مذكرة اقتصادية حول النمو والتنويع في العراق
د. حيدر حسين آل طعمة
2020-10-10 07:35
يمر الاقتصاد العراقي بأزمة اقتصادية ومالية حادة جراء تزامن الصدمات الخارجية والداخلية مع تحديات بنيوية خطيرة تزيد من هشاشة الدولة كانعدام الاستقرار السياسي والاضطرابات الاجتماعية المتصاعدة. ومما زاد الوضع تعقيدا تعاقب ثلاثية (الاحتجاجات الشعبية، انهيار اسعار النفط، جائحة كورونا)، لتضاف الى تراكم ازمات اثقلت كاهل الاقتصاد العراقي المأزوم اساسا بمنظومة حكومية مترهلة وغارقة في البيروقراطية والمحسوبية والفساد.
في هذا السياق صدر مؤخرا تقرير اقتصادي عن البنك الدولي للإنشاء والتعمير تحت عنوان " النهوض من واقع الهشاشة: مذكرة اقتصادية حول التنويع والنمو في العراق"(**) يرصد فيه البنك الدولي تعثر مسيرة الاصلاح الاقتصادي في العراق والتراكمات الناتجة عن ضعف السياسات الاقتصادية في الاستجابة لمتطلبات التنويع الاقتصادي وتحقيق الاستقرار والنمو المستدام.
يبدأ التقرير بتقديم التحديات الكبرى كانعدام الاستقرار السياسي، وعدم توفر فرص العمل، والفساد، وضعف تقديم الخدمات، كمخاطر اساسية تعيق النمو الاقتصادي طويل الأمد في العراق. ويرى التقرير بأن الوجه الاخر لكل ازمة اقتصادية فرصة للإصلاح والانفكاك عن الفخ الريعي، خصوصا وان استمرار تفشي جائحة كورونا تفرض صعوبات اقتصادية حقيقية على الحكومة في تلبية متطلبات الدولة في الامد القصير والاستجابة لمطالب المتظاهرين في ان واحد. مما يجعل التحول الهيكلي والاصلاح الاقتصادي، بعيدا عن القطاع النفطي، وتحريك نشاط القطاع الخاص كقاطرة للنمو وتوفير فرص العمل، ضرورة ملحة في العراق.
ويسلط تقرير البنك الدولي الضوء على الأسباب التي جعلت البلد عاجزاً حتى اليوم عن تحقيق مستويات عالية من النمو المتنوع جنباً إلى جنب مع تحقيق السلام والاستقرار ومستويات معيشة أفضل لمواطنيه. فالمستويات العالية من الهشاشة والصراع في العراق، والمعززة بالإدمان على النفط، تعيق فرص تقدم البلد نحو الإصلاح والنمو الاقتصادي. كما يقترح التقرير أيضاً مسارات استراتيجية يمكن للعراق من خلالها أن يتحرر من واقع الهشاشة. حيث يمكن للسلام والاستقرار أن يهيئ الظروف المناسبة للمواطنين لتحقيق تطلعاتهم وايجاد وظائف في القطاع الخاص، وتحقيق الازدهار والرفاه المنشود.
مسببات الهشاشة وتحديات الاقتصاد السياسي في العراق
أكدت الدراسات السابقة، بما في ذلك تقارير البنك الدولي حول الاقتصاد العراقي عامي (2006) و(2012)، على مجالات الإصلاح المطلوب، الا ان العراق لم يحرز حتى الآن أي تقدم ملحوظ في معظم تلك المجالات وفقا لتقرير البنك الاخير. فقد ركز كلا التقريريين على المحاور الاتية:
- التحول من هيمنة الدولة إلى اقتصاد السوق.
- التحول من الاعتماد على النفط إلى التنويع.
- التحول من العزلة إلى التكامل العالمي والإقليمي.
- التحول من الصراع إلى إعادة التأهيل.
