الموازنة العامة: نفط الموظفين
فراس زوين
2018-10-03 04:45
يعد العراق في مقدمة البلدان التي اكتشف فيها النفط منذ اوائل القرن العشرين، وبعيداً عن الاحصائيات والبيانات والارقام الدقيقة فان حجم الاموال التي تدخل خزينة الدولة نتيجة بيع النفط توصف بانها هائلة وعظيمة.
ان الطبيعة الاقتصادية والتوجه العام للدولة العراقية في مسارها الاشتراكي والذي بانت ملامحه منذ عام 1958 واستمر لغاية عام 2003، بل ولغاية الآن جعل الدولة هي المسؤولة عن الثروة المالية المتأتية من تصدير النفط وكذلك فإنها مسؤولة عن التوزيع العادل لهذه الثروة وتقسيمها بالتساوي بين فئات المجتمع ودعم قطاعات الدولة المختلفة في محاربة البطالة وتحقيق الاهداف التنموية المنشودة تحت مسمى الموازنة العامة.
حيث تعرف الموازنة العامة بانها بيان تقديري وتفصيل يحتوي على الايرادات العامة التي يتوقع تحصلها، والنفقات العامة التي يجب انفاقها خلال سنة قادمة من اجل تحقيق الاهداف التنموية الاقتصادية والاجتماعية.
واحب ان اضع اكثر من خط تحت عبارة تحقيق الاهداف التنموية، فان الهدف الحقيقي للموازنات العمومية هو رسم الخطوط ووضع الاستراتيجيات والاليات الموضوعية لبناء اقتصاد قوي ومتين وقادر على الصمود في مواجهة الازمات الحادة، سواء كانت أزمات اقتصادية داخلية او خارجية وفق الاسس والمتباينات الحديثة وتعمل على تقليل نسبة البطالة والتوزيع العادل للثروة الوطنية بين فئات الشعب المختلفة بالإضافة الى النهوض بالواقع الخدمي والمعاشي والصحي والتعليمي لأبناء البلد، ولا يخرج اي منطلق فكري او اقتصادي عن هذه الاهداف سواء كان رأسمالي او اشتراكي.
ولمعرفه مدى تطبيق هذه الاهداف وموضوعية الخطوط والاستراتيجيات الاقتصادية المرسومة من قبل الحكومة العراقية كهدف رئيسي للموازنة العامة فقد نعمد الى تقسيم المجتمع الى قسمين رئيسيين:
الاول هو شريحة الموظفين الحكوميين والعاملين ضمن القطاع العام والذين يعتمدون في حياتهم والتزاماتهم المالية على الراتب الذي تعطيه لهم الدولة لقاء خدماتهم في القطاع العام.
القسم الثاني ويمثل شريحة العمال والكسبة والحرفيين واصحاب الاعمال الحرة، وشركات القطاع الخاص ممن يعملون ويدورون في فلك الاسواق المحلية بعيداً عن التوظيف الحكومي ويتأثرون بشكل مباشر بتقلبات السوق الدورية من ركود وكساد وانتعاش ورواج وغيرها من دورات العمل الاقتصادي.
ان هاتين الطبقتين بصورتهما الكلية تمثلان فئات المجتمع المختلفة والتي يجب ان تستهدفهما الموازنات العمومية في تحقيق الاهداف التنموية التي قد تتطلب التركيز على طبقة محددة اكثر من غيرها لكنها بالتأكيد لا تتضمن التغاضي عن باقي الطبقات، وهذا عكس ماحصل في العراق في السنوات الماضية، حيث اولت الحكومات المتعاقبة أهمية للموظف الحكومي من خلال الاهتمام والمحافظة على تطوير وادامة واستمرار راتبه الشهري والحرص على توفير هذا الراتب والذي يمثل الجانب التشغيلي من الموازنات الجارية دون الالتفاف الى شريحة العامل والكاسب وأصحاب الورش والبسطاء من الناس والذين لم تولي الموازنات السابقة اهتمام كافي لاستدامة الأسواق المحلية والخروج به من حالة الركود والذي ضرب اطنابه منذ اكثر من عشرة أعوام وبصورة قد تقود البلاد الى نهايات مجهولة اذا استمر الحال على ماهو عليه الآن.
عند الرجوع الى موازنات السنوات الماضية وتحليل ابواب انفاقها نجد ان ما يقارب 70٪ من مصروفات الموازنات السابقة كانت موازنات تشغيليه تحسب لصالح شريحة الموظفين ومنتسبين القطاع العام حيث مثلت هذه النسبة إما اجورهم ورواتبهم ومخصصاتهم او مثلت الانفاق اللازم لإدامة وادارة العملية الادارية والايفاء بالتزاماتها والتي يعمل الموظفون في اطارها وتحت اروقتها، واما الـ ٣٠٪ المتبقية من هذه الموازنات كانت موازنات استثمارية تذهب معظمها لإدامة وتطوير قطاعات النفط و الكهرباء وكل النسب السابقة سواء كانت نسب الموازنات الجارية او الاستثمارية ليس لهما تأثير مباشر على انتاج الأسواق المحلية وحركة العمل بل العكس فإن الانفاق الكبير على الرواتب وتعميق فكرة التوظيف الحكومي سيكون عاملاً رئيسياً لخلق مجتمع استهلاكي يأكل اكثر مما يعمل، وأما نسبة القطاع الزراعي والصناعي من الموازنات العمومية فلم يتجاوز ٤٪ في احسن الأحوال.
