ماذا تعلمنا من ثلاثة اقتصاديين حول أنظمة الـعُـملة
بروجيكت سنديكيت
2021-04-25 03:11
بقلم: جيفري فرانكل
كمبريدج ــ شهدت الآونة الأخيرة رحيل العديد من كبار الاقتصاديين الدوليين. توفي ريتشارد كوبر في الثالث والعشرين من ديسمبر/كانون الأول، وروبرت مونديل في الرابع من إبريل/نيسان، وجون ويليامسون في الحادي عشر من إبريل/نيسان.
قَـدَّمَ الثلاثة مساهمات على قدر كبير من الأهمية في مجموعة متنوعة من الموضوعات، وصاغوا مصطلحات لا تُـنسى ولا تزال مستخدمة، وإن لم يكن بالمعنى المقصود في الأصل دائما. على وجه التحديد، لعب الثلاثة دورا في الجدال الدائر حول ترتيبات الـعُـملة الـمُـثلى. وكان كل منهم غير راض عن نظام أسعار الصرف العائمة التي تحددها السوق والإصلاحات المقترحة. فهل ينبغي للبنوك المركزية أن تثبت أسعار الصرف، أو حتى تتخلى عن العملات المستقلة بالكامل، كما فعلت بلدان منطقة اليورو؟ أو هل ينبغي لها أن تفعل شيئا آخر؟
قاد ويليامسون معسكر "الشيء الآخر". فقد دعا إلى ابتكار أنظمة أسعار صرف وسيطة توفر قدرا أكبر من المرونة مقارنة بالأسعار الثابتة لكنها أكثر استقرارا من الأسعار الحرة العائمة. أثبت أحد هذه الأنظمة، أو "الربط الزاحف"، وهو المصطلح الذي صاغه ويليامسون، شعبيته بشكل خاص في أميركا اللاتينية في ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين. بموجب هذا الترتيب، تقرر البلدان التعايش مع التضخم من خلال فرض تخفيضات شهرية صغيرة لقيمة العملات تحافظ على قدرة منتجيها على المنافسة السعرية على المستوى الدولي.
دعا ويليامسون أيضا إلى إنشاء نظام وسيط آخر، "المنطقة المستهدفة"، والذي تُـبقي البلدان بموجبه على أسعار الصرف التي تحددها ضمن نطاقات محددة سلفا. وقد دأب على تحديث مقترحاته لتطبيق نظام المنطقة المستهدفة حتى على الدولار، واليورو، والين، وغير ذلك من العملات الرئيسية.
لكن هذه الترتيبات كانت أكثر شعبية في الأسواق الناشئة. فقد مزجت العديد من البلدان مقترحات ويليامسون وزاوجت بينها (تندرج مقترحاته تحت عناوين "سلة، ونطاق، وزحف")، كما لا تزال تفعل بوتسوانا وسنغافورة اليوم.
اشتهر ويليامسون بصياغة تعبير "إجماع واشنطن" في عام 1989، لوصف عشرة من سياسات التنمية الاقتصادية التي رأى أنها تحظى بدعم صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والإدارات الأميركية.
لكنه فَـقَـدَ السيطرة على اختراعه. استبعد ويليامسون صراحة بندا واحدا من قائمة سياساته: تحرير الضوابط المالية للسماح بحرية حركة رأس المال. ومع ذلك، افترض أغلب أولئك الذين استخدموا لاحقا عبارة "إجماع واشنطن" عادة لمهاجمة "النيوليبرالية" المتصورة أن هذا البند حاضر ضمن قائمته.
على عكس ويليامسون، كان ريتشارد كوبر يفضل أسعار الصرف الثابتة. في عام 1984، تنبأ بأن الأعمال ستجد في النهاية أن تقلبات الأسعار العائمة العالية "لا تطاق"، واقترح "إنشاء عملة مشتركة لجميع الديمقراطيات الصناعية"، بدءا بالولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان.
أَكَّـدَ كوبر أن خطته كانت تعبر عن رؤية بعيدة الأمد. لكن الشهية السياسية للتخلي عن هذه الدرجة من السيادة الوطنية أصبحت الآن أكثر ضآلة مما كانت عليه عندما اقترح وصفته.
في الأوساط الأكاديمية، بدأ كوبر ميدان الاتكالية المتبادلة والتعاون على مستوى الاقتصاد الكلي الدولي. كما وضع أفكاره موضع التنفيذ، عندما شغل منصب وكيل وزارة الخارجية للشؤون الاقتصادية في إدارة الرئيس جيمي كارتر، ولعب دورا نشطا في قمة بون لقادة مجموعة السبع التي انعقدت عام 1978. وهناك، وافقت ألمانيا، واليابان، والولايات المتحدة على العمل كقاطرات، تنتشل بشكل متزامن بقية الاقتصاد العالمي من الركود. في ذلك الوقت، أعطى كوبر العالم مصطلح "نظرية القاطرة"، في إشارة إلى التوسع المالي المنسق عبر البلدان.