وركز التقرير الاقتصادي الاول للبنك الدولي حول العراق عام (2006) على تحقيق النمو والتوظيف في القطاع الخاص، وحماية الفقراء والضعفاء من خلال شبكات أمان اجتماعية قوية ورواتب تقاعدية مستدامة، وتحسين الإدارة العامة والمساءلة وخاصة فيما يتعلق بإيرادات النفط. كما أشار التقرير الى اتساع دور الدولة في إعادة الإعمار لمرحلة ما بعد الصراع وضرورة منح فرص أكبر للقطاع الخاص العراقي للمشاركة في عملية البناء والاعمار. اما تقرير البنك الدولي الصادر عام (2012) فقد اوصى باعتماد ثلاث ركائز لتعزيز التنويع الاقتصادي وهي: تطوير القطاع الخاص، ودمج الإنفاق العام غير النفطي في أهداف التنويع، وتعزيز روابط الاقتصاد الكلي مع قطاع النفط في العراق. ولا تزال تلك التوصيات ذات صلة بالواقع الراهن وقابلة للتطبيق.
ومع احراز القليل من التقدم بشأن هذه التوصيات، ساءت حالة البلاد بشكل ملحوظ في معظم الجوانب الاجتماعية والاقتصادية. ويستدعي هذا الرصد القيام بتحليل شامل لتأثير عوامل الهشاشة الأساسية على التنمية والاقتصاد السياسي في العراق وتقييم عملية صناعة القرار والإصلاحات الاقتصادية وتعقيداتها ومحركاتها.
الامكانات والفرص
يحدد تقرير البنك الدولي المسارات الرئيسية التي يمكن أن يسلكها العراق لتحقيق النمو المستدام ورصد طبيعة القيود التي تعيق تحقيق الاهداف العليا للمسارات المذكورة. ويطرح التقرير توصيات فنية لكل مجال من مجالات الإصلاح ويقترح كيفية إنشاء حلقة مثمرة من النمو والاستقرار الاقتصادي تتجاوز نطاق التوصيات.
1- يعد الانتقال من نموذج توزيعي إلى آخر تنموي للإدارة المالية الاتحادية أمرا بالغ الأهمية لنجاح الإصلاحات الاقتصادية. فالفيدرالية المتنازع عليها في العراق تعيق توليد الإيرادات من خلال تحفيز الاستيلاء عليها في المصدر من قبل جهات فاعلة غير حكومية، وكذلك من خلال إبطاء تفويض نقل الموارد المالية، وبالتالي الحد من القدرة المؤسسية للحكومات الإقليمية والمحلية. كما تحول النزاعات الحكومية البينية دون استقرار الإطار القانوني والمؤسسي للنظام الفيدرالي العراقي وتعيق تنفيذ السياسات والبرامج وتقديم الخدمات. وطالما يتم تفسير الفيدرالية على أنها لعبة صفرية النتيجة فالمكسب الذي يناله مستوى معين من الحكومة يمثل خسارة لمستوى أخر، وحيث يُنظر إلى تقاسم الايرادات الريعية على أنه الهدف الوحيد أو الرئيسي للفيدرالية المالية فأن الخلافات والمجادلات الجارية ستظل غير محسومة، وقد يكافح العراق للهروب من فخ البحث عن الكسب الريعي.
2- قد لا يكون العراق قادراً على الاعتماد على عائدات النفط للحفاظ على مستوى المعيشة في المستقبل، رغم كونه يمتلك خامس أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، اذ تشير التقديرات الى أن هذه الاحتياطيات تكفي فقط لـ ( 85–80 ) سنة قادمة، إذا ما افترضنا عدم حدوث انخفاض في الطلب العالمي على النفط. وفي حالة تباطؤ الطلب، كما حدث خلال أزمة جائحة كورونا او نتيجة للتطور التكنولوجي أو لاعتبارات تغير المناخ، قد يضطر العراق الى التحول بشكل أسرع الى اقتصاد أقل اعتمادا على النفط. وفي تلك النقطة، يجب أن يصبح الاقتصاد العراقي غير النفطي قادراً على الحفاظ على مستوى الدخل المتوسط في البلاد.
3- مع انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية ضد تنظيم داعش، أصبح بوسع العراق الاستثمار في البنية التحتية لدعم التنمية المتنوعة. إلا ان معدل الاستثمار في العراق أقل من نظرائه في المنطقة حيث يتم تخصيص حصة كبيرة من الاستثمار للاقتصاد النفطي. كما انخفضت في السنوات الأخيرة حصة الإنفاق الحكومي المخصص لأي نوع من الاستثمار من (41%) عام 2014 إلى حوالي (17%) عام 2018 ولمساعدة اقتصاده غير النفطي على النمو في فترة ما بعد الأزمة فان العراق بحاجة إلى إعادة بناء رأسماله من خلال الاستثمار في البنية التحتية المعززة للإنتاجية والخدمات الحيوية. وتشتمل هذه الفئة على البنية التحتية اللازمة لتطوير ممرات تجارية ومنافذ حدودية أكثر كفاءة وبنية تحتية ترتبط بتوفير المياه والتنمية الريفية، الأمر الذي يمكن أن يعود بالنفع على قطاع الزراعة. ومن دون تلك الاستثمارات سترتفع التكاليف التشغيلية للأعمال وتبقى الخدمات المقدمة واطئة الجودة.
4- تبرز الحاجة أيضاً إلى تركيز متجدد على تحسين رأس المال البشري، وعلى الرغم من أن هذا التغيير سيتضمن تحويل بعض نفقات العراق المتكررة (التشغيلية) نحو تحسين محصلات قطاعي التعليم والصحة الا ان الامر يتعلق كذلك باتخاذ نهج جديد يضع المواطن العراقي في صدارة العقد الاجتماعي ويمكّنه من أن يكون لاعباً اقتصادياً منتجاً. والى جانب ذلك، سيسهم تعزيز نشاط القطاع الخاص مع التركيز المتجدد على الاقتصاد الرقمي في تمكين المواطن من تحقيق قدراتـــه الكامنـــــــــــــــــة.
5- يتطلب الاقتصاد العراقي جرعة من المنافسة لإعادة تنظيم قطاعه العام الضخم والقطاع الخاص ذي الروابط السياسية، وتعزيز الاقتصاد الخاص غير النفطي، والاسهام في رفع مستوى الكفاءة. فالمنافسة والقدرة على التنافس ضروريان لخلق الفرص الاقتصادية. ويمكن أن يساعد السماح للشركات بالتنافس مع بعضها البعض على أساس تكافؤ الفرص في زيادة دخل الأسرة (عن طريق خفض الأسعار وتحفيز التقدم التكنولوجي)، وتوجيه النمو الاقتصادي، وتقليل انعدام المساواة. ولكي تنجح المنافسة يجب أن تكون هناك قدرة على التنافس. وثمة إجراء آخر يمكن أن يرفع من مستوى المنافسة في الاقتصاد العراقي ويتمثل في خصخصة بعض الشركات المملوكة للدولة.
6- يمتلك العراق الكثير من القدرات الكامنة التي يمكنه من خلالها تحسين تنوع منتجاته إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنه قد أثبت قدرته على تصدير العديد من المنتجات في الماضي. حتى وقت قريب، كان العراق يصدّر تشكيلة واسعة من المنتجات وبوسعه استئناف تلك الصادرات في ظل الظروف المناسبة، بما في ذلك عودة الأمن الداخلي. وتعتبر الأغذية والانتاج الحيواني والمنتجات الكيمياوية والآلات ومعدات النقل من بين السلع التي يمتلك العراق إمكانية تصديرها.
