الإنفاق الاستثماري الحكومي في العراق، قراءة في الأولويات
حامد عبد الحسين الجبوري
2020-05-20 06:38
يُعد الإنفاق الاستثماري الحكومي أحد عناصر الإنفاق(الحقن) في الاقتصاد، وتختلف أهميته من بلد لآخر ومن زمن لأخر حسب النظام الاقتصادي وطبيعة البنيان الاقتصادي. وإذا ما كان البلد يتبع النظام الاشتراكي فإن الإنفاق الاستثماري الحكومي سيحتل أهميةً كبير على اعتبار إن الدولة، في ظل هذا النظام، هي المحرك الرئيس في الاقتصاد لأغلب عملياته الاقتصادية بدءً بالملكية والإنتاج وانتهاءً بالتجارة، في حين لم يكُن الأمر كذلك في ظل تبني البلد لاقتصاد السوق كنظام اقتصادي، كون القطاع الخاص هو المحرك الرئيس للاقتصاد.
وكذا الحال بالنسبة لطبيعة البنيان الاقتصادي، فإذا ما كان البلد يملك اقتصاداً متقدماً متجاوزاً بذلك التنمية الاقتصادية التي يحتاجها القطاع الخاص لممارسة نشاطه، فالإنفاق الاستثماري الحكومي سيكون أقل مقارنةً بالبلد الذي يملك اقتصاداً متخلفاً لان هذا الأخير لم يتجاوز التنمية الاقتصادية بالتزامن مع ضعف القطاع الخاص، وبالتالي سيتطلب مزيداً من الإنفاق وسيكون الإنفاق الاستثماري الحكومي أكبر حجماً وأكثر أهميةً.
وتجدّر الإشارة إلى مسألة غاية في الأهمية وهي إن الإنفاق الحكومي بشكل عام والاستثماري بشكل خاص، يكون في الغالب أسير التوجهات السياسية وليس التوجهات الاقتصادية، فإذا ما كانت التوجهات السياسية تريد محاربة دولة ما فإنها ستعمل على رفع الإنفاق العسكري ضاربةً عرض الحائط التوجهات الاقتصادية الرامية لتقوية الاقتصاد من خلال الاستثمار في التنمية البشرية.
الإنفاق الاستثماري الحكومي في العراق
لم يعرف العراق استقراراً في سياسته الانفاقية بحكم الأحداث التي شهدها من انقلابات سياسية وحروب عسكرية وعقوبات دولية وصراعات طائفية وفوضى أمنية نتيجة لغياب الاستقرار السياسي وخطأ عملية التحول السياسي والاقتصادي عام 2003.
إن إعلان التحول السياسي والاقتصادي في العراق بعد عام 2003 أسهم في تغيير بنية الإنفاق العام، فبعد إن كانت أولويات الإنفاق الاستثماري الحكومي في العراق مُنصبةً نحو الأعمار والبناء في عقود الخمسينات والستينات والسبعينات ثم تحولت نحو التصنيع العسكري خلال عقد الثمانينات لمواجهة الحرب التي دامت ثمان سنوات ثم أصبح يوجه نحو الحاجات الضرورية خلال حقبة التسعينات بسبب الحصار الاقتصادي المعروف حتى سقوط النظام عام 2003.
النفط في مقدمة الأولويات
يبدو من خلال موازنة السنوات الثلاثة 2010، 2015، 2019، إن العراق يولي قطاع الطاقة بشقيه النفط والكهرباء، أهمية قصوى في إنفاقه الاستثماري، حيث شكل الإنفاق الاستثماري الحكومي على النفط ما نسبته 13.69% من الإنفاق الاستثماري الحكومي الكلي عام 2010، ثم ارتفع إلى 33.97% وإلى 44.59% في عامي 2015 و2019 على التوالي وبهذه النسب احتل قطاع النفط المرتبة الأولى في سلم الاستثمار الحكومي.
إن امتلاك العراق لاحتياطي هائل من النفط يُقدر بأكثر من 147 مليار برميل وسهولة الحصول على الأموال التي تتطلبها الحكومة من النفط لتسيير أعمالها التقليدية مُتناسيةً إن النفط يتصف بصفات اقتصادية وسياسية ومناخية وأخلاقية تفرض عدم الاقتصار عليه، بالإضافة إلى إن قيام الحكومة بتفعيل الضرائب سيضعها في دائرة المراقبة والمحاسبة الشعبية لترجمة الضرائب إلى خدمات، فسهولة الحصول على الأموال والابتعاد عن المواجهة الشعبية دفعاها لجعل الاستثمار في النفط في المرتبة الأولى.
ومع إيلاء الحكومات العراقية النفط الأولوية القصوى من حيث الاستثمار الحكومي لكن يبدو هذا الاستثمار لم يكُن ذا جدوى اقتصادية بالشكل الأمثل، كون العراق خصص أكثر من 590 مليار دينار لاستيراد الوقود لمحطات توليد الطاقة الكهربائية عام 2015 ولم يتم تغطيتها من الإنتاج المحلي، والحق يُقال تم تخفيض هذا المبلغ إلى 70 مليار دينار كنفقات لاستيراد الطاقة (وقود الغاز+ الكهرباء) كما في موازنة 2019.
