لماذا يفشل الاقتصاد: العراق أنموذجاً

حامد عبد الحسين الجبوري

2021-02-08 07:53

تسعى أغلب البلدان لبناء اقتصاد قوي مستدام قادر على استيعاب التحديات ومواجهتها لتجنب الفشل والآثار المترتبة عليه.

يفشل الاقتصاد حينما لا يكون قادراً وبشكل تلقائي على مواجهة التحديات التي تواجهه ولا يستطيع الخروج من أزماته، فيصبح مجتمعه يعاني البطالة والفقر وسوء الخدامات والتبعية وغيرها. وما الذي يجعله غير قادر على مواجهة التحديات بشكل تلقائي والخروج منه أزماته؟

يكون الاقتصاد عرضه للفشل وغارق في أزماته حيثما تتم إدارته بفعل تدخل الدولة بعيداً عن التنظيم الذاتي لنفسه، لان الدولة تتدخل حينما لا يحتاج الاقتصاد للتدخل ولا تتدخل حينما يتطلب التدخل! بمعنى إنها فاقدة لتقدير حاجة الاقتصاد بشكل دقيق، وتجعله يسير بعيداً عن الحيوية والدافعية، فيكون الاقتصاد فاقداً للشخصية والمتانة على المواجهة وهذا ما يجعل الاقتصاد شبيه بالابن الذي ينشأ في ظل رعاية أبيه طول حياته، لا يستطيع مواجهة المشاكل بنفسه إلا بتدخل أبيه!

معيار السعر والجودة

يفشل الاقتصاد حينما تتدخل الدولة به وذلك لسببين أساسيين هما السعر والجودة، إذ حينما تتدخل الدولة وتفرض هيمنتها على الاقتصاد برمته وهي تقرر ما يكون وما لا يكون، سيتم تحديد السعر والجودة بشكل غير دقيق، بعيداً عن الحسابات الاقتصادية الدقيقة، مما يعني هدر الموارد وضعف رفاهية المستهلك.

الدولة مُنتجة ومُستهلكة

إن الدولة لا تتطلع كما يتطلع الفرد لتحقيق مصالحه، حيث لا يهمها بشكل دقيق السعر والجودة، سواء كانت منتجة أو مستهلكة؛ إي إنها تعمل على الإنتاج دون النظر للحسابات الاقتصادية بدقة بمعنى إنها تنتج بتكاليف أعلى، وهذا ما يؤدي لرفع الأسعار، وبجودة أقل إذا ما كانت مُنتجة.

كما إنها تبتعد عن الحسابات الاقتصادية الدقيقة أيضاً حينما تستهلك حيث تشتري بأسعار مُرتفعة وبجودة أقل، أي إنهما بعيدين عن الدقة، وهذا ما يؤدي لتبديد الثروات وتخفيض مدة الرفاهية، مما يجعل الاقتصاد يتراجع للوراء نحو الفشل عند مقارنته بالاقتصاد الذي لا تتدخل الدولة به يسير نحو الأمام والتقدم.

إن عدم تحديد السعر والجودة بشكل دقيق بفعل تدخل الدولة في الاقتصاد يعني عدم تشخيص ندرة موارد والنتيجة استهلاك هذه الموارد (النادرة) بعيداً عن التخصيص الأمثل لها وعدم إشباع الحاجات المتزايدة وهذا ما يعني فشل الاقتصاد، لان الاقتصاد السليم يعمل على استثمار الموارد النادرة لإشباع الحاجات المتزايدة.

الفرد مُنتج ومُستهلك

حيث يسعى الفرد في ظل الاقتصاد الذي لا تتدخل الدولة به، لتحقيق مصالحه بشكل دقيق جداً، سواء كان منتجاً أو مستهلكاً؛ ونظراً لسيادة المنافسة في ظل الاقتصادي الحر سيعمل الفرد المنتج إلى خفض تكاليف إنتاجه لأدنى ما يمكن ورفع جودة إنتاجه لأعلى ما يمكن، للحفاظ على حصته وبقاءه في السوق وتحقيق المزيد من المبيعات والأرباح.

كما إن الفرد المستهلك يسعى للحصول على أجود المنتجات وبأنسب الأسعار، بمعنى إن الفرد المستهلك يأخذ الحسابات الاقتصادية بدقة من أجل الحفاظ على رصيده من الدخول بالتزامن مع التمتع بأفضل المنتجات جودةً لرفع رفاهيته، فهو يبحث ويفتش وباندفاع ذاتي دون تكليف من الدولة أو من غيرها، لتحقيق مصلحته الذاتية.

ونظراً لعدم اندفاعية الدولة في تحقيق مصالحها الأرباح، حينما تكون مُنتجة؛ والرفاهية، حينما تكون مُستهلكة؛ بشكل دقيق وفقاً للحسابات الاقتصادية كاندفاعية الفرد الذاتية حينما يكون مُنتجاً ومُستهلكاً، فإن الفشل للاقتصاد، حينما تهيمن عليه الدولة؛ لن يكون إلا مسألة وقت لا أكثر ولا أقل، وإن لم يحصل الفشل فإن الاقتصاد سيكون أقل كفاءةً في أداءه إن لم يكُن مُتعثراً.

