الثقل الاقتصادي لدولة هذا الزمن

د. احمد ابريهي علي

2018-07-31 08:06

يمكن الاطلاع على الحجم الاقتصادي للحكومة العامة، حكومة المركز وحكومات الولايات وما دونها، في تقرير الراصد المالي Fiscal Monitor لصندوق النقد الدولي. ويتبين من إصدارية نيسان، ابريل، عام 2018 ان ايرادات الحكومة العامة في البلدان المتقدمة بالمتوسط 36.3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2017.

ويفهم من هذا المؤشر ان السلطة الاقتصادية لدولة هذا الزمن طاغية، إذ تفوق ايراداتها مجموع الأقيام المضافة في الزراعة والصناعة التحويلية بل وجميع القطاعات السلعية في الاقتصاد المتقدم. أي ان ايراداتها أكبر من تعويضات المشتغلين والفوائض، من ارباح وسواها، في تلك القطاعات، ولذا يمكن تصور ماذا تفعل تلك الايرادات عندما تقتطع وعندما تنفق.

ولأن مجموعة البلدان المتقدمة بمعايير الاحصاء الاقتصادي متفاوتة، في الإنتاجية ومستويات الرفاه والسياسات، من المناسب الإشارة الى دول منطقة اليورو حيث بلغت ايرادات الحكومات العامة 46.2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2017. وفي المانيا والسويد 45.2 بالمائة و49.3 بالمائة على التوالي، وفي فرنسا والدانمارك وبلجيكا وفنلندا والنرويج زادت الإيرادات الحكومية على 50 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. وبصفة مستمرة يزيد إنفاق الحكومات على ايراداتها بمقدار العجز والذي يتراكم لتعبر عنه ارقام الدين العام الذي كان أحد مصادر الاضطراب في اوروبا على اثر ازمة المديونية في اليونان ودول اخرى.

هذه ليست دولة القرن التاسع عشر وحتى نهايته عام 1900 يدور إنفاق الحكومة البريطانية حول 10 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. علما ان بريطانيا كانت حكوماتها مُنفقة لأتساع نطاقها الدولي وانشغالاتها الإمبراطورية (انظر Clark & Dilnot في دراسة Briefing Note No.25 الصادرة من معهد IFS). وأصدر معهد FRASAR دراسة حول المالية العامة في كندا بين 1867 و2017، ومنها يتضح ان إنفاق الحكومة الفدرالية، هناك، لا يتجاوز 5 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي عام 1900 وعليه نستنتج ان إنفاق الحكومة العامة لكندا يبقى ضمن النطاق البريطاني المشار اليه آنفا إذا افترضنا ان إنفاق حكومات الولايات وما دونها لا يتجاوز الانفاق الفدرالي وهو فرض معقول في القرن التاسع عشر. اما في الولايات المتحدة الامريكية فإن ايرادات الحكومة الفدرالية لا تتعدى 2 بالمائة عام 1860 وحوالي 3 بالمائة عام 1900، ولذا يمكن استنتاج الدور المحدود لإيرادات ونفقات الحكومة في حركة الاقتصاد آنذاك، وبتعبير آخر ان الاقتصاد شأن خاص، عمال واصحاب اعمال وملاك عقاريين ورأسماليين ...

وطالما ان المشتغلين بالعلوم الاجتماعية يتفقون على صلة التنظير بالواقع فلابد من التسليم بارتباط وثيق بين الفرضيات الأنطولوجية وابستمولوجيا الاقتصاد الكلاسيكي مع حجم اقتصادي للدولة في النطاق الذي رسمته البيانات التاريخية آنفا. ولكن عندما يصل إنفاق الحكومة العامة الى ما يعادل نصف الناتج، أي الدخل بجميع مكوناته من اجور وفوائض، فإن الاقتصاد قد اختلف جذريا. فلماذا نرتضي فهم العالم بنماذج نظرية لا تفرّق بين القرن التاسع عشر وبداية القرن الواحد والعشرين. ونذكر ان حجم القطاع العام اكبر من الحكومة العامة، إذ تندرج ضمنه الشركات التابعة للحكومات، بصورة او اخرى، والمصارف الحكومية والبنوك المركزية اضافة على الحكومة العامة.

ولهذا من المتعذر ادعاء المعرفة بكيفية عمل النظام الاقتصادي دون التوصل الى قناعات مستقرة حول السلوك الاقتصادي للقطاع العام او الحكومات وعقلانيتها الأداتية: وهذه تستند الى فرضيات مقنعة حول اداء الحكومة هل هو تعبير عن ارادة شاغلي مواقعها، في مؤسسات التشريع والتنفيذ ومراكز الإدارة البيروقراطية، ام ان الأداء تحكمه بنية تتجاوز هؤلاء وتُملي عليهم، وما هي تلك البنية، بشرط عدم المصادرة على المطلوب اثباته باستدعاء احكام مسبقة تعارف المشاهير على احترامها.

ان الثقل الاقتصادي لدولة هذا الزمن لا يقتصر على الجزء المتقدم من العالم بل ان الدول الناهضة ومتوسطة الدخل تصل ايراداتها بالمتوسط 26.6 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2017 أما نفقاتها فتقدر بنسبة 31.1 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. والمثير للانتباه والذي يستدعي المزيد من البحث ان الدول الفقيرة والتي تصنف واطئة الدخل بلغ الأنفاق الحكومي فيها 19.6 بالمائة من الناتج عام 2017. أي ان الحجم الاقتصادي النسبي للحكومة، دون بقية القطاع العام، في الدول الفقيرة يفوق ما كانت عليه البلدان المتقدمة نهاية القرن التاسع عشر او مطلع القرن العشرين، بل يتجاوز بعض الحكومات المتقدمة قبيل الحرب العالمية الثانية.

التنظير الشائع يفترض ان الاقتصاد شأن خاص: منتج يستقصي الارباح في قرارات التشغيل ومعدل العائد المتوقع على راس المال في قرارات الاستثمار، وشغيل يقارن بين اجر السوق ومشقة العمل، او قيمة وقت الفراغ، ومستهلك يعظم منافعة بالإذعان لقيد الموارد... وهكذا، هذه "العقلانية" تنبثق عنها او تتشكل منها بنية كلية ترسم الأنماط الظاهرة للإنتاج وتوليد وتوزيع الدخل والادخار والاستهلاك والاستثمار والنمو الاقتصادي. او ان البنية التي تحكم السلوك الاقتصادي الكلي او التجميعي هي نظام حقوق الملكية. وسواء كانت البنية بالمفهوم الأول او الثاني دائما التكنولوجيا او العلاقة التقنية بين العمل وادواته والبيئة الطبيعية تحدد الانتاج الاقصى الممكن في لحظة تاريخية.

ومنذ نهاية الثلاثينات وتبلور علم الاقتصاد الكلي تضاف عادة ايرادات ونفقات الحكومة الى المتطابقات بين الموارد والاستخدامات، ويدرس تأثير الضريبة والأنفاق الحكومي على مستوى الدخل الكلي. لكن القوام الرئيسي للتنظير الاقتصادي بقي كما هو بان الاقتصاد يتألف من وحدات خاصة تتصرف بعقلانية او بكيفية اخرى.

ان الإيرادات الحكومية من ضرائب تقتطع من ارباح انشطة الأعمال ومن الأجور، وايضا تفرض على التصرف بالدخل المكتسب عندما يُنفق ومنها ضرائب الاستهلاك. وعندما تصل ايرادات الحكومة الى هذه المقادير الهائلة لم يعد اجر الشغيل هو العامل الحاسم في تعيين صافي الربح، ولا يقرر لوحده رفاه مكتسب الأجر لأن الضرائب لا يستهان بها. ولا ينبغي التقليل من الدور الكبير لإيرادات ونفقات الحكومة في اعادة توزيع الدخل. فمن المعلوم، في الدول المتقدمة، ان العاطلين عن العمل تدفع لهم اعانات بطالة والمتقاعدون يستلمون مدفوعات ضمان اجتماعي، وتخصص مبالغ منتظمة للأسر التي تعجز عن كسب الدخل، او التي ينخفض دخلها دون الحد الأدنى، وهذه فضائل كبرى للدولة المعاصرة.

لكن القصد من هذه الملاحظة لفت الانتباه الى الأهمية الحاسمة لمعرفة محددات سلوك الدولة في الاقتصاد. خاصة وان الشكوى من عدم الكفاءة عامة ولو بدرجات متفاوتة، وحتى في البلدان المتقدمة تُتهم الحكومات بهدر الموارد، ما دفع بعض الخبراء الى التوصية بخفض قيمة الخدمات العامة في التقديرات الاحصائية، للتوصل الى قياس أكثر واقعية لمتوسط الناتج المحلي للفرد وسواه من المؤشرات الدالة على مقدار الرفاه الممكن اقتصاديا على المستوى الوطني.

اما في الدول النامية ومنها العراق فالأمل في تحسين التصرف بالموارد العامة ضئيل. واصبحت الشعوب في حيرة بين ما كان يسمى فشل السوق والملكية الخاصة وفشل الحكومات في ادارة الموارد التي بحوزتها.

ومن المفيد الإشارة الى دور آخر للدولة في الاقتصاد المعاصر، يتصل بثقلها الاقتصادي آنف الذكر ويتجاوزه، يتمثل في تنظيم الاقتصاد بالقوانين والضوابط والتعليمات، اضافة الى حماية حقوق الملكية والعاملين وحماية البيئة وتشجيع الأنشطة ذات الأولوية وغيرها.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2018
www.fcdrs.com

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي