هل يقتل ترمب الدولار؟
بروجيكت سنديكيت
2017-08-19 04:20
بنيامين كوهين
سانتا باربرا ــ طوال ما يقرب من قرن من الزمن، كان الدولار يُعَد الملاذ الآمن المطلق في العالَم المالي. فلم تَعِدنا أي عملة أخرى بنفس الدرجة من الأمان والسيولة للثروة المتراكمة. وفي أوقات المتاعب في الماضي، دأب المستثمرون المتوترون والبنوك المركزية الحصيفة على تكديس الأصول المقومة بالدولار، وخاصة سندات الخزانة الأميركية. ولكن لم يعد من الممكن أن تظل هذه الحال قائمة.
الواقع أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الفوضوية تسببت في تقويض الثقة في الدولار الأميركي بشدة. فمنذ تنصيبه أمام حشد شبحي من الملايين، ظل ترمب يتحرش بالحكومات الواحدة تلو الأخرى، بما في ذلك حكومات دول حليفة مثل أستراليا وألمانيا. ومؤخرا، أخذ العالَم إلى حافة حرب نووية بالتناطح مع دكتاتور كوريا الشمالية كيم جونج أون.
والآن يوشك الدولار على مواجهة اختبار جاد. فهل يستمر المستثمرون في وضع أموالهم في بلد يصر زعيمه على استفزاز المملكة المنعزلة بتهديدات من قبيل "قوة النيران والغضب"، أو يبحثون عن ملاذ مالي آمن في مكان آخر؟
لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية أن تعرضت سلامة الدولار لمثل هذا القدر من الشكوك. ففي فترة ما بعد الحرب، وَعَدَت أسواق المال الأميركية الناضجة الضخمة إلى حد غير عادي بقدر من السيولة لا مثيل له. ولأن الولايات المتحدة كانت قوة عسكرية مهيمنة، فكان بوسعها أن تضمن الأمن الجيوسياسي أيضا. ولم تكن أي دولة أخرى في وضع أفضل يتيح لها توفير أصول آمنة ومرنة من الدرجة الاستثمارية على النطاق الذي يحتاج إليه النظام المالي العالمي. وكما قالت الخبيرة الاستثمارية الاستراتيجية كاثي جونز من نيويورك في حديث مع نيويورك تايمز في مايو/أيار 2012، "عندما يشعر الناس بالقلق، فإن كل الطرق تؤدي إلى سندات الخزانة".
كان انفجار الفقاعة العقارية في عام 2007 من الأمثلة الواضحة على ذلك. إذ كان الجميع يعلمون أن الأزمة المالية، وما أعقبها من ركود، بدأت في الولايات المتحدة، التي كانت المسؤولة عن شبه انهيار الاقتصاد العالمي. مع ذلك، وحتى في أوج الأزمة تدفقت موجة من رؤوس الأموال إلى أسواق الولايات المتحدة، فتمكن مجلس الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة في الولايات المتحدة من تنفيذ استجابتهما للأزمة.
وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2008، تجاوز صافي مشتريات الأصول الأميركية 500 مليار دولار ــ أي أكثر بثلاث مرات من مجموع المشتريات في الأشهر التسعة السابقة. وبدلا من الانخفاض المتوقع لقيمة الدولار، ارتفعت قيمته. وبرزت سوق سندات الخزانة باعتبارها واحدة من القطاعات المالية القليلة التي ظلت تعمل بسلاسة. وحتى بعد تخفيض درجة سندات الخزانة من قِبَل وكالة ستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني في الاستجابة لتعطل الحكومة الأميركية لفترة وجيزة في منتصف عام 2011، استمر المستثمرون الأجانب في اقتناء الدولار.
وربما يُعزى قدر كبير من ارتفاع الطلب على الدولار قبل عشر سنوات إلى الخوف المحض: فلم يكن أحد يعلم إلى أي مدى قد تسوء الأمور. وبوسعنا أن نقول الشيء نفسه عن المواجهة المتصاعدة اليوم بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. ولكن هل يكرر التاريخ نفسه، فيدفع بالمستثمرين إلى التهافت على الدولار؟
الجواب المختصر هو: لا تعول على ذلك. كانت الأسواق تشير إلى عدم ثقتها في ترمب لأشهر الآن. وعند هذه النقطة، ربما يؤدي الخوف من اندلاع أزمة جديدة إلى التعجيل بهروب رؤوس الأموال بعيدا عن الدولار، وهي النقطة التي قد تضطر الولايات المتحدة عندها إلى التعامل مع أزمة الدولار بالإضافة إلى صراع عسكري محتمل.
بدت مخاطر اندلاع أزمة الدولار ضئيلة في الأسابيع التي تلت مباشرة فوز ترمب الانتخابي المفاجئ في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. ولكن بحلول نهاية العام المنصرم، دفعت تدفقات رأس المال إلى الداخل قيمة الدولار إلى الارتفاع إلى مستويات غير مشهودة منذ عقد من الزمن، بسبب توقعات إلغاء القيود التنظيمية على نطاق واسع، وتخفيض الضرائب، والتحفيز المالي في هيئة إنفاق على البنية الأساسية، وزيادة الإنفاق على المؤسسة العسكرية الأميركية التي يفترض أنها أصبحت "منهكة". وتصور المستثمرون أن النمو الاقتصادي من المحتم أن يتحسن.
ولكن مع انغماس إدارة ترمب في الفضائح الآن، تلاشت "صدمة ترمب" بعد الانتخابات، جنبا إلى جنب مع الثقة في الدولار. ففي أول مائتي يوم للإدارة، خسر الدولار نحو 10% من قيمته. وفي حين كان ترمب ينشر تغريداته الفارغة، كان المستثمرون يبحثون عن ملاذات آمنة بديلة في أسواق أخرى، من سويسرا إلى اليابان. وقد بدأ هذا الاتجاه قبل مناوشات الولايات المتحدة الأخيرة مع كوريا الشمالية، ولكنها كانت مجرد قطرة آنذاك، والآن تهدد هذه القطرة بالتحول إلى فيضان من شأنه أن يلحق ضررا دائما بالدولار.
بطبيعة الحال، ربما تريد إدارة ترمب إضعاف الدولار، وجعل آخرين يضطلعون بدور الملاذ الآمن العالمي. ولكن مثل هذا التنازل يتسم بقِصَر النظر تاريخيا إلى حد خطير.
إن شعبية الدولار كمخزن للقيمة تمنح الولايات المتحدة "امتيازا باهظا". فعندما يضع المستثمرون والبنوك المركزية ثرواتهم في سندات الخزانة وغيرها من الأصول الأميركية، تستطيع حكومة الولايات المتحدة الاستمرار في الإنفاق بقدر ما تحتاج للحفاظ على التزاماتها الأمنية العديدة في مختلف أنحاء العالَم، وتمويل العجز التجاري وعجز الموازنة.
في ظل نهج الصفقات الذي يتبناه في التعامل مع السياسة، يبدو أن ترمب يركز على تكاليف امتلاك عملة احتياطية عالمية أكثر من تركيزه على المزايا المترتبة على ذلك. لكنه لا يستطيع أن يأمل في "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى" إذا كان عليه أن يقلق بشأن فرار رأس المال، ولن يتمكن من تفعيل أجندته المحلية إذا اضطر إلى استيعاب مشاعر السوق السلبية في الخارج.
لن تكون أميركا التي ضحت بمكانتها المهيمنة في النظام السياسي العالمي "عظيمة". وإذا أصر ترمب على المبالغ في اختبار الدولار، فربما يندم على ذلك.