إحتمالات الاوضاع الاقتصادية في العراق تحت قيد الكساد العالمي
رؤية مبكرة
د. مظهر محمد صالح
2020-05-03 03:32
أولا، تمهيد:
يظهر التطلع الى خريطة البلاد الاقتصادية انها مازالت تحت مرتسم عزلة الريع النفطي وانكماشه عن مفاصل النشاط الاقتصادي الكلي واحتمال استمرار هذا الانحدار لأكثر من عام او لسنوات، لتجر البلاد الى مشهدين مختلفين تبعاً للسياسات الاقتصادية (المالية والنقدية والتجارية) المعتمدة والتي ستناولهما لاحقا.
اذ انذر مصرف ستاندر اند جارتر الدولي على سبيل المثال لا الحصر طبقا لدراساته المنشورة مؤخرا متنبئاً ان يشهد الاقتصاد العراقي انكماشا بنحو 7.5% في 2020 نتيجة لاتفاق (أوبك +) وتداعيات حرب الأسعار في أسواق النفط او جائحة كورونا التي تضرب البلاد حالياً. كما سبق للبنك المذكور، ان توقع نمواً موجباً للعراق قدره(+2.1 بالمئة) للعام 2020 في الأقل وهناك توقعات أخرى قدرت ذلك النمو بظروف اكثر تفاؤلية ليبلغ (+ 4,7 بالمئة) في العام الحالي حسب توقعات مؤسسة Fitch العالمية.
وان المصرف العالمي آنفاً قد بنى توقعاته للاقتصاد العراقي على أساس صادرته النفطية وأسعار صرف العملة المحلية مقابل الدولار والواردات غير النفطية.
واعتمد ” تصنيفنا (للاقتصاد العراقي) على وفق كل من توقيع اتفاقية (أوبك+) والاتجاه نحو ركود أعمق في القطاع غير النفطي في ظل الاضطرابات المتعلقة بكورونا او غيرها.
كما رفع المصرف المذكور توقعاته بشأن عجز الموازنة والحساب الجاري لميزان المدفوعات إلى 13 بالمئة و11 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي، بعد أن كان قد توقع سابقاً أن يكون 10 بالمئة و8 بالمئة على التوالي
ورجح ذلك المصرف أن يلاقي العراق صعوبات في مواجهة انخفاض أسعار النفط لفترة طويلة دون دعم خارجي حسب ادعائه.
ثانياً، السياسة الاقتصادية المحتملة
لاشك ان المحاذير المبكرة لما سيؤول اليه الاقتصاد الكلي إزاء اختبارات الضغط المالي الخارجية او عجز الحساب الجاري لميزان المدفوعات نسبة الى الناتج المحلي الإجمالي وتفاوت التوقعات الاخرى الأكثر تشاؤماً بهذا الشأن في العام 2020 والتي أقصاها (أي عجز الحساب الجاري الى الناتج المحلي الإجمالي) بنسبة 16 بالمئة بسب تدهور عوائد النفط وارتباط ذلك بعجز الموازنة العامة ونشوء مظاهر العجز المزدوج او الثنائي twin deficit اي العجز الداخلي في الموازنة العامة والعجز الخارجي في الحساب الجاري لميزان المدفوعات في آن واحد. وبهذا فان ثمة مشهدين في تفسير السياسة الاقتصادية المحتملة للعراق في ظروف الكساد الدولي وهما:
المشهد الأول: التمويل بالتضخم Inflationary finance
ستكون معالجة اوضاع الاستقرار الاقتصادي في هذا المشهد معقدة للغاية في ظل هبوط نشاطات الناتج المحلي الإجمالي السنوي الى مستوى نمو (سالب 5%) كما تتوقع اغلب الدراسات وتعاظم نمو السكان السنوي الى (موجب 2.6%). فاذا ما لجأت السياسة المالية الى اعتماد المذهب التوسعي في الانفاق الحكومي (اي تمويل العجز المالي وعلى وفق سياسات النقد الرخيص) مع تدهور مستمر في الحساب الجاري لميزان المدفوعات، يرافق ذلك اتباع السياسة النقدية إجراءات ملبية مرنة في تعظيم سيولة الاقتصاد وتعزيز مناسيبها.
أي في مجاراتها للسياسة المالية في تمويل العجز في الموازنة وباستمرار عن طريق التسييل liquidation المستمر في أدوات الدين العام الداخلي المعهودة كحوالات الخزينة وغيرها، فان الاحتمالات الاقتصادية المتوقعة ستشير في هذا المشهد الى حصول تضخم جامح hyper inflation بمرتبتين عشريتين سواء معبراً عنه في المستوى العام للأسعار او في مقلوبه، ونعني تدهور القوة الشرائية للوحدة النقدية وولادة سوق صرف موازية قائدة للأسعار تتولى التحكم بالمسارات السعرية للبلاد. أي قيادة السوق للأسعار بليبرالية عالية المرونة. وستهبط حينها احتياطيات البنك المركزي كوسيلة دفاع عن الاستقرار المستمر لسعر الصرف بكونه مثبتاً اسمياً. nominal anchor. وعندها ستؤدي السوق الموازية للصرف parallel market كما ذكرنا القيادة السعرية كبديل لتدخل البنك المركزي وتظهر مجدداً القوى المهيمنة (التجارية) المولدة (للتوقعات التضخمية) والمحركة للاضطرابات السعرية. وهي قوى من القطاع الخاص تمتلك قدرة تعبئة الموجودات الأجنبية النقدية بسرعة عالية او تسيير تدفقات السلع الأجنبية بغية الاستحواذ على فرص الربح وحصد الفائض الاقتصادي، ذلك باستعمالها أدوات الانتقال السعري الخارجية pass through وتحويلها الى مداخل الاقتصاد الوطني عبر حركة تضخمية تصاعدية.