يقدر بعض الباحثين الاقتصاديين وحسب مجموعة من الاحصائيات الخاصة بموازنات الأعوام السابقة مجموع الموازنات العمومية منذ عام 2003 ولغاية الان ١٠٠٠ مليار دولار امريكي مثلت تراكم العائدات النفطية في تلك الفترة مضافا اليها مصادر التمويل غير النفطية والتي ذهبت بجملتها لإدارة وادامة وتمشية رواتب الموظفين في القطاع العام دون ان يكون للعمال والحرفيين والكسبة والفلاحين وأصحاب الورش والمعامل الصغيرة والموظفين في القطاع الخاص اي حظ من هذه الموازنات وان المتابع لحال الاسواق المحلية منذ عام 2003 يلاحظ الخلل الصارخ في الميزان التجاري الوطني لصالح الواردات من الخارج.
وهذه نتيجة حتمية للاهتمام المفرط بالجانب الوظيفي واهمال باقي القطاعات الانتاجية حيث اصبحت الاسواق العراقية مرتعاً لكل البضائع العالمية الرصينة منها والرديئة، ناحرةً بذلك كل ما هو وطني ومحلي من صناعة وزراعة ومن دون ان تلتفت الدولة الى حجم الدمار الذي يصيب اقتصادها وحجم الفراغ الذي تركت فيها مواطنيها من اصحاب المعامل والورش الصغيرة والمتوسطة، واكتفت بتوزيع الثروة النفطية على الموظفين العموميين والمنتسبين القطاع العام على شكل رواتب واجور في نهاية كل شهر وكأن المجتمع العراقي هو مجتمع وظيفي فقط ولايوجد افراد عاملين خارج القطاع العام.
ولم تسعف باقي طبقات المجتمع بمخططات تنموية حقيقية تخلق وتنشط من خلالها الواقع الزراعي والصناعي الحقيقي القادر على لملمة طاقة العمل المتناثرة والمسحوقة تحت وطأة الاهمال الحكومي، وهذا بالذات هو الهدف الرئيسي والمنشود من الموازنات العامة ففي الوقت الذي ينتظر الموظف الحكومي اقرار الموازنة لبدء سير عجلة الترقيات والعلاوات وتثبيت العقود، ومن اجل اطلاق أموال السلف والمكافئات والإيفادات الداخلية والخارجية نجد ان العاطلين عن العمل من العمال والمزارعين والكسبة واصحاب الحرف حيارى وهم يركزون رؤوسهم في اكفهم يجلسون على مصاطب الصبر، ولم تعني هذه الموازنة أي شيء لواقع السوق والعمل المتردي كنتيجة حتمية لتداعيات النهج الريعي الذي اعتمدته الدولة خلال مسيرتها الاقتصادية وهم لا يعرفون ايهما اشد قسوة الاهمال الحكومي لواقعهم المتراجع بتراجع فرص العمل مما اضطر الكثير منهم على طرق ابواب الوظيفة الحكومية التي تعاني اصلاً من الترهل بسبب توغل الدولة في النهج الريعي وفتح ابواب الاستيراد على مصراعيها وبما تسبب في انهيار الصناعة و الزراعة وباقي القطاعات الانتاجية المحلية.
ان الثروة النفطية هي خزين قومي لكل الاجيال ولكل فئات المجتمع وليست حكراً على فئة دون أخرى، ولا نعني هنا ان على الدولة اهمال الموظف او الانتقاص من حقه ومكانته في المجتمع بل بيان حق العامل البسيط والمزارع والكاسب الذي لم يكن لهم حظ من الشهادة ولم يكن له طمع في التعيين الحكومي من هذه الثروات من خلال مطالبة الدولة بخلق واقع اقتصادي وزراعي وصناعي وتحويل وحتى سياحي قادر على استيعاب النسب المتصاعدة من القوى العاملة التي تدخل السوق بشكل سنوي، ويجب على الحكومة العراقية الالتفات الى هذه المطالب والاعتراف بمشروعيتها كونها تمثل مطالب شريحة واسعة من الشعب العراقي.
وان على اي باحث او خبير اقتصادي، بل أي عراقي يملك شيء من الثقافة ويعي تداعيات الامور ويدرك التطورات الخطيرة التي شهدتها المدن العراقية في الاسابيع الاخيرة ابتداء من محافظة البصرة مروراً بكل المحافظات العراقية ان يعمل على تشخيص مواطن الخلل وتنبيه الحكومة الى الخطر القادم، فان قطار التعيينات الوظيفية قد خرج عن مساره الطبيعي بعد ان اُثقل بقرابة خمسة ملايين مابين موظف ومتقاعد، وان صبر الناس وصل الى حدوده الحمراء ولم تعد السياسات والحلول الترقيعية قادرة على فتل حبال الصبر، ولم تعد عشرة الاف وظيفة قادرة على تهدئة المشهد المتفجر ولن تزيد الموازنة العامة الا رهقاً.
وقد آن الاوان لوضع حلول حقيقية وجذرية لمشكلة البطالة وسوء إدارة العمالة العراقية، والالتفات للمطالب الجماهيرية وتلبية جزء كبير من مطالبهم المشروعة من خلال اعادة هيكلة ابواب الصرف في الموازنة وخلق حالة من التوازن بين فئات المجتمع ممن هم خارج اطار الوظيفة العامة ويملكون من الثروة الوطنية بقدر ما يملك غيرهم ممن هم في السلك الوظيفي العام وخلق فرص عمل حقيقية تقوم بإعادة بناء واقع العمل في العراق بما يمكنه من تشغيل مئات الالاف من الشباب العاطلين في مجتمع يحتاج كل شبر فيه الى بناء او اعادة البناء.