صانع القواعد الجديد للاقتصاد العالمي
بروجيكت سنديكيت
2017-08-31 04:20
مايكل سبينس
ميلانو ــ في تعليق نُشر مؤخرا في صحيفة ساوث تشينا مورنينج بوست، أوضحت هيلين وونج، الرئيس التنفيذي لبنك اتش اس بي سي في منطقة الصين العظمى، أن جيل المستهلكين الصاعد في الصين وقوامه 400 مليون شاب ستبلغ نسبتهم من الاستهلاك المحلي في الدولة أكثر من النصف في القريب العاجل. ولاحظت وونج أن معظم معاملات هذا الجيل تجري عبر فضاء الإنترنت عبر منصات متحركة مبتكرة ومتكاملة، مشيرة إلى أن هذا الجيل بالفعل "قفز مباشرة من عصر ما قبل الشبكة العنكبوتية إلى الإنترنت المحمول، متخطيا (مرحلة) الحواسب الشخصية برمتها".
لا شك أن وجود طبقة متوسطة صاعدة في الصين أمر معروف للجميع، لكن ما يفتقر إلى الاهتمام الكافي حتى الآن هو مدى تأثير المستهلكين الصغار ذوي التوجهات الرقمية على النمو السريع في صناعات الخدمات بالصين وقيادتهم له. فالخدمات على أية حال ستساعد في قيادة التحول الهيكلي في الصين من اقتصاد متوسط الدخل إلى اقتصاد مرتفع الدخل.
قبل وقت ليس ببعيد، كان الكثير من الخبراء يشككون في قدرة الصين على إنجاز التحول من اقتصاد يهيمن عليه التصنيع كثيف العمالة، والصادرات، واستثمارات البنية التحتية، والصناعة الثقيلة إلى اقتصاد خدمات يعززه الطلب المحلي. لكن رغم بُعد التحول الاقتصادي الصيني عن الاكتمال، فإنه يتقدم بوتيرة تستحق الإعجاب.
في السنوات الأخيرة، اتجهت الصين للتخلص من قطاعات الصادرات كثيفة العمالة ونقلها للدول الأقل تطورا بتكاليف عمالة أقل. كما حولت قطاعات أخرى إلى أشكال إنتاجية تعتمد بدرجة أكبر على التكنولوجيا الرقمية وكثافة رأس المال، لتخفف كثيرا من مساوئ تكلفة الأيدي العاملة. وتشير هذه الاتجاهات إلى أن نمو جانب الإمدادات قد بات أقل اعتمادا على الأسواق الخارجية.
نتيجة لتلك التغييرات، تتنامى قوة الصين الاقتصادية بسرعة، إذ تنمو سوقها المحلي بوتيرة متسارعة، وقد تصبح قريبا الأكبر في العالم. ونظرا لقدرة الحكومة الصينية على التحكم في الوصول إلى هذه السوق، فمن الممكن أن تمارس نفوذها بشكل متزايد في آسيا وما وراءها. في الوقت ذاته، فإن تقلص اعتماد الصين على النمو القائم على الصادرات يجعلها أقل عرضة لأهواء هؤلاء الذين يتحكمون في الوصول للسوق العالمية.
لكن الصين ليست في حاجة حقيقية لتقييد الوصول لأسواقها، لأنها تستطيع تعزيز قوتها التفاوضية بمجرد التهديد بفعل ذلك، الأمر الذي يؤشر إلى أن وضع الصين في الاقتصاد العالمي بدأ يماثل وضع الولايات المتحدة خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت تشكل مع أوروبا القوة الاقتصادية المهيمنة على العالم. فعلى مدار عقود بعد الحرب العالمية الثانية، كان إنتاج أوروبا والولايات المتحدة يمثل أكثر من نصف الناتج العالمي (بل واقتربت من 70% في وقت ما)، ولم تعتمدا بشدة على الأسواق الأخرى، إلا فيما يتعلق بالموارد الطبيعية كالنفط والمعادن.
والآن تقترب الصين بسرعة من تموضع مشابه، فهي تتمتع بسوق محلية ضخمة للغاية ــ وكما ذكرت أنها سوق تستطيع التحكم في الوصول إليها ــ ودخول متزايدة، وطلب كلي مرتفع. كذلك فإن نموذج النمو الذي تتبناه الصين يعتمد إلى حد كبير على الاستهلاك والاستثمار المحليين، فيما يقل اعتماده على الصادرات.
لكن كيف ستستخدم الصين قوتها الاقتصادية المتزايدة؟ في فترة ما بعد الحرب، استغلت الاقتصادات المتقدمة وضعها لوضع قواعد للنشاط الاقتصادي العالمي. ولا شك أنها فعلت ذلك بطريقة تعود عليها هي ذاتها بالمنفعة، لكنها حاولت أيضا أن يكون للدول النامية نصيب من هذه المنافع قدر الإمكان.
بالتأكيد لم تكن قوى ما بعد الحرب مضطرة لتبنى هذا الاتجاه، إذ كان باستطاعتها التركيز على مصالحها بصورة أضيق، لكن ربما لم يكن من الحكمة التصرف على هذا النحو. ويجدر بالذكر هنا أن السلام والرخاء ــ وربما السلام قبل الرخاء ــ كانا الأولوية العليا في القرن العشرين بعد حربين عالميتين.
ويدل كل تحرك للصين على أنها تتحرك في نفس الاتجاه، فهي لن تنتهج نهجا ضيقا يركز على مصالحها الذاتية فقط، لأن هذا من شأنه أن يقلل من وضعها ونفوذها العالميين. وقد أظهرت الصين أنها تسعى لأن تكون ذات تأثير ونفوذ في العالم النامي ــ وفي آسيا بالتأكيد ــ بالقيام بدور الشريك المؤازر، ولو حتى في المجال الاقتصادي على الأقل.
تعتمد قدرة الصين على تحقيق هذا الهدف على تحركاتها في مجالين رئيسين من مجالات السياسات. الأول: الاستثمار، الذي تحركت فيه الصين بقوة بتقديم مجموعة متنوعة من المبادرات المتعددة الأطراف والمبادرات الثنائية. فقد أنشأت الصين مثلا البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية عام 2015، وقبلها في عام 2013 أعلنت عن مبادرة الحزام والطريق الهادفة لتحقيق التكامل في أوراسيا من خلال استثمارات هائلة في الطرق السريعة، والموانئ، والنقل بالسكك الحديدية، فضلا عن استثماراتها المكثفة في الدول الأفريقية.
والثاني هو الكيفية التي ستدير بها الصين عملية الوصول لسوقها الداخلية الضخمة فيما يتعلق بالتجارة والاستثمار والتي ستكون لها توابع بعيدة المدى بالنسبة لكل شركاء الصين الاقتصاديين الخارجيين، وليس فقط الدول النامية. إذ تعتبر سوق الصين المحلية الآن مصدر قوتها، ما يعني أن خياراتها في هذا المجال ستحدد بشكل كبير على المدى القريب موقفها الدولي لعقود قادمة.
لا ريب أن موقف الصين الحالي بشأن الوصول لسوقها المحلية أقل وضوحا من طموحاتها الاقتصادية في الخارج. لكن يرجح أن تتحرك الصين نحو إطار عمل مفتوح متعدد الأطراف يقوم على قواعد وقوانين بدرجة كبيرة. ويبين الدرس المستفاد من فترة ما بعد الحرب العالمية أن هذا النهج سيعود بأعظم الفوائد خارجيا، الأمر الذي سيعزز بالتالي نفوذ الصين دوليا. وفي هذه المرحلة من التطور الصيني، لن يكلف مثل هذا النهج الصين إلا القليل، وقد لا يكلفها شيئا، بينما سيعود عليها بمنافع كثيرة على الأرجح.
لكن يبقى أن نرى كيف ستسير علاقة الصين مع الولايات المتحدة. إذ تعاني الولايات المتحدة من نماذج إقصائية أو غير احتوائية للنمو وما يرتبط بها من اضطرابات سياسية واجتماعية. ويبدو الآن أن الولايات المتحدة تتخلى عن نهجها التاريخي الذي تبنته بعد الحرب في كيفية تناولها للسياسة الاقتصادية الدولية. لكن حتى لو كانت الولايات المتحدة لا تزال في طور عزل نفسها في ظل حكم الرئيس دونالد ترمب، فالأمر ليس هينا ولا يمكن تجاهله. ولو قامت إدارة ترمب بسن سياسات عدائية موجهة ضد الصين، فلن يكون أمام الصين خيار إلا الرد بالمثل.
ومع ذلك تستطيع الصين في الوقت ذاته أن تواصل تبنيها لنهج متعدد الأطراف يقوم على القواعد، وبوسعها أن تتوقع دعما كبيرا من الدول المتقدمة الأخرى والدول النامية. المهم أن لا يثنيها التردي الأمريكي إلى مستنقع القومية عن ذلك، إذ لا أحد يستطيع أن يخمن إلام سيتسمر هذا الأمر على أية حال.