كان مونديل أيضا يفضل أسعار الصرف الثابتة. حصل على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد عام 1999 لمساهمتين تتعلقان بإيجابيات وسلبيات أسعار الصرف الثابتة. كانت إحداهما نموذج مونديل-فليمنج، 1962-1963، الذي كان سابقا لوقته بفارق كبير في افتراض التكامل المالي العالي عبر الحدود. كان أحد الاكتشافات الأساسية في هذا الصدد أن السياسة النقدية تمتع بقوة عاتية تمكنها من التأثير على الدخل إذا كان سعر الصرف في بلد ما عائما، لكنها تفقد قوتها إذا كان سعر الصرف ثابتا.
سلطت لجنة نوبل الضوء أيضا على مقال نشره مونديل عام 1961 بعنوان "نظرية مناطق الـعُـملة المثلى"، حيث لاحظ انتفاء أي سبب يجعل الحدود السياسية تتطابق بالضرورة مع الحدود بين العملات المستقلة.
يطلق على مونديل غالبا وصف الأب الفكري لفكرتين كبيرتين مترابطتين: اقتصاديات جانب العرض وعملة أوروبية مشتركة. كانت الحركتان مختلفتين للغاية. لكن كلا منهما كانت مرتبطة باعتقاد غير مشروط نسبيا في حتمية استعادة استقرار أسعار الصرف.
كما أشار بول كروجمان، من الأهمية بمكان التمييز بين عمل مونديل قبل وبعد عام 1971، العام الذي شهد انهيار نظام بريتون وودز لأسعار الصرف المربوطة ومغادرة مونديل لجامعة شيكاغو. كانت أفكاره بعد عام 1971 عامة دون تفاصيل، ومتناقضة مع أفكاره الواردة في كتاباته السابقة. كان التغير الجوهري الذي طرأ على نظرة مونديل للعالم راجعا في الأرجح إلى اعتقاد جديد مفاده أن أسعار السلع والخدمات تتسم بالقدر من المرونة الذي يجعلها تعمل على موازنة الأسواق تلقائيا، بصرف النظر عن سياسة العملة.
من منظور مونديل بعد عام 1971، أساء آخرون استخدام مفهوم مناطق العملة المثلى الذي ابتكره. فقد نال إطاره لتقييم مزايا وعيوب العملة المشتركة رضا العديد من الاقتصاديين الأميركيين، لكنهم زعموا أن الدول الأوروبية لم تستوف معايير مناطق العملة المثالية. وقد وجدوا أن معظم الاقتصادات الأوروبية فرادى تحتاج في عموم الأمر إلى الاستقلال النقدي أكثر من احتياج الولايات الأميركية الخمسين، على سبيل المثال، إليه، لأن دورات الأعمال في البلدان الأوروبية كانت غير مترابطة نسبيا، ولأن عمالها العاطلين عن العمل كانوا غير قادرين في عموم الأمر على التكيف مع الصدمات من خلال الانتقال إلى حيث تكون الوظائف.
كان اختيار مونديل الأول متمثلا في عملة عالمية موحدة. وكان اختياره الثاني اتحاد العملة داخل أوروبا. ولكونه الاقتصادي الذي وضع معايير مناطق العملة المثلى في الأصل، فقد شعر أنه يملك الحق في تحديد ما إذا كانت الاتحادات المقترحة مؤهلة. ولكن يبدو أن الأحداث اللاحقة تؤكد تحذيرات آخرين من أن حتى أوروبا، ناهيك عن العالم بأسره، أكبر حجما من أن تتأهل لاتحاد عُـملة.
حتى عام 2021، كانت أسعار الصرف المعومة بحرية تناسب أغلب البلدان الكبرى بشكل أفضل مما تصور مونديل، وكوبر، وويليامسون. لكن في ذات الوقت، كان أداء بعض الاقتصادات الأصغر حجما طيبا في ظل أسعار الصرف الـمُـثَـبَّتة بشكل صارم.
تقع نصف دول العالم على الأقل عند نقطة ما بين الحالين. لكن في معظم الحالات، لا تلتزم أنظمه أسعار الصرف لديها بقواعد جيدة التحديد مثل مخطط ويليامسون (السلة، والنطاق، والزحف). على سبيل المثال، تلاحق العديد من الأسواق الناشئة الأكبر حجما، بما في ذلك كوريا الجنوبية، والهند، والصين، تعويمات مدارة نظامية.
بينما نشعر بالحزن والأسى على رحيل هؤلاء العمالقة الثلاثة، يتذكر المرء عتاب جون ماينارد كينز الشهير: "الرجال العمليون الذين يظنون أنفسهم مستثنين تماما من أي تأثير فكري، هم عادة عبيد لبعض الاقتصاديين الراحلين". قد يكون الأمر كذلك، ولكن لا يقل عن ذلك صدقا أن تأثير الأفكار القوية قد يتجاوز كل توقعات منشئيها.