديدة للتضخم ليست فوق الهدف فحسب بل وأيضا تتسم بالعناد على نحو متزايد. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، من المرجح أن يظل التضخم الأساسي، الذي يستبعد أسعار المواد الغذائية والطاقة المتقلبة، أقرب إلى 4% بحلول نهاية العام. من المرجح أن تظل سياسات الاقتصاد الكلي أيضا متحررة من القيود، بالحكم من خلال خطط التحفيز التي أقرتها إدارة بايدن واحتمال أن تعاني اقتصادات منطقة اليورو الضعيفة من عجز مالي ضخم حتى في عام 2022. ويظل البنك المركزي الأوروبي والعديد من البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة ملتزمة بشكل كامل بمواصلة السياسات غير التقليدية لفترة أطول كثيرا.

برغم أن بنك الاحتياطي الفيدرالي يفكر في تقليص برنامج التيسير الكمي تدريجيا، فمن المرجح أن يظل سهلا هينا ومتأخرا عن المنحنى في مجمل الأمر. مثله كمثل أغلب البنوك المركزية، اسـتُـدرِج الاحتياطي الفيدرالي إلى "فخ الديون" بسبب الارتفاع المفاجئ في الخصوم الخاصة والعامة (كحصة من الناتج المحلي الإجمالي) في السنوات الأخيرة. وحتى إذا ظل التضخم أعلى من المستهدف، فإن الخروج من التيسير الكمي قبل الأوان المناسب قد يؤدي إلى انهيار أسواق السندات والائتمان والأسهم. وهذا من شأنه أن يعرض الاقتصاد لهبوط حاد، مما قد يجبر الاحتياطي الفيدرالي على عكس اتجاهه واستئناف برنامج التيسير الكمي.

هذا هو ما حدث بين الربع الرابع من عام 2018 والربع الأول من عام 2019، في أعقاب محاولة الاحتياطي الفيدرالي الأخيرة رفع أسعار الفائدة والتراجع عن التيسير الكمي. سجلت أسواق الائتمان والأسهم انخفاضا شديدا وتوقف الاحتياطي الفيدرالي، على النحو الواجب، عن تشديد سياسته. ثم عندما عانى الاقتصاد الأميركي من تباطؤ وأزمة معتدلة في سوق إعادة الشراء نتيجة للحرب التجارية بعد بضعة أشهر، عاد الاحتياطي الفيدرالي بشكل كامل إلى خفض أسعار الفائدة ومواصلة التيسير الكمي (عبر الباب الخلفي).

حدث كل هذا قبل عام كامل من اندلاع جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) التي صدمت الاقتصاد ودفعت الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية إلى الانخراط في سياسات نقدية غير تقليدية وغير مسبوقة، في حين صممت الحكومات أكبر عجز مالي منذ الكساد العظيم. وسوف يأتي الاختبار الحقيقي لقدرة الاحتياطي الفيدرالي عندما تعاني الأسواق من صدمة وسط تباطؤ الاقتصاد وارتفاع التضخم. وفي الأرجح، سيتراجع الاحتياطي الفيدرالي عن التزامه ويتصرف على نحو لا إرادي.

كما زعمت من قبل، من المرجح أن تستمر صدمات جانب العرض السلبية في الأمدين المتوسط والبعيد. ومن الممكن هنا أن نميز تسع صدمات على الأقل.

بادئ ذي بدء، هناك الاتجاه نحو التراجع عن العولمة وزيادة تدابير الحماية، وتفتيت وإعادة تشكيل سلاسل التوريد المنتشرة على نطاق واسع إلى الداخل، والشيخوخة الديموغرافية في الاقتصادات المتقدمة والأسواق الناشئة الرئيسية. كما تعمل القيود الأكثر صرامة المفروضة على الهجرة على إعاقة الهجرة من الجنوب العالمي الأكثر فقرا إلى الشمال الأكثر ثراء. وقد بدأت الحرب الباردة الصينية الأميركية للتو، وتهدد بتفتيت الاقتصاد العالمي. ويعمل تغير المناخ بالفعل على تعطيل الزراعة ورفع أسعار الغذاء.

علاوة على ذلك، من المحتم أن تؤدي الأوبئة العالمية العنيدة إلى المزيد من الاعتماد على الذات على المستوى الوطني وفرض الضوابط على تصدير السلع والمواد الخام الأساسية. وتعمل الحرب السيبرانية (الإلكترونية) على نحو متزايد على تعطيل الإنتاج، ومع ذلك تظل السيطرة عليها مهمة باهظة التكلفة. وتدفع ردود الفعل السياسية العنيفة ضد فجوات التفاوت في الدخل والثروة السلطات المالية والتنظيمية إلى تنفيذ سياسات تساعد في تعزيز قوة العمال والنقابات العمالية، مما يمهد الساحة لنمو الأجور على نحو متسارع.

في حين تهدد صدمات جانب العرض السلبية هذه بتقليل النمو المحتمل، فإن استمرار السياسات النقدية والمالية المتساهلة قد يؤدي إلى جعل توقعات التضخم هائمة بلا مَـرسى. ومن شأن دوامة الأجور والأسعار الناجمة عن ذلك أن تُـفضي إلى بيئة خصبة للركود التضخمي في الأمد المتوسط أسوأ من تلك التي شهدناها في سبعينيات القرن العشرين ــ عندما كانت نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي أقل مما هي عليه الآن. لهذا السبب، سوف يظل خطر نشوء أزمة ديون مصحوبة بركود تضخمي يلوح في الأفق في الأمد المتوسط.

* نورييل روبيني، أستاذ في كلية ستيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك والرئيس التنفيذي لشركة روبيني ماكرو أسوشيتس، وكان كبير خبراء الشؤون الدولية في مجلس المستشارين الاقتصاديين بالبيت الأبيض أثناء إدارة كلينتون. وقد عمل في صندوق النقد الدولي، والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنك الدولي.
https://www.project-syndicate.org

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا