تفكيك العولمة ضار بالنمو في كل مكان
بروجيكت سنديكيت
2020-06-06 02:04
بقلم: كينيث روجوف
كمبريدج ــ يبدو أن الاقتصاد العالمي بعد الجائحة سيكون في الأرجح اقتصادا أقل خضوعا للعولمة، حيث يرفض القادة السياسيون والشعوب الانفتاح على نحو غير مشهود منذ حروب الرسوم والتعريفات وعمليات خفض قيمة العملة التنافسية في ثلاثينيات القرن العشرين. ولن تنحصر النتائج الثانوية في تباطؤ النمو وحسب، بل ستشمل أيضا انخفاضا كبيرا في الدخول الوطنية لجميع الدول، ربما باستثناء الاقتصادات الأكبر حجما والأكثر تنوعا.
في كتابه الثاقب البصيرة الصادر في عام 2001 بعنوان "نهاية العولمة"، أوضح المؤرخ الاقتصادي هارولد جيمس من جامعة برينستون كيف انهارت حقبة سابقة من التكامل العالمي الاقتصادي والمالي تحت الضغوط التي فرضتها أحداث غير متوقعة أثناء فترة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي بلغت أوجها بالحرب العالمية الثانية. واليوم، يبدو أن جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19) تعمل على التعجيل بانسحاب آخر من العولمة.
بدأ التراجع الحالي بفوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة عام 2016، والذي أدى إلى اندلاع حروب التعريفات بين الولايات المتحدة والصين. ومن المحتمل أن تخلف الجائحة تأثيرا سلبيا أكبر وأطول أمدا على التجارة، ويرجع هذا جزئيا إلى إدراك متزايد من قِـبَـل الحكومات لاحتياجها إلى اعتبار قدرة الصحة العامة ضرورة حتمية للأمن الوطني.
الواقع أن خطر التراجع المتطرف الـموهِـن عن العولمة، على غرار ما حدث في الثلاثينيات، بات هائلا اليوم، وخاصة إذا استمر اهتراء العلاقة بين الولايات المتحدة والصين. ومن قبيل الحماقة أن نتصور أن التراجع الفوضوي عن العولمة نتيجة للأزمة لن يفرض مشاكل أعظم ــ وأشد خطورة إلى حد كبير.
حتى الولايات المتحدة، التي يتسم اقتصادها بالتنوع الشديد، والتكنولوجيا الرائدة عالميا، وقاعدة الموارد الطبيعية القوية، من الممكن أن تعاني من انخفاض كبير في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نتيجة للتراجع عن العولمة. وفي الاقتصادات الأصغر حجما والبلدان النامية التي لا تستطيع الوصول إلى الكتلة الحرجة في العديد من القطاعات والتي تفتقر غالبا إلى الموارد الطبيعة، يهدد انهيار التجارة بإهدار عقود من النمو. وهذا حتى قبل أن نضع في الحسبان التأثير الطويل الأمد الناجم عن تدابير التباعد الاجتماعي والحجر الصحي.
زعم رجل الاقتصاد الراحل ألبرتو أليسينا، وهو شخصية بارزة في مجال الاقتصاد السياسي، أن الحجم الصغير قد يكون جميلا بالنسبة إلى دولة جيدة الحكم في عصر العولمة. ولكن اليوم، تواجه الدول الصغيرة التي تفتقر إلى تحالف اقتصادي وثيق مع دولة كبيرة أو اتحاد مخاطر اقتصادية ضخمة.
صحيح أن العولمة عملت على تغذية أشكال التفاوت الاقتصادي بين ما يقرب من مليار شخص يعيشون في الاقتصادات المتقدمة. فقد أثرت المنافسة التجارية بشدة على العمال من ذوي الأجور المتدنية في بعض القطاعات، في حين جعلت السلع أقل تكلفة للجميع. وربما يكون بوسعنا أن نقول إن العولمة المالية خلفت تأثيرا أكبر من خلال زيادة أرباح الشركات المتعددة الجنسيات وتقديم أدوات جديدة مرتفعة العائد على الاستثمار الأجنبي لصالح الأثرياء، وخاصة منذ عام 1980.
في كتابه الأكثر مبيعا في عام 2014 بعنوان "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، استشهد توماس بيكيتي باتساع فجوات التفاوت في الدخل والثروة كدليل على فشل الرأسمالية. ولكن من أولئك الذين خذلتهم الرأسمالية بفشلها؟ خارج الاقتصادات المتقدمة ــ حيث يعيش 86% من سكان العالم ــ انتشلت الرأسمالية العالمية مليارات من البشر من براثن الفقر المدقع. وعلى هذا فمن المؤكد أن الإفراط في التراجع عن العولمة يهدد بإلحاق الأذى بعدد من الناس أكبر كثيرا من أولئك الذين قد يستفيدون منه.
من المؤكد أن نموذج العولمة الحالي يحتاج إلى تعديل، لا سيما من خلال تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي بشكل كبير في الاقتصادات المتقدمة، وإلى أقصى حد ممكن في الاقتصادات الناشئة أيضا. لكن بناء القدرة على الصمود لا يعني تمزيق النظام بالكامل والبدء من جديد.
الواقع أن خسائر الولايات المتحدة من تراجع العولمة ستكون أكبر مما يدرك بعض الساسة على اليمين واليسار. فبادئ ذي بدء، يشكل نظام التجارة العالمية جزءا من ميثاق يقضي بأن تكون الولايات المتحدة الطرف المهيمن في عالم حيث أغلب الدول، بما في ذلك الصين، لديها مصلحة في إنجاح عمل النظام الدولي.
بصرف النظر عن تداعياته السياسية، يفرض التراجع عن العولمة أيضا مخاطر اقتصادية على أميركا. على وجه الخصوص، ترتبط العديد من العوامل الحميدة التي تسمح لحكومة الولايات المتحدة والشركات الأميركية باقتراض مبالغ أضخم كثيرا من أي دولة أخرى، في الأرجح، بالدور الذي يلعبه الدولار في قلب النظام. وتُـظـهِـر مجموعة واسعة من النماذج الاقتصادية أن العولمة المالية تتضاءل بأقل قدر من التناسب مع تزايد التعريفات والاحتكاكات التجارية. وهذا لا يعني فقط انخفاضا حادا في أرباح الشركات المتعددة الجنسيات وثروة أسواق الأوراق المالية (وهو ما قد يناسب بعض الأطراف)، بل قد يعني أيضا انخفاضا كبيرا في الطلب الأجنبي على ديون الولايات المتحدة.
لن يكون هذا مثاليا في وقت حيث تحتاج الولايات المتحدة إلى اقتراض مبالغ ضخمة حتى يتسنى لها الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي. وتماما كما كانت العولمة محركا رئيسيا لانخفاض معدلات التضخم وأسعار الفائدة اليوم، فإن تحويل العملية في الاتجاه المعاكس قد يؤدي في نهاية المطاف إلى دفع الأسعار والفائدة في الاتجاه الآخر، وخاصة في ضوء ما يبدو وكأنه صدمة سلبية دائمة على جانب العرض نتيجة لجائحة كوفيد-19.
غني عن القول إن هناك معارك أخرى مقبلة تتطلب التعاون الدولي، وخاصة معركة تغير المناخ. سيكون من الصعب بدرجة أكبر تحفيز الاقتصادات النامية لحملها على كبح جماح انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إذا تسبب انهيار التجارة العالمية في إضعاف الحافز المشترك الأقوى الوحيد المتمثل في ضرورة حفاظ البلدان على السلام والرخاء العالميين.
أخيرا، وليس آخرا، على الرغم من أن جائحة كوفيد-19 ضربت حتى الآن أوروبا والولايات المتحدة بشكل أقوى مما فعلت في أغلب البلدان المنخفضة الدخل، فلا يزال أمامنا خطر كبير يتمثل في حدوث مأساة إنسانية في أفريقيا وغيرها من المناطق الأكثر فقرا. فهل الآن هو الوقت المناسب حقا لتقويض قدرة هذه البلدان على الدفاع عن ذاتها؟
حتى لو غضت الولايات المتحدة الطرف عن التأثيرات المترتبة على تراجع العولمة على بقية العالم، فينبغي لها أن تتذكر أن الطلب الحالي الوفير على الأصول الدولارية يعتمد إلى حد كبير على النظام التجاري المالي الواسع الذي يسعى بعض الساسة الأميركيين إلى تقليصه. إذا جاء التراجع عن العولمة مفرطا فلن يسلم أي بلد من الأذى.