الكهرباء، أولوية أخرى
كما وشكّل الإنفاق الاستثماري على الكهرباء ما نسبته 18.01% من الإنفاق الاستثماري الحكومي الكلي عام 2010 ثم انخفض إلى 7.28% عام 2015 مُحتلاً الأولوية الثالثة بعد النفط والدفاع لكنه سرعان ما عاد ليرتفع إلى 14.39% مُحتلاً الأولوية الثانية بعد النفط عام 2019.
إن تعرض العراق لغياب الاستقرار العام لأسباب داخلية وأخرى خارجية، جعله يعاني من نقص كبير في الطاقة الكهربائية مما دفعه لاستيرادها من دول الجوار وبالخصوص إيران وتركيا، بأكثر من 562 مليار دينار عام 2015 ثم انخفض إلى 70 مليار دينار عام 2019 كما ذكرنا أنفاً تحت مسمى نفقات استيراد الطاقة (غاز+ كهرباء).
ومع هذا الاستيراد لم يتم تغطية الطلب على الطاقة الكهربائية مما نجم عنه استمرار عجز العرض عن تغطية الطلب مما دفع لقيام الاحتجاجات الشعبية في كل صيف تقريباً، هذا ما جعل الحكومة تفكر في جعل الاستثمار في الكهرباء ضمن الأولويات التي تسعى لتحقيقها للتخفيف من زخم الاحتجاجات ولكن مع هذا الاهتمام للأسف مازال قطاع الكهرباء يعاني العجز في تلبية الطلب!
الدفاع أولوية ثالثة
شكل الإنفاق الاستثماري الحكومي على الدفاع نسبة متواضعة وهي 1.96% من الإنفاق الاستثماري الحكومي الكلي عام 2010، لكن سرعان ما ارتفعت هذه النسبة لتشكل 13.89% عام 2015 وهذا ارتفاع مبرر لمواجهة عصابات داعش الإرهابية التي احتلت ما يُقارب ثلث أرض العراق، ثم عادت لتنخفض هذه النسبة إلى 6.65% عام 2019 كنتيجة لانحسار عصابات داعش الإرهابية وبالتحديد عام 2017، ومع هذا الانخفاض إلا إنها ظلت نسبة مرتفعة لا تزال تشكل أولوية لدى الحكومات العراقية.
مما يعني إن الحكومات العراقية تضع الدفاع ضمن الأولويات التي تسعى لتحقيقها، كون الإنفاق الاستثماري نحو الدفاع جاء في المرتبة الثالثة بعد كل من النفط والكهرباء من حجم الإنفاق الاستثماري الحكومي الكلي خصوصاً في عام 2015 و2019 على التوالي. وتجب الإشارة إلى إن النسب الخاصة بالدفاع تشمل فقط وزارة الدفاع بعيداً عن التشكيلات الأخرى كالأمن الوطني وجهاز المخابرات الوطني العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب وهيئة الحشد الشعبي وعند إضافتها سترتفع هذه النسب وهذا الارتفاع يدلل على استمرار المنهج القاضي بعسكرة المجتمع!
غياب التنمية البشرية عن أولويات الاستثمار الحكومي
لو كان العراق يسير بعيداً عن هذا المنهج القاضي بعسكرة المجتمع باتجاه التنمية الحقيقية المتمثلة بالتنمية البشرية لاتضح ذلك من خلال إيلاء هذه التنمية أهمية قصوى من الاستثمار الحكومي بالشكل الذي يعوض استنزاف الثروة النفطية بشكل جذري، بواسطة رفع نسب الاستثمار الحكومي نحو التربية والتعليم والصحة والبيئة وجعلها في مقدمة سلم أولويات الاستثمار الحكومي.
حيث وقعت هذه القطاعات في ذيل سلم أولويات الاستثمار الحكومي وهذا ما يُدلل إلا على قصر النظر نحو المستقبل، حيث لم يتجاوز متوسط الإنفاق الاستثماري للسنوات الثلاثة، 2010، 2015، 2019، عن 1% للتربية، وعن 1% للتعليم العالي والبحث العلمي، وعن 2.4% للصحة والبيئة من الإنفاق الاستثماري الحكومي الكلي، وعند مقارنة هذه النسب مع النسب التي تقع في مقدمة سلم أولويات الاستثمار الحكومي وخصوصاً الدفاع فضلاً عن النفط والكهرباء، ستجد غياب الاهتمام بالتنمية الحقيقية (التنمية البشرية) وهذا ما يجعل العراق يراوح مكانه ولم يغادر التخلف لحد الآن.
إن وضع هذه القطاعات في مقدمة سلم أولويات الاستثمار الحكومي يدفع لتطوير الاقتصاد ومغادرة التخلف خصوصاً مع التحول الاقتصادي نحو اقتصاد السوق لان هذا الأخير يتطلب مجتمع متعلم ومُعافى بدنياً ونفسياً ويشعر بالمسؤولية الاجتماعية لتجنب الآثار التي يتعرض لها المجتمع بفعل اقتصاد السوق.