المشهد الثاني او السيناريو الثاني: منهج التقطير المالي financial dripping
وهو منهج التقشف austrization في تسيير الموازنة العامة والانفاق العام وتخليصها من عجز كبير هو خارج النطاقات والممارسات الدولية (التي تعتمد حدود ضيقة للعجز في الموازنة العامة ان لايزيد على 3% من الناتج المحلي الإجمالي). وكذلك توافر تعاون محدود او مقنن للسياسة النقدية بحدود ما يسمح به قانون البنك المركزي النافذ من تدخل في السوق النقدية والأسواق الثانوية في بيع وشراء الأدوات المالية المختلفة. ونرى ان هذا المنهج سيولد ركود تضخمي stagflation لامحالة وبداياته هو ان تقفز البطالة الى حدود مضاعفة (تعظم من خانة المرتبتين العشريتين لمستويات البطالة الراهنة البالغة حاليا 18%). كما ستلتهب أسعار السلع المستوردة او الأجنبية بسبب مصاعب تمويل التجارة الخارجية بالنقد الأجنبي وان ثمة ندرة ظاهرة في السلع والخدمات الأجنبية التي سيظل عرضها الشحيح مرتفع القيمة ومرتبط بالتوقعات التضخمية (التي قد تطلقها السوق الموازية) إزاء طلب ضعيف عموماً.
وعلى الرغم من ذلك سيشهد التضخم نمواً تدريجياً ولكنه سيكون ابطأ في تدهوره عما جرى تشخيصه في المشهد الأول ولسببين، أولهما، ان استمرار شحة السيولة النقدية المحلية بالغالب والخوف من المجهول uncertainty لدى الافراد سيولد حالة من افخاخ السيولة liquidity traps والاحتفاظ بالنقد وستكون حالة واسعة تنسجم والركود الاقتصادي ولكن ترافقها أسعار فائدة متضخمة القيمة تتناسب وافخاخ السيولة وهي الفائدة شبه الحقيقية، وثانيهما، ستأخذ البطالة مدايات خطيرة بكل اشكالها تفوق حالة التضخم التدريجي نفسه وستتولد نشاطات اقتصادية هامشية خدمية كثيرة ذات قيم مضافة تبقى متواضعة ولاتسد فجوة الثراء وغلبته في الاقتصاد الريعي المزدهر، وعلى المدى القصير والمتوسط في الأقل. ومنها على سبيل المثال النشاط الزراعي الذي ستظل مدخلاته تعتمد على لوازم اجنبية وهي باهظة الثمن مالم تتلق دعماً واسعاً من الدولة؟؟؟.
وهذا ما يحتم الحذر الشديد نحو إعادة النظر في هيكل الموازنة وعلى نحو جذري ويجنب البلاد اللجوء الى مخاطر التمويل المفرط بالعجز لدعم الموازنة التشغيلية budget support من خلال الاستدانة او الاقتراض الخارجي او اللجوء إلى الاقتراض الداخلي الأكثر مرونة. إذ مازالت المؤشرات المالية لطاقة تحمل الدين تؤكد ان نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي هي بنحو 56% وان ما ندعو اليه هو ليس دعوة للتقشف ولكن ثمة دعوة لإعادة هندسة المالية العامة العراقية وتجنيب الموازنة العامة مشكلات معادلة ما يسمى بقيود الموازنة الهشة - soft budget constraints التي أصبح الانفاق فيها يتم بيسر عبر اتساع السلف الحكومية والسحب على المكشوف والاقتراض بأمل تحصيل إيرادات حكومية محتملة سريعة.
وهي جميعها من العادات الحكومية غير الحسنة في تاريخ المالية العامة العراقية في السنوات الأربعين الأخيرة، وتساعد لا محالة على تراكم المديونية والتوسع بالعجز في الإيرادات العامة ما يفقد قضية التعزيز المالي fiscal consolidation مظاهرها الأساسية مثل تقليص فجوة العجز في الإيرادات العامة او تقليل مقدار التراكم في الدين العام. بعبارة أخرى يفقد البناء المالي للبلاد مقومات الاستدامة لبلوغ الأهداف الاقتصادية والاجتماعية الكلية المستقرة..
ختاماً، نرى وبالتأكيد انه حتى في ظل سيناريو التقطير او التقشف المالي واتساع مساحة الانكماش الاقتصادي الكلي، فستظل أولويات السياسة الاقتصادية هي الدعم المستمر ولاسيما للقطاع الزراعي المنتج لتامين الغذاء فضلاً عن تامين الاحتياجات الإنسانية والضرورية في الحد الأدنى من خلال التعاون الدولي وروافعه المالية لامحالة.