7- رغم ما يمنحه الموقع الجغرافي من مزايا اقتصادية للعراق ليكون مركز عبور اقليمي، إلا أن مستوى أدائه في الاعمال اللوجستية وإدارة الحدود ضعيف مقارنة بدول الجوار الأمر الذي يعكس دورا معيقا على المستوى الاقليمي. لذلك فإن تيسير التجارة يمثل أولوية ملحة للعراق. ويجب مراجعة الإطار القانوني والتنظيمي المتقادم للجمارك لجعله متماشياً على نحو وثيق مع أفضل الممارسات الدولية. كم ينبغي إعطاء الأولوية للإصلاحات المؤسسية وتلك المتعلقة بالنزاهة في إدارة الحدود، ويجب أن تأتي تلك الجهود مكملة لمبادرة الدولة الأوسع نطاقاً فيما يتعلق بإعداد إطار عمل شامل لمكافحة الفساد باستخدام نهج يشمل الحكومة بأكملها. كما أن تنفيذ أنظمة التجارة المؤتمتة من شأنه أن يعزز إدارة المخاطر ويقلل من عدد الوثائق الورقية المطلوبة للأعمال التجارية.
8- إن إصلاحات السياسة التجارية وتسهيل التجارة من خلال خفض تكاليف النشاط التجاري، من شأنها تعزيز تنويع الصادرات والتجارة مع الدول المجاورة للعراق، وهذا من شأنه ان يعزّز السلام والاستقرار الإقليميين. لقد دأب العراق على تصدير المنتجات غير النفطية إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولكن بالنظر إلى الصعوبات التي يواجهها العراق في عقد اتفاقيات تجارية رسمية في المنطقة، فان الاجراءات العملية لتعزيز التجارة الفعلية على الأرض هي أكثر ترجيحاً في أن تؤتي ثمارها. وتمثل زيادة التكامل مع المنطقة من خلال تعزيز التجارة في السلع والخدمات استراتيجية مربحة للجميع ويمكن أن تغيّر من الاقتصادات السياسية للعراق وجيرانه.
9- يعد تأهيل قطاع الزراعة في العراق استراتيجية مهمة لإعادة الإعمار بعد حقبة من الصراع، وكما هو الحال في معظم ظروف الأزمات المماثلة، فقد اضطر الكثير من سكان المناطق الريفية في العراق الى النزوح وانقطعت سبل عيشهم من الزراعة من جراء وجود تنظيم داعش الارهابي والعمليات العسكرية حينذاك. مع ذلك، يعتبر قطاع الزراعة مناسباً بشكلٍ كبير لاستيعاب المقاتلين المسرّحين وتحسين الأمن الغذائي وتعزيز سبل العيش. وهنالك أيضاً أدلة متزايدة على ان التدخلات التي تتعلق بالأمن الغذائي قادرة على أن تعزز من القدرة على الصمود في مواجهة ظروف الصراع إذا ما نفذت في الوقت المناسب وبشكل جيد من خلال توفير آليات التكيف والتعافي ودعم التنمية المستدامة على نطاقٍ أوسع. وعلاوة على ذلك، يمكن لتطوير قطاع الأغذية الزراعية في العراق أن يقدم فرصة لتطوير طرق جديدة للعمل.
10- يمكن أن يلعب الاقتصاد الرقمي في العراق دوراً مهماً في تنشيط قطاع الزراعة والخدمات المرتبطة به وفي تلبية احتياجات الشباب. ويمكن أن تتمثل نقطة البداية في ربط التمويل بأنظمة الدفع عبر الهاتف المحمول، التي من شأنها أن تحقق قفزة في الأعمال المصرفية التقليدية وتدعم إدارة المخاطر المالية. ان الإدارة النقدية المحسّنة التي تنشأ عن الخدمات المصرفية عبر الهاتف بما في ذلك الدفع الفوري للفواتير، لا تساعد على تحسين استخدام النقد وبالتالي الربحية فحسب، بل وتنشيء كذلك مساراً من بيانات الائتمان حول المقترضين الصغار والقاطنين في مناطق نائية مما يسهم في بناء طرائق لتصنيف الائتمان لهم، وهذا الأمر مازال غير معمول به في العراق لحد الآن. ومن شأن مثل تلك الآليات أن تساعد ليس المصارف فحسب بل وتساعد كذلك الجهات التي تقدم خدمات تعزيز إدارة المخاطر الأخرى مثل شركات التأمين. كما أن التقييم الجيد من شأنه أن يكافئ المزيد من المزارعين ذوي الجدارة الائتمانية بفرصة أكبر للحصول على التمويل.