أين ذهبت كل الملاذات الآمنة؟
بروجيكت سنديكيت
2019-01-09 06:29
بنيامين ج. كوهين
سانتا باربرا - مع هبوط أسعار الأسهم، وتزايد حدة تقلبات أسعار الصرف، واشتداد جسامة برقعة وعرة على الطريق. خلال مثل هذه الأوقات، يتخذ المستثمرون الدوليون موقفا متزايد الحذر في عموم الأمر، ويقدمون السلامة على العائدات في الأولوية، ولهذا يفر المال إلى "ملاذات آمنة" قادرة على توفير أصول استثمارية آمنة وسائلة على نطاق واسع بالقدر الكافي. ولكن لا توجد ملاذات آمنة واضحة اليوم. ولأول مرة في الذاكرة الحية، يفتقر المستثمرون إلى ميناء هادئة حيث يمكنهم العثور على مأوى من العاصفة.
تاريخيا، كان الملاذ الآمن بامتياز هو الولايات المتحدة، في هيئة سندات الخزانة المدعومة بـ"الإيمان الكامل والائتمان" من قِبَل حكومة الولايات المتحدة. على حد تعبير أحد خبراء الاستثمار الاستراتيجيين في عام 2012، "عندما يستبد القلق بالناس فإن كل الطرق تؤدي إلى سندات الخزانة".
يقدم لنا انفجار فقاعة العقارات في الولايات المتحدة في عام 2007 مثالا واضحا. لم يرق إلى بال أحد قط أي شك في أن الولايات المتحدة كانت مركز الأزمة المالية العالمية. ولكن بدلا من الفرار من الولايات المتحدة، تدفقت رؤوس الأموال إليها في واقع الأمر. وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2008، بلغ صافي مشتريات الأصول الأميركية نصف تريليون دولار ــ أكثر من صافي المشتريات في الأشهر التسعة السابقة مجتمعة بثلاث مرات.
من المؤكد أن بعض هذه المطالبات بالدولار كانت راجعة إلى حقيقة مفادها أن البنوك الأجنبية والمستثمرين المؤسسيين كانوا في احتياج إلى العملة الخضراء لتغطية احتياجاتهم التمويلية بعد أن توقفت سوق الإنتربنك (ما بين البنوك) وغيرها من الأسواق القصيرة الأجل عن الإقراض. لكن هذا لم يكن السبب الوحيد وراء اندفاع مديري المحافظ الاستثمارية إلى الولايات المتحدة. إذ كان قسم كبير من الزيادة في الطلب راجعا إلى الخوف المحض. ففي وقت حيث لم يكن أحد يعرف إلى أي مدى قد تسوء الأمور، كانت الولايات المتحدة تُعَد على نطاق واسع الرهان الأكثر أمانا.
بيد أن هذا كان قبل وصول الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي تمكن من تقويض الثقة في الدولار إلى درجة غير مسبوقة. فبالإضافة إلى التخلي عن أي ملمح من ملامح المسؤولية المالية، أنفق ترمب أول عامين له في المنصب في مهاجمة المؤسسات الدولية وافتعال المشاجرات مع حلفاء الولايات المتحدة.
لا شك أن الثقة في الدولار، حتى قبل ترمب، تعرضت لضربة قوية في عام 2011، عندما خفض ستاندرد آند بورز سندات الخزانة بمقدار درجة واحدة في الرد على اقتراب الحكومة الأميركية من التعطل الكامل. وقد اندلعت هذه الأزمة بسبب المواجهة بين الرئيس باراك أوباما آنذاك والجمهوريين في الكونجرس بشأن اقتراح روتيني يقضي برفع سقف الديون الفيدرالية.
ولكن اليوم، أصبح لدى المستثمرين المزيد من أسباب القلق بشأن التصنيف الائتماني لحكومة الولايات المتحدة. ففي عام 2018 وحده، تعطلت الحكومة الأميركية ثلاث مرات، وظلت معطلة جزئيا إلى يومنا هذا، وذلك بسبب مطالبة ترمب بأموال لبناء جدار "كبير جميل" على الحدود مع المكسيك.
ولكن إلى أين قد يذهب المستثمرون إن لم يكن إلى الولايات المتحدة؟ ربما تبدو منطقة اليورو كبديل منطقي. فاليورو يُعَد العملة الأكثر استخداما على مستوى العالَم بعد الدولار الأميركي. وفي مجموعها، تقترب في الحجم أسواق رأس المال في دول منطقة اليورو التسع عشرة من سوق الولايات المتحدة. لكن أوروبا لا تخلو من مشاكل خاصة بها. فقد تباطأ النمو الاقتصادي، وخاصة في ألمانيا، هذا فضلا عن خطر الأزمة المصرفية الذي يلوح في أفق إيطاليا ــ الدولة صاحبة رابع أكبر اقتصاد في منطقة اليورو.
الأسوأ من كل هذا هو حالة عدم اليقين بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي قد يثبت كونه مدمرا للغاية إذا اندفعت المملكة المتحدة إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي دون التوصل إلى اتفاق طلاق واضح. غني عن القول إن بريطانيا أيضا يمكن استبعادها من قائمة الملاذات الآمنة، على الأقل إلى أن تُحَل نكبة الخروج البريطاني.
ولكن ماذا عن الفرنك السويسري؟ على الرغم من وضوح عناصر الجذب التي يتمتع بها الفرنك، فإن الأسواق المالية في سويسرا ببساطة أصغر من أن تخدم كبديل مناسب للولايات المتحدة.
هذا يترك لنا اليابان. فبفضل وفرة من السندات الحكومية لديها، تُعَد اليابان السوق المنفردة الأكبر على الإطلاق للدين العام خارج الولايات المتحدة. لكن السؤال المطروح على مديري المحافظ الاستثمارية هو ما إذا كان من الآمن حقا الاستثمار في بلد حيث يتجاوز الدين الحكومي 230% من الناتج المحلي الإجمالي.
على سبيل المقارنة، تبلغ نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة نحو 88%؛ وحتى في إيطاليا المرتبكة، لا تتجاوز النسبة 130%. من المسلم به أن سوق الديون الحكومية اليابانية أكثر استقرارا من أغلب نظيراتها، وذلك نظرا لحقيقة مفادها أن قسما كبيرا من ديونها يحتفظ به مدخرون محليون (وهذا يعني أنها ديون محفوظة بأمان تحت الفِراش). لكن اليابان دولة تعاني من الشيخوخة السكانية، فضلا عن اقتصاد ظل شبه راكد طوال ربع قرن من الزمن. ولن يكون المستثمرون مخطئين إذا تساءلوا أين قد تجد اليابان الموارد لمواصلة خدمة أعباء الديون الهائلة المتراكمة عليها.
ثم هناك الصين التي تُعَد الدولة صاحبة ثالث أكبر سوق وطنية للدين العام في العالَم. من المؤكد أن المعروض من الأصول في الصين وفير. لكن السوق الصينية خاضعة لسيطرة شديدة الإحكام حتى أنها تمثل في الأساس عكس الملاذ الآمن تماما. وسوف يمر وقت طويل قبل أن يفكر المستثمرون العالميون في وضع قدر كبير من الثقة في الأوراق المالية الصينية.
مع نُدرة الملاذات الآمنة، سيصبح المستثمرون أكثر توترا وعصبية. وسوف يميلون إلى نقل أموالهم عند أدنى علامة خطر، وهذا من شأنه أن يضيف كثيرا إلى حِدة تقلبات الأسواق. ويبدو أن البقعة الوعرة التي انتهينا إليها اليوم لن تنتهي قريبا.