اضطراب التجارة أحد أعراض كارثة أعمق
بروجيكت سنديكيت
2019-08-24 06:53
بقلم: محمد العريان
نيويورك ــ إنها مجرد مسألة وقت حتى تدفع التوترات المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة المزيد والمزيد من خبراء الاقتصاد إلى التحذير من ركود اقتصادي عالمي وشيك مصحوب بحالة عدم استقرار مالي. في الخامس من أغسطس/آب، قالت بلومبرج نيوز إن منحنى العائد، وهو مقياس للسوق تجري مراقبته عن كثب، "يطلق صيحة تحذير من الركود الأميركي هي الأقوى منذ عام 2007". كما كتب لاري سامرز، وزير الخزانة الأميركي السابق الذي شارك عن كثب أيضا في جهود إدارة الأزمات في الفترة 2008-2009، على موقع تويتر مؤخرا، "قد نكون في أخطر لحظة مالية منذ عام 2009".
يحتج العديد من الاقتصاديين بأن حل التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين هو أفضل وسيلة لتجنب حدوث ارتباك اقتصادي ومالي عالمي كبير. لكن، رغم ضرورة التوصل إلى حل، فإن هذا لن يكون كافيا على الإطلاق.
لا أريد أن يساء فهمي: إن التركيز على تدهور العلاقات بين الصين وأميركا أمر مفهوم تماما. ففي نهاية المطاف، يزيد النزاع المتفاقم بينهما من خطر نشوب حرب تجارية تؤدي، إلى جانب حرب العملة، إلى نتائج من قبيل سياسة "إفقار الجار" (أي خسارة الطرفين) تتابع في مختلف أجزاء الاقتصاد العالمي. ومع تدهور احتمالات النمو، ستحتل قضايا الديون والروافع المالية (زيادة العائد على الاستثمار بالاستدانة) مركز الصدارة في بعض البلدان، مما يضيف عدم الاستقرار المالي إلى خليط اقتصادي مدمر بالفعل. وبينما يمتد الخلاف الأميركي الصيني الآن إلى ما هو أبعد من الاقتصاد ليشمل قضايا الأمن القومي والقضايا السياسية المحلية، فإن أفضل سيناريو للتجارة هو سلسلة من وقف إطلاق النار؛ لكن تظل النتيجة الأكثر احتمالا هي تصاعد التوترات.
ومع ذلك، عند النظر إلى الصورة الأكبر للعقد الماضي، يتبين لنا أن التوترات التجارية هي أحد أعراض الاضطراب الاقتصادي والمالي الأساسي في العالم، وليست سببا له. في الواقع، يؤدي التركيز المفرط على المخاطر التجارية إلى تحويل انتباه صانعي السياسات عن التدابير الأخرى اللازمة لضمان نمو أسرع وأكثر شمولا في بيئة مالية مستقرة بحق.
يتعين على صانعي السياسات أيضا أن يواجهوا الضغوط السياسية المتزايدة على البنوك المركزية، وردود الفعل العكسية فيما يتعلق بأوجه عدم المساواة الثلاثة (الدخل، والثروة، والفرص)، وسياسة الغضب، ونمو الحركات المناهضة للمؤسسات، وفقدان الثقة في الحكومات ورأي الخبراء، والتوترات الاقتصادية والجيوسياسية الإقليمية، وتزايد خطر عدم الاستقرار المالي، والتهديدات التي تواجه منتجات الحماية المالية طويلة الأجل، والشعور العام بانعدام الأمن الاقتصادي.
كما ذكرت في كتابي "اللعبة الوحيدة في المدينة"، فإن كل هذه التطورات الأخيرة - وكذلك التوترات الأميركية الصينية المتزايدة بالطبع - ترتبط بشكل ملموس باثنتين من السمات الأساسية والمستمرة للاقتصاد العالمي منذ اندلاع الأزمة المالية عام 2008.
الأولى هي الفترة الزمنية الطويلة التي لم يكن فيها النمو الاقتصادي منخفضا فحسب، بل غير شامل أيضا. نتيجة لذلك، شعرت قطاعات متزايدة من السكان بالتهميش والتغريب والغضب - مما أدى إلى نتائج غير متوقعة في الانتخابات، ونشوء حركات شعبية وقومية، وحدوث اضطرابات اجتماعية في حالات قليلة.
السمة الثانية لمرحلة ما بعد الأزمة هي الاعتماد المفرط والمستمر على سيولة البنك المركزي لتخدير الألم، وهو علاج له آثار تشويهية، بدلا من الاعتماد على مزيج سياساتي أكثر توازنا يسعى إلى تخفيف العوائق (البنيوية بشكل عام، ولكن الدورية أيضا) التي تحول دون تحقيق نمو أسرع وأكثر شمولا. في الواقع، لم تكن السياسة النقدية فعالة للغاية في تعزيز النمو المستدام، لكنها رفعت أسعار الأصول بشكل ملحوظ. وقد أدى هذا إلى زيادة وتيرة الشكاوى من تفضيل النظام لمن هم أثرياء وذوي امتيازات بالفعل، بدلا من خدمة السكان على نطاق أوسع - ناهيك عن مساعدة الفئات الأكثر حرمانا.
إذا ظلت هاتان السمتان على نفس الوضع، سيواجه الاقتصاد العالمي قريبا "مفترق طرق" غير مريح على الطريق إلى المستقبل. عند مفترق الطرق هذا، سيفسح المسار الحالي غير المستدام على نحو متزايد المجال إما لنتائج أسوأ كثيرا تشمل الركود وعدم الاستقرار المالي وتصاعد التوترات السياسية والاجتماعية، أومن ناحية أكثر تفاؤلا، النهوض بالنمو الشامل والاستقرار المالي الحقيقي بينما يستجيب نظام الحوكمة أخيرا للضغوط الشعبية.
علاوة على ذلك، تتسم الرحلة إلى عنق مفترق الطرق ذاتها بعدم الاستقرار بشكل متزايد. على وجه التحديد، تسبب الاستخدام المطول للسياسات النقدية غير التقليدية في فرض تكاليف ومخاطر تكثفت مع مرور الوقت. وتشمل هذه التكاليف والمخاطر الهجمات على الاستقلال التشغيلي للمصارف المركزية، والإفراط في فصل أسعار الأصول عن مقوماتها الاقتصادية والمؤسسية، والإفراط الممنهج في الوعود بتوفير السيولة للمستخدمين النهائيين (لا سيما في القطاع غير المصرفي). اليوم، يمكن أن يؤدي خطأ في السياسة أو حادث في السوق إلى جعل الرحلة أسرع وأكثر وعورة.
لتجنب النتائج السيئة للاقتصاد العالمي والنظام المالي، تحتاج الصين وأميركا إلى حل خلافاتهما في سياق ميثاق سياسات أكثر شمولا يشمل أيضا اقتصادات رائدة أخرى (وخاصة أوروبا).
يجب أن تبدأ الجهود الرامية إلى تنشيط التجارة الحرة والأكثر عدالة من خلال تناول المظالم الأميركية والأوروبية الحقيقية في مواجهة الصين فيما يتعلق بسرقة الملكية الفكرية، والنقل القسري للتكنولوجيا، والإفراط في الدعم الحكومي، وغير ذلك من ممارسات التجارة والاستثمار غير العادلة. وهذا بدوره يجب أن يكون بمثابة الأساس لجهد شامل متعدد الأطراف لإزالة القيود المفروضة على النمو الفعلي والمحتمل.
وتشمل هذه المبادرة إصلاح البنية التحتية وتحديثها في أوروبا والولايات المتحدة، وتحقيق سياسات مالية أكثر توازنا في أوروبا، وترسيخ البنية الاقتصادية الإقليمية، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي في جميع أنحاء العالم، والتحرير الاقتصادي الموجه وإلغاء القيود التنظيمية في الصين وأوروبا.
بهذه الإجراءات العالمية المتضافرة، يمكن للاقتصاد العالمي أن يجتاز مفترق الطرق القادم بشكل إيجابي. وبدونها، فإن الشكاوى الحالية بشأن عدم الاستقرار الاقتصادي والمالي وانعدام الأمن لن يكون لها أي وزن مقارنة بما هو قادم.