المنطلقات الماركسية في نقد الاقتصاد السياسي

حاتم حميد محسن

2017-05-04 07:31

يرى البعض ان كارل ماركس ليس رجلا اقتصاديا، كونه لم يعمل ضمن تقاليد كبار اقتصاديي الاقتصاد السياسي الكلاسيكي كسمث وريغاردو وساي. تلك التقاليد اكّدت على السمات المنظّمة ذاتيا لنظام السوق الحر وعلى مفهوم اليد اللامرئية في قوانين الاقتصاد. بدلا من ذلك سعى ماركس لكشف ما رآه كتناقضات متأصلة في الرأسمالية واوضح بأن الاقتصاديين الكلاسيكيين اساءوا فهم الافتراضات الايديولوجية المسبقة لمبادئ الاقتصاد العالمية. جهود ماركس لم تكن فقط هجوما على رأسمالية السوق الحر وانما ايضا شكلت نقدا راديكاليا للموضوع الجديد في النظرية الاقتصادية، الموضوع الذي رفضه ماركس باعتباره زائفا في الصميم. اليد اللامرئية هي مجرد مظهر خادع حسبما يرى ماركس. ما موجود حقا قيد العمل هو شيء ما أكثر شبها بالمخالب القاتلة، التي تخنق حاليا الطبقة العاملة ومن ثم الرأسماليين أنفسهم. الاقتصاديون الكلاسيك اصابهم العمى عن هذه الحقيقة. وكما يذكر ماركس:

"ان الاقتصاد السياسي الكلاسيكي يلامس تقريبا العلاقة الحقيقية للأشياء ولكن بدون ان يصوغها بوعي، وهذا لا يمكن ان يتم طالما يظل ذلك الاقتصاد ملتصقا في جلده البرجوازي."(الجزء الاول، فصل 19، صفحة 594)

يسعى ماركس لإختراق القناع الايديولوجي للرأسمالية للوصول الى عملياتها المنهجية الحقيقية التي تعمل في العالم المادي الاقتصادي. هذه هي طبيعة رسالة ماركس. ولكن اذا لم يكن رأس المال عملا اقتصاديا فما هو اذاً؟

ربما يراه البعض عملا اشتراكيا علميا وهي العبارة التي ميز بها ماركس نفسه عن كل من الاقتصاديين الكلاسيك والمصلحين الاجتماعيين غير الواقعيين في زمانه والذين هو احتقرهم كطوباويين اشتراكيين. فمن جهة انت امام اقتصاديين شجعوا ظهور الرأسمالية والثروة التي خلقتها من خلال مجموعة من المبادئ الاقتصادية مثل قوانين العرض والطلب والمزايا المقارنة وسمات التوازن الطويل الأجل لآلية السعر التنافسي. هم دعموا نظرية معقدة اكدت على نوع من العقلانية الاجتماعية التي تبرز الى السطح عندما يكون الناس احرارا في متابعة الخطط التي تحقق مصالحهم.

ومن جهة اخرى، انت امام نقاد اشتراكيين للرأسمالية القوا باللائمة على العديد من التأثيرات الاجتماعية لتطوّر نظام المصنع والتقنية العالية في تقسيم العمل وظهور المنتجين الرأسماليين الاثرياء. هؤلاء النقاد ضموا بين صفوفهم روبرت اوين الصناعي الثري ذاته، الذي خصص المزيد من ثروته لتكوين تعاونيات ومشاريع اسكان للطبقة العاملة، وحاول اقناع الرأسماليين الآخرين لتبنّي الشكل النظري المفضل للحالمين الاجتماعيين كـ شارلس فورير الذي عرض نموذجا مفصلا للجماعة الاجتماعية المثالية.

حسب رؤية ماركس، كلا الفريقين –المدافعون والنقاد- فشلا في الاعتراف بالعملية الديالكتيكية. كلاهما فشل في فهم ان الرأسمالية كانت مجرد مرحلة تاريخية لكنها مرحلة تاريخية ضرورية. الاقتصاديون اعتقدوا انهم اكتشفوا المبادئ الاقتصادية العالمية الجارية اثناء العمل، بينما هم في الحقيقة أصبحوا مجرد ضحايا لخداع النظام الاقتصادي المؤقت. هذا أصبح أكثر وضوحا في الاقتصادات الكلاسيكية بعد ريغاردو الذي اعتبره ماركس فقد كل أمل بالبقاء كرجل علمي غير منحاز، وأصبح بدلا من ذلك تبريريا. كل هذا دفع ماركس للتقليل من اهمية مثل هذا الاقتصاد ووصفه كاقتصاد مبتذل vulgar economics:

"في فرنسا وانجلترا استحوذت البرجوازية على السلطة السياسية. ومنذ ذلك الوقت، اتخذ الصراع الطبقي نظريا وعمليا اشكالا أكثر حدة وتهديدا. انه بدا كجرس انذار للاقتصاد البرجوازي العلمي. ولذلك لم يعد السؤال ما اذا كانت هذه النظرية صحيحة ام لا، وانما ما اذا كانت مفيدة لرأس المال ام ضارة به، ملائمة ام غير ملائمة، خطيرة سياسيا ام غير خطيرة. وبدلا من التحقيقات المحايدة كان هناك المحترفون النفعيون بدلا من البحث العلمي الحقيقي، كان هناك الضمير السيء والنية التبريرية الشريرة".(الجزء الاول، مقدمة المؤلف للطبعة الثانية، ص19)

نظر ماركس الى الاقتصادي الفرنسي (Bastiat) كنموذج واضح وممثل بارز للاقتصاد التبريري الساذج.(الجزء الاول، مقدمة المؤلف للطبعة الثانية، ص20)

الاشتراكيون الطوباويون، بالمقابل، كانوا يطورون خططا ساحرة لإصلاح الانسان، واصلاح المؤسسات الاجتماعية، او كلاهما. لكنهم فشلوا في رؤية ان النظام ذاته كان يتغير بعمق ضمن عملية ديالكتيكية مستمرة، تتم عبر التصادم بين المصالح المتضادة للطبقات. ماركس لم يقبل برؤى الاقتصاديين ولا برؤى الاشتراكيين في زمانه. جادل ماركس بان الانسان سيبلغ طاقته القصوى فقط عندما يتغير النظام راديكاليا، وبعد ان تنتهي مصالح الطبقات بثورة ديالكتيكية حتمية(1).

يمكننا العثور على اهتمام ماركس بطاقة الانسان التامة في عمله المبكر "مخطوطات فلسفية واقتصادية عام 1844". هنا يجادل ماركس بانه وفي ظل الرأسمالية يتم التعامل مع الاشياء ككائنات، والانسان يتم التعامل معه كشيء. مخطوطات عام 1844 تطرح هذا النقاش حول رؤية ماركس لطبيعة الانسان –ما هو وماذا يمكن ان يكون– بنظرية ديالكتيكية. التاريخ هو قصة الصراع الطبقي، هو قصة الاغتراب الانساني، هو قصة التناقضات المنهجية المستمرة، لكن التاريخ سيصل حتما الى نهايته– تناقضات النظام الرأسمالي الإغترابي سوف تخلق بالنهاية مركبا لنظام جوهري جديد. الاشتراكية ستضع نهاية للتاريخ، نهاية للاغتراب، واخيرا تطلق "عودة الانسان الى ذاته".

الانسان سيبلغ امكاناته القصوى فقط بعد ان يتغير النظام راديكاليا. ولكن ما هو النظام؟ جهود ماركس في رأس المال تحاول كشف المبدأ الاساسي المنظّم للمجتمع التجاري. بهذه الطريقة، سواء اتفقنا معه او لم نتفق كان اول مطور لما سمي لاحقا بتحليلات انظمة الاقتصاد المقارنة.

عموما، المبدأ المنظّم بالطبع هو السوق. ولكن بشكل ادق وفق رؤية ماركس، هو رأس المال ذاته الذي يسيطر على العلاقات في المجتمع التجاري الرأسمالي. الفهم الدقيق لرأس المال هو حل للغز نظام السوق. يحاول ماركس ان يقوم بهذا بالضبط في الأعداد الثلاثة الكبيرة هذه من كتابه "رأس المال".

يجادل ماركس بان الكلاسيكيين فشلوا في فهم طبيعة رأس المال. هم نظروا لنظام السوق كمجرد تبادل لمدخلات السلعة – رأس المال، الارض، العمل – لجمع الارباح من مخرجات السلعة. عيبهم كان تصور رأس المال كشيء، ربما كماكنة او ككمية من النقود، بدلا من ان يكون علاقات بين الناس التي ايضا بدورها اتخذت شكل علاقات اجتماعية بين الاشياء:

"رأس المال، الارض، العمل، لكن رأس المال ليس شيئا. هو علاقة ترابطية محددة في انتاج اجتماعي، يعود الى تكوين تاريخي محدد للمجتمع. هذه العلاقات المترابطة تعبّر عن ذاتها من خلال شيء محدد وتعطي لهذا الشيء سمة اجتماعية محددة. رأس المال هو ليس مجموع وسائل الانتاج المادية. رأس المال يعني وسائل الانتاج محولة الى رأس مال، ووسائل الانتاج بذاتها هي ليست رأس مال اكثر من ان يكون الذهب والفضة هي نقود بذاتها. رأس المال يشير الى وسائل الانتاج المحتكرة من جانب معين من المجتمع، منتجات العمل المادي التي جُعلت مستقلة عن قوة العمل ومعادية لها. رأس المال لا يعني مجرد منتجات العمال المستقلة عنهم والمحولة الى قوى اجتماعية، وانما ايضا القوى الاجتماعية والشكل المستقبلي غير الواضح للعمل".

من الضروري ان تنهار كامل النظرية الكلاسيكية لليد اللامرئية، الانسجام في المصالح، السمات الموازنة في السوق التنافسي كموضوعات علمية:

"التحليلات العلمية للمنافسة ليست ممكنة قبل ان نمتلك تصورا عن الطبيعة الداخلية لرأس المال، مثلما الحركات الظاهرة للأجسام الثقيلة غير متصورة لأي شخص عدا الشخص ذاته، الذي هو مطلع على حركاتها الحقيقية، الحركات التي لا يمكن تصورها مباشرة عبر الحواس".(الجزء الاول، فصل x11، ص347)

يبدأ ماركس في الجزء الاول بتحليلات مطولة عن السلع، انتاجها، واستبدالها بالنقود، ويطور فكرته عن عبادة السلعة commodity fetishism(2) في الفصل الاول من القسم الرابع. يكافح ماركس ليبين ان انتاج وتبادل السلع له طبيعة مزدوجة: اقتصاد السوق حقا يكشف عن علاقة مادية بين الناس (العمال يعاملون كمدخلات مكلفة في عملية الانتاج) الى جانب التدفق الاجتماعي للأشياء (كما يوصف عادة في مجموعة من المعادلات الرياضية التي حتى اليوم تُدرّس الى طلاب الاقتصاد في المستويات العليا).

يقول ماركس ان هذا ليس وهما. ولكن المشكلة هي ان كلا العلاقة المادية بين الناس والتدفق الاجتماعي للأشياء المادية يخفيان حقيقة ان كل من انتاج السلع واستبدالها هما ايضا يتأسسان بعلاقات اجتماعية تاريخية (رأسمالية) بين الناس. الاقتصاد الرأسمالي يخلق تدفقا معقدا من السلع، التدفق الذي يأخذ بالفعل (حياة مالكيه) ولهذا يخدع الاقتصاديين (ومواطني النظام الرأسمالي)، لأنهم يعتقدون ان هذا يمثل حالة طبيعية للموقف. في ثروة الامم ذهب ادم سمث (الكتاب iv فصل ix ص 687) بعيدا في اعتبار الهياكل الرأسمالية للمجتمع التجاري جزءا من "النظام المبسط والواضح للحرية الطبيعية". وان هذا يُعتبر خداعا طبقا لماركس. الرأسمالية لها سمة منهجية تقود الناس للاعتقاد بانهم منخرطون في فعالية طبيعية حرة –الحرية في قبول او رفض العمل، الحرية في التجارة، التوفير، الاستثمار حيثما يرونه ملائما وهكذا– بينما، هم في الحقيقة ينتمون لحالة المجتمع الذي تكون فيه السيادة على الانسان لعملية الانتاج بدلا من ان تكون تحت سيطرته.

ان نظام السوق يبدو واضحا