سلاسل التوريد والطلب
بروجيكت سنديكيت
2020-12-15 08:03
بقلم: ريتشارد هاس
نيويورك ــ وأنا أكتب هذه السطور يتبادر إلى الذهن قولان مأثوران: "لا تضع كل البيض في سلة واحدة"، و"قوة السلسلة تقاس بقوة أضعف حلقاتها". في مجموعهما يلخص هذان القولان المأثوران المخاوف الحالية بشأن سلاسل التوريد.
ربما يكون أي شيء وكل شيء يُـنـتَـج في العالَم في أيامنا هذه نتيجة لسلسلة توريد: سلسلة من الخطوات حيث يجري إنتاج المواد الخام والمكونات، وتجميعها، ثم تسويقها في مختلف أنحاء دولة منفردة أو العالَـم. قد تتطلب بعض المنتجات آلاف الخطوات التي تشمل مئات الشركات في عشرات الدول أو البلدان.
جرى إنشاء سلاسل التوريد وصيانتها إلى حد كبير دون التفكير كثيرا في مرونتها وقدرتها على الصمود. كان خفض التكاليف غاية أساسية. وكان هذا يعني غالبا الاعتماد على مُـوَرِّد أو منتج واحد منخفض التكلفة والحد من حجم المخزون. وكانت عبارة "في الوقت المناسب تماما" تشكل المفهوم الذي عكس الرغبة في تقليص الفجوة بين وقت إنتاج السلعة أو شرائها ووقت بيعها.
لكن هذا كان قبل جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). في وقت مبكر من الأزمة، كان هناك نقص حاد في معدات الوقاية الشخصية والمكونات الصيدلانية. الآن، عادت سلاسل التوريد إلى العمل، ولكن غالبا مع تأخيرات طويلة مرتبطة بالشحن. والآن أصبح التساؤل حول أفضل السبل لزيادة مرونة سلاسل التوريد وقدرتها على الصمود في الصدارة.
الواقع أن فاشيات الأمراض المعدية في المستقبل ربما تثبت كونها أشد تخريبا وإخلالا بالنظام. بالإضافة إلى هذا، قد يتسبب أي من تأثيرات تغير المناخ المتزايدة التكرار والشدة ــ بما في ذلك حرائق الغابات، والأعاصير، والفيضانات ــ في إغلاق موقع إنتاج أو آخر لأسابيع أو أشهر. على نحو مماثل، لا يمكن استبعاد الحروب بين الدول، والحروب داخل الدول أيضا شائعة نسبيا. ثم هناك احتمال وقوع إضرابات عن العمل، وحوادث نووية، وزلازل، وأعطال ميكانيكية، وأعمال إرهابية.
يتمثل السبب الثاني وراء القلق المتزايد بشأن سلاسل التوريد في مدى اعتماد العالم على الصين، أكبر مُـصَـنِّـع في العالم، للحصول على السلع المهمة. وقد كشفت الجائحة عن حقيقة مفادها أن العديد من البلدان تعتمد عل الصين لتلبية القسم الأعظم من احتياجاتها من معدات الوقاية الشخصية، وقد أدى القرار الذي اتخذته الصين بمنع تصدير هذه السلع إلى حالات عجز واسعة النطاق. هناك أيضا مخاوف من احتمال سعي الصين المتزايدة العدوانية إلى استغلال الاعتماد العالمي عليها لتحقيق أغراض سياسية.
هناك عدد من الطرق لإدارة هذه المخاطر. تتلخص إحداها في تقليل الاعتماد على مورد محلي أو أجنبي واحد للسلع أو المكونات المهمة أو الحرجة. ومن الممكن أن يُـتَـرجَـم هذا إلى التعاقد مع ستة موردين، على سبيل المثال، حتى لا يصيب الشلل البلدان التي تعتمد عليهم إذا حدث شيء ما لأحدهم أو حتى العديد منهم.
المشكلة هي أن ضمان القدر الكافي من الوفرة الزائدة عن الحاجة قد يكون أمرا صعبا. وقد لا تكون البدائل متوفرة بالجودة أو طاقة الإنتاج المطلوبة ــ وقد يكون إنتاجها مكلفا ويستغرق شهورا أو سنوات. ولكن ربما يستحق الأمر القيام بذلك في مجالات بعينها، وخاصة بين الشركاء والحلفاء المقربين.
يتلخص نهج ثان في اشتراط تصنيع بعض أو كل المكونات الحرجة، أو الأدوية، أو التكنولوجيا، محليا. لا يُـعَـد هذا ضمانا ضد التعطل والإرباك، لأن المصنع المحلي من الممكن أيضا أن يتوقف عن العمل لأي عدد من الأسباب، لكنه يخلق الوظائف ويخفف بعض الشيء من عدم اليقين الناجم عن الاعتماد على مصادر خارجية بعيدة وخارجة عن نطاق السيطرة.
لكن إعادة الإنتاج إلى الداخل ستستغرق وقتا طويلا وتضيف إلى تكاليف الإنتاج، وهي التكاليف التي يجب أن تُـمَـرَّر إلى المستهلكين أو يُـعَـوَّض عنها بإعانات الدعم الحكومية. وغالبا ما يكون تكليف الحكومة بدور أكبر في الاقتصاد وصفة لإهدار الموارد والفساد.
تستند التجارة الدولية إلى مفهوم الميزة النسبية، الذي يعتبر أن أي دولة ينبغي لها أن تنتج كل ما تجيده نسبيا وأن تستورد البنود التي يكون إنتاجها لها أكثر تكلفة. بيد أن مرونة سلاسل التوريد تعني بالضرورة اتخاذ بعض القرارات غير الفَـعّـالة اقتصاديا، لأن البلدان ستكون راغبة في تعزيز أمنها الوطني من خلال إنتاج بنود لا تتمتع فيها بميزة نسبية.
لكن الأمر يشتمل على اعتبار آخر. فمن الذي يقرر متى يمكن لأي حكومة أن ترى ضرورة إنتاج بعض أو كل مكونات بند ما في الداخل؟ إن اشتراط الإنتاج المحلي يشبه إلى حد كبير استبدال الواردات، وهو شكل من أشكال تدابير الحماية حيث تُـعـطى الأولوية للمنتجين المحليين على المنافسين الدوليين.
لنتخيل معا أن كل دولة فرضت إنتاج البنود "الاستراتيجية" محليا. إذا حدث هذا فإن التجارة العالمية، التي تُـعَـد محركا قويا للنمو الاقتصادي، ستتقلص بشدة في وقت حيث تشتد الحاجة إلى النمو لانتشال العالم من الركود الناجم عن الجائحة. في أقل تقدير، لابد أن يجري تنفيذ أي تحرك نحو زيادة الإنتاج المحلي لبنود بعينها بطريقة منسقة في إطار منظمة التجارة العالمية، وهو أمر من المرجح أن يكون الحديث عنه أسهل كثيرا من القيام به فعليا.
هناك مسار آخر يستحق الدراسة: التخزين. من الممكن أن تقوم الحكومات ببناء وملء مخزونات من المكونات الحرجة اللازمة لاقتصاداتها ومجتمعاتها لتوفير الحماية اللازمة ضد الاضطرابات الحتمية في سلاسل التوريد. تقوم بعض الحكومات بذلك بالفعل في مجال النفط وتختار المعادن والسلع الأساسية. ويمكن ملء المخزونات بشكل طبيعي، سواء عن طريق الواردات أو الإنتاج المحلي المستحث في السوق، لتجنب مآزق الحماية. من الممكن أيضا وضع ترتيبات لتجميع أو تقاسم المخزونات مع بلدان أخرى لتقليل نقاط الضعف بشكل أكبر.
تنطوي أي زيادة في اللجوء إلى المخزونات على تكاليف أعلى، حيث يجب أن يتم ملؤها، وقد ينتهي بعض ما يُـشـتَـرى إلى عدم استخدامه أو يصبح غير قابل للاستخدام. ومن المستحيل دوما أن نعرف مسبقا ما سيكون مطلوبا. ومع ذلك يُـعَـد التخزين ممارسة منطقية.
كشفت أزمة كوفيد-19 عن حقيقة مفادها أن الارتباطية المتبادلة تجلب لنا جميعا الفوائد بقدر ما تفرض علينا من مخاطر. ومن أجل معالجة بعض هذه المخاطر، يجب أن يُـعـاد النظر في سلاسل التوريد، مع التركيز بشكل أكبر على تنويع الموردين، والإنتاج المحلي، والتخزين. ويتمثل التحدي هنا في إيجاد التوازن الضروري لضمان عدم تحول السياسة الصناعية الموجهة والمحدودة إلى غطاء لسياسات باهظة التكلفة تهدد التجارة والنمو الاقتصادي.