صائدو الديون

بروجيكت سنديكيت

2020-07-26 04:10

بقلم: كاتارينا بيستور

نيويورك ــ تُـرى ما هو القاسم المشترك بين جماعة الجريمة المنظمة ندرانجيتا في كالابريا، وشركة هيرتز، واتحاد شركات إدارة الأموال سيشوان في الصين، وبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي؟ الواقع أن هذه الهيئات جميعها متورطة في نظام مالي تسبب في تحويل الوساطة الائتمانية إلى مؤسسات لإصدار الديون ينتج الأصول للمستثمرين الأثرياء، لكنه يترك الأسر والشركات والحكومات تتصارع مع التزامات غير مستدامة.

كان المستثمرون متعطشين دوما للسلامة والعائد. ويقترح المنطق أنك من غير الممكن أن تحظى بالأمرين معا، لكن هذا كان قبل عصر التمويل المنظم والظل المصرفي. فبالاستعانة بالاستراتيجية القانونية الصحيحة، يمكن تحويل التزامات السداد البسيطة إلى أصول سائلة للمستثمرين.

الواقع أن إصدار الديون ليس له علاقة تُـذكَر بالوساطة الائتمانية التقليدية. الأمر كله يدور حول المستثمرين والوسطاء الذي يتقاضون الرسوم، وليس حول المدينين. فهم وأصولهم يوفرون فقط المدخلات اللازمة لدعم خط الإنتاج. وكلما انهار خط الإنتاج، وهو ما يحدث عندما تتدهور جودة المدخلات أو تتسبب عوامل خارجية (مثل الجائحة) في تعطيل عمله، تقف البنوك المركزية على استعداد لاستيعاب المخاطر وإعادة تدوير الخردة المالية.

وتقنيات تركيب خط التجميع هذا بسيطة نسبيا. فما عليك إلا أن تشتري مجموعة من المطالبات بتخفيض من منشئي القروض، ثم تجمعها مع مطالبات أخرى وتحولها جميعا إلى أداة ذات غرض خاص. تخدم الأداة ذات الغرض الخاص كأداة قانونية لفصل أصولها عن تلك الخاصة بآخرين حتى لا يضطر المستثمرون الذين يشترون مصالح في الأداة ذات الغرض الخاص إلى القلق بشأن أي تعرض لمنشئي القروض، أو أمناء الأدوات ذات الغرض الخاص، أو الإداريين.

عندما كانت الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري لا تزال أكثر الأصول سخونة، كان السماسرة ينشئون القروض ويبيعونها بالجملة لبنوك كبيرة، والتي تقوم بإنشاء أدوات ذات غرض خاص خارج الموازنة العمومية التي أصدرت أصول الدخل الثابت للمستثمرين. بمجرد تحركها، تصبح مؤسسات إصدار الديون شديدة النهم. وليس من المستغرب أن تميل جودة المدخلات (القروض والضمانات) إلى التدهور بمرور الوقت. كان هذا هو السبب وراء أزمة الرهن العقاري الثانوي. وقد ركزت الإصلاحات التنظيمية بعد الأزمة على البنوك والدور الذي تضطلع به، لكنها لم تعالج خط تجميع الأصول ذاته. وما حدث هو أن مؤسسات إصدار الديون ــ والمدخلات الخام التي تغذيها وتنتج الأصول التي يريدها المستثمرون ــ تكاثرت.

على سبيل المثال، كان المنتمون إلى جماعة ندرانجيتا يرسلون ذريتهم إلى كليات إدارة الأعمال، حيث تعلموا كيف يكسبون عوائد هائلة من خلال توفير المدخلات لمؤسسات إصدار الديون. وسرعان ما أنشأت جماعة ندرانجيتا شركات أمامية لجمع، وغالبا انتزاع، الفواتير من مقدمي الخدمات الصحية ضد الحكومات الإقليمية وبيعها بعلاوة إلى وسطاء ماليين يديرون مؤسسات إصدار الديون. ومن الملائم أن لوائح مكافحة غسل الأموال ومعرفة العميل لا تنطبق على عمليات الظل المصرفي هذه. وهكذا، لم يتساءل أحد عن مصدر هذه الفواتير وكيف جرى الحصول عليها.

عندما أقامت شركة هيرتز دعوى إفلاس في مايو/أيار 2020، كانت غارقة في الديون التي بلغت 19 مليار دولار أميركي. وكان معظم هذه المبلغ مستحقا لأدوات ذات أغراض خاصة تابعة للشركة لكنها منفصلة قانونيا. وكانت المدخلات لهذه الأدوات ذات الأغراض الخاصة تشكل التزامات القروض بين الشركات.

جمعت أول أداة ذات غرض خاص الأموال من المستثمرين، وأقرضتهم إلى ثاني هذه الأدوات، التي عرضت السيارات التي تملكها كضمانات وعمليات التأجير لإنتاج النقد لسداد القروض. وحظي المستثمرون بحماية أكبر من خلال مكالمات الضمان في حال تدهورت قيمة الضمان. ولفترة من الوقت، عملت التدفقات النقدية الواردة على تعزيز أداء شركة هيرتز المالي، ولكن في مقابل تحويل شركة تأجير سيارات إلى بنك من بنوك الظل والذي اختُـزِل نشاطه الأساسي في إنتاج الضمانات والتدفقات النقدية للسداد. يعكس هيكل رأسمال شركة هيرتز هذا التحول: 90% من الالتزامات و10% فقط من حقوق الملكية. هكذا تبدو هيئة بنية رؤوس أموال البنوك، وليس الشركات العادية.

وحتى الصين، الدولة التي تحرس بعناية استقرار نظامها المالي، لم تسلم من الأذى. شهدت سوق صناعة الائتمان، وهي البديل للنظام المصرفي الذي تسيطر عليه الدولة إلى حد كبير في الصين، "عقدا ذهبيا"، وهو العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبلغت قيمتها 3 تريليون دولار في عام 2020. تقدم شركة سيشوان الائتمانية المحدودة وغيرها من شركات الوساطة المالية حزم القروض لمشاريع العقارات والبنية الأساسية في هيئة أصول للمستثمرين. ومع توسع هذه الممارسة، تدهورت جودة القروض. وقد كشفت أزمة كوفيد-19 عن ضعف هذا النظام، مما اضطر سيشوان وغيرها إلى التأخر عن السداد للمستثمرين مما دفع الحكومة إلى التدخل.

تشكل ندرانجيتا، وهيرتز، وشركة ائتمان سيشوان جزءا من مؤسسات إصدار الديون التي تتبع ذات النص والمصممة لتحقيق غرض واحد: إنتاج الأصول لإثراء المستثمرين وتوليد الرسوم للوسطاء. ويزود المدينون، أو مساكنهم، أو سياراتهم، أو عملياتهم التجارية مؤسسات إصدار الديون بالمادة الخام فقط. وهذا النظام ليس هشا لأسباب عَـرَضية وحسب؛ بل إنه مصمم لإنتاج ديون مفرطة، وهو ما يترجم بشكل مباشر إلى مخاطر جهازية.

هنا يأتي دور بنك الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية. يدعم الاحتياطي الفيدرالي هذا النظام من خلال تسهيل إعادة تدوير هذه الأصول، في أوقات الشدة، بمجرد أن يعتبرها المستثمرون خردة، ومن خلال عرض دعم السيولة على شركات الوساطة المالية غير الخاضعة للضوابط التنظيمية ــ وحتى الشركات العادية غير المالية التي تتعرض لأزمات السيولة. وهي تطمئن المستثمرين إلى أنهم سيجدون دائما مشتريا، حتى في خضم أزمة سيولة. لا عجب إذن أن يتمكن بنك جولدمان ساكس من تحقيق أرباح بقيمة 4.24 مليار دولار من قسم أصول الدخل الثابت في الفترة من إبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران، في وقت حيث كان الاقتصاد الأميركي مغلقا وكانت شركات عديدة في حالة من السقوط الحر.

كانت أزمة 2020 ناجمة عن حدث خارج عن صناعة التمويل، ولكن لا ينبغي لهذا أن يمنعنا من إصلاح النظام الذي خذل الجميع باستثناء الكيانات التي تدير وتغذي مؤسسات إصدار الديون. لا تحتاج الأسر إلى المزيد من الديون؛ بل تحتاج إلى الدخل. ولا تحتاج الشركات إلى التزامات على قدم المساواة مع البنوك؛ بل تحتاج إلى دخل تشغيلي. ولا تحتاج الدول ذات السيادة إلى ديون؛ بل تحتاج إل عملات قابلة للحياة لتعزيز قدرتها على الإنفاق وخدمة مواطنيها. ولن يلبى أي من هذه الاحتياجات ما لم يُـكـبَـح جماح مؤسسات إصدار الديون.

* كاتارينا بيستور، أستاذ القانون المقارن في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا، مؤلفة كتاب "قانون رأس المال: كيف يخلق القانون الثروة وعدم المساواة
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا