الشعبوية الأمريكية وانعكاساتها
بروجيكت سنديكيت
2019-04-02 04:25
سايمون جونسون
واشنطن، العاصمة- الشعبوية هي سياسة الحكومات التي تعتمد على الكثير من الوعود التي لا يمكن الالتزام بها إن الشعبوية اليوم هي المهيمنة، لكن أكثرها خبثا هي شعبوية الولايات المتحدة الأمريكية- مما يعرض مصداقية البنك المركزي لخطر كبير.
وغالبا ما يُرفض أن تكون الأرجنتين في عهد خوان بيرون (1946-1955) وخَلَفه، مثالا تشريعيا للفوضى الشعبوية. وكل شعبوية جديدة لها مميزاتها الخاصة، لكن ما يميزها بشكل عام: الزيادات في الأجور غير المستدامة، والاقتراض الخارجي المكثف (الناتج عن التهور على المستوى المحلي وقصر النظر على المستوى الخارجي). إن النقاد مضطهدون، والخبراء مستهان بهم، ويتعرض للسخرية كل من يشغله قلق منطقي. ودائما ما تتضرر البنوك المركزية وغيرها من الهيئات المستقلة، مثل المحاكم، عن طريق تغيير الموظفين وغير ذلك من الضغوطات.
ثم يأتي يوم الحساب الذي يتمثل في الدمج بين نسبة من التضخم وتخفيض كبير في قيمة معدل الصرف وكساد كبير (أو أسوء). وتتكرر القصة من جديد مع حلقة أخرى من الوعود التي لا يمكن الوفاء بها. وحين يفقد البنك المركزي مصداقيته، فليس من السهل استرجاعها.
وحين نبحث في خريطة العالم اليوم، نجد أن فينزويلا هو البلد اللاتيني الذي يظهر جليا أنه عاش الشعبوية في نسختها الأخيرة (مع أنها عُزِّزت بواسطة مداخيل النفط لمدة أطول من العادي). إن فينزويلا تعيش انهيارا شعبويا كلاسيكيا، فمَن غيرُها من الدول التي تبدو عليها أعراض واضحة اليوم؟
إن المملكة المتحدة هي من أبرز الحالات التي قد تظهر عليها هذه الأعراض. ومن الممكن كليا أن تتفادى بريطانيا كارثة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بطريقة تتفادى بها عرقلة شاملة للتجارة. وما يثير القلق، بطبيعة الحال، هو أن الطريق نحو مرسى آمن يبقى مبهما- ولقد فات الأوان لمعرفة ذلك، بناء على الموعد الأخير المحدد على المستوى السياسي (بالنسبة للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة).
ويواصل بعض القادة السياسيين البريطانيين، الذين ينتمي معظمهم إلى اليمين، لعب ورقة الشعبوية لدرجة تثير القلق. ويبقى أن نرى ما إذا كانوا ما في حاجة إلى إثارة انهيار قبل أن تصبح وعودهم الفارغة بديهية.
والخبر السار هو أن المؤسسات البريطانية الرئيسية، بما في ذلك بنك إنجلترا، تبقى قوية ومستقلة إلى حد معقول. ونأمل أن يبقى هذا الوضع على حاله، بصرف النظر عما يحدث داخل الحزب المحافظ، ولحكومة رئيسة الوزراء تيريزا مي.
ويلوح مشكل أكبر في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب تجاهله للتأثير المالي للتخفيضات الضريبية مع رغبة واضحة في شن حروب تجارية. وآخر خطواته السياسية هي زيادة الضغوط على الخزينة الفدرالية لتحفيز الاقتصاد.
والضغوطات على الفدرالية مفهومة سياسيا، لأن الارتفاع المؤقت للتخفيضات الضريبية التي أعلن عنها في نهاية عام 2017 أصبح يتراجع، و دعم البرلمان للمزيد من التخفيضات الضريبية ليس كافيا. وقد تمدد العجز بقدر ما تستطيع العين أن تراه. ومع أن نمو الاقتصاد الأمريكي مقنع، فهو يتباطأ نظرا لأن البلد حقق التوظيف الكلي. ولأن ترمب شعبوي حقيقي، وعد بتحقيق معدلات نمو لا يمكن الوصول إليها إلا بواسطة معايير خارقة للعادة وغير مستدامة- مثل التخفيف من السياسة النقدية إلى حد كبير.
إن الفيدرالية ضعيفة سياسيا لأنها عاشت 15 عاما سيئا. فهي، أولا، لم تشرف فقط على الانهيار الذي حدث لسياسة حماية المستهلك، التي مكنت من الإقراض العقاري قبيل عام 2008، بل شجعته. وأخفقت الفيدرالية كليا في إدراك كيف يمكن لبنية المشتقات أن تشكل مخاطرا، والنتيجة هي أن ما كان ينبغي أن يصحح بطريقة معتدلة في أسعار العقار أصبح كارثة واسعة النطاق (وكارثة عالمية). وبعد ذلك، حاولت الفيدرالية إجراء بعض التعديلات عن طريق تسهيل القروض إلى مستوى غير مسبوق. وللأسف، أثبت "التطهير" بهذه الطريقة أنه صعب، ويبقى الضرر الذي ألحق بملايين الناس ملموسا إلى حد كبير.
ودافع قادة الفيدرالية عن أنفسهم قائلين أن الأزمة حدثت ولا يمكن فعل أي شيء آخر. وهم على خطأ تماما. وتفادت الولايات المتحدة الأمريكية أزمات مالية خطيرة منذ الأربعينيات من القرن العشرين إلى أوائل عام 2000، لأن التنظيم الجيد بما فيه الكفاية ظل قائما.
وأمضى القادة البرلمانيون الجمهوريون عقدا من الزمن وهم يوجهون نيرانهم الخطابية صوب الهدف الخاطئ على صعيد أنشطة الفدرالية، مدعين أن السياسات التي اعتمدتها بعد الأزمة كانت "رخوة" وستؤدي إلى التضخم. وأثبت انتقاد الجمهوريين أنه بدون قيمة كليا: إذ بقي التضخم في مستويات منخفضة. لكن الضرر السياسي حدث، والآن يحظى ضغط ترمب من أجل وضع سياسة نقدية رخوة أكثر بدعم أعضاء الكونغريس الذين ناقشوا في وقت سابق عكس هذه السياسة بالضبط.
والآن فقدت الفدرالية قواها، ويحاول ترمب يائسا الزيادة في النمو بأي طريقة إلى حين الانتخابات الرئاسية لعام 2020. ويملأ لجنة حكام الفدرالية بأشخاص سيؤيدون سياساته، وسيعبؤون قاعدته ضد موظفي الفدرالية ورؤساء البنوك الإقليمية إذا قاوموا سياسة التخفيف من الظروف النقدية.
هل يمكن للزيادة من حجم الاقتصاد بهذه الطريقة أن يُيسر الطريق لترمب نحو إعادة انتخابه؟ لقد كان ترمب محظوظا في وقت سابق، ويبدو أن الاقتصاد العالمي جيد إلى حد ما (إلا إذا أحدث البركسيت مفاجآت سيئة). وبينما ستثبت كل وعود ترمب المتعلقة بالاقتصاد الكلي أنها مؤقتة وعابرة، مثل وعود بيرون، دائما ما تدوم الشعبوية أطول مما يراه معظم الناس ممكنا.
وعندما يأتي موعد الحساب، من المحتمل أن يكون مختلفا عما حدث في الأرجنتين وفينزويلا. إذا تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية اقتصادا أكثر تنوعا، وسجلا تتبعيا أفضل في القرن الماضي. وعلى نطاق واسع عبر العالم، يُستعمل الدولار مالا احتياطيا في البنوك المركزية، وقيمة احتياطية للقطاع الخاص، وفي فوترة معظم العمليات التجارية الدولية. وأكثر الانعكاسات احتمالا هو تباطؤ النمو، وتزايد اللامساواة، وتآكل الخدمات العامة. وستتلقى قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على التفوق على الدول الأخرى في الابتكار، بما في ذلك الصين، ضربة أخرى.
سينسحب ترمب من الساحة قريبا. فهل يمكن أن يكون إرثه أكثر شعبوية بفضل تدمير شرعية الفيدرالية السياسية؟ تبدو هذه النتيجة ممكنة كليا.