فشل الاقتصاد العراقي

وفيما يخص العراق، فإن فشل الاقتصاد العراقي عن مواجهة التحديات وإصابته بالصدمات الثنائية والثلاثية ما هي إلا نتيجة لهيمنة الدولة عليه ولمدة طويلة قبل وبعد عام 2003. بمعنى إنه اقتصاد فاقد للحيوية والدافعية.

هيمنة الدولة قبل 2003

حيث كانت الدولة منُذُ خمسينيات القرن الماضي وحتى عام 2003 تدير دفة الاقتصاد -إدارةً ونشاطاً- وما للقطاع الخاص-أفراد وشركات- إلا مساحة محدودة تستطيع التحرك في نطاقها وتتسع هذه المساحة خلال الأزمات التي تتعرض لها الدولة وبالخصوص الأزمات التي تصيب الموارد المالية للدولة والإيرادات النفطية على وجه التحديد.

لان الموارد المالية للدولة والإيرادات النفطية على وجه التحديد تمثل اليد الرئيسة التي تهيمن الدولة من خلالها على الاقتصاد، فحينما تتعرض الإيرادات النفطية لسبب وآخر للانخفاض لا تستطيع الدولة تمشية أمورها كما كانت قبل الانخفاض، وستكون عاجزة عن تسيير شؤون المجتمع وهذا ما يجعلها في معرض الانتقاد، لذلك تفسح المجال للقطاع الخاص ليسد النقص الحاصل بسبب انخفاض مواردها والنفطية بالتحديد، ولكن يبقى دوره وقتي ومُراقب.

بمعنى إن القطاع الخاص يحل محل الدولة في الاقتصاد خلال أوقات الأزمات لحين انقضاءها ويكون أداءه مُراقب من قبل الدولة لإيصال رسالة له مفادُها "إن الدولة هي صاحبة الدور الرئيس في الاقتصاد حتى وإن سمحت له خلال الأزمات بممارسة دوره في الاقتصاد ومتى شاءت أن تعود لدورها ستعود" وما ممارسة القطاع الخاص لدوره خلال حقبة التسعينات إلا بسبب الحصار الاقتصادي الذي تعرض له البلد إثر غزوه للكويت فجاء الرد العسكري من أمريكا والحصار الاقتصادي من الأمم المتحدة ولولا هذه الأحداث لما سمحت الدولة لممارسة دوره إلا في مساحة محدودة، ولو لم تحصل أحداث 2003 وانتهاء الأزمة المالية الناجم عن الحصار الاقتصادي لعادت الدولة لدورها الاقتصادي وإرجاع القطاع الخاص لمساحته المحدودة.

موروث الدولة بعد 2003

ومع سقوط النظام والدولة عام 2003 وإعلان التوجه الجديد في الاقتصاد نحو نظام السوق الذي يعد القطاع الخاص المحرك الرئيس فيه، إلا إن القطاع الخاص لا يزال مُكبلاً بموروث الدولة ثقافياً وإدارياً وقانونياً، حيث لا تزال ثقافة المجتمع هي ثقافة الدولة والعمل في ظلها بعيداً عن الاعتماد على الذات وتحمل المسؤولية في اتخاذ القرارات سيما الاقتصادية منها.

كما إن القرارات لازالت تتخذ بعيداً عن اللامركزية، أي إن وزارات الدولة لا تزال هي من تقرر ما ينبغي وما لا ينبغي بعيداً عن حاجة القطاع الخاص في الاقتصادات المحلية، مما يعني إن المركزية الإدارية التي كانت مُرافقة لهيمنة الدولة على الاقتصاد سابقاً لازال دورها حتى مع تغير النظام السياسي والاقتصادي للدولة! وهذا ما أسهم في تصلُب بيئة الأعمال واحتلال العراق على إثرها المرتبة 172 من بين 190 اقتصاداً ضمها مؤشر سهولة أداء الأعمال لعام 2020.

كذلك الحال بالنسبة للقوانين، حيث لا تزال القوانين تُعاني من القِدم أو التضارب وعدم التكامل فيما بينها، بمعنى إنها لم تواكب التحول الذي حصل سياسياً واقتصادياً بعد 2003، فأصبحت عثر حجرة وكبت لأداء القطاع الخاص والاقتصاد برمته، إضافة لضعف سلطة إنقاذ القانون وهذا ما جعل المستثمرون متخوفون من الإقدام على الاستثمار في بيئة لا تستطيع حماية أموال المستثمرين.

الخلاصة والتوصية

خلاصة القول، إن فشل الاقتصاد في العراق كان نتيجة لهيمنة الدولة بشكل مباشر على الاقتصاد قبل عام 2003 بصرف النظر عن الحالات الاستثنائية في أوقات الأزمات، ونتيجة لموروثها بعد عام 2003 ثقافياً وإدارياً وقانونياً.

ولذلك فمغادرة الفشل وإعادة الروح للاقتصاد العراقي يبدأ من إعادة النظر بدور الدولة وتنظيمه بالشكل الذي يجعل القطاع الخاص هو المحرك الرئيس فيه ويكون دور الدولة في أوقات الأزمات وفي المجالات التي لا يستطيع القطاع الخاص أن يأخذ دوره فيها.

ملاحظة: المقصود من نسبة 80% للدولة و20% الموجودة في الشكل البياني هو نسب ملكية الدولة والأهالي الأرض حسب وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية عام 2009.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2021
www.fcdrs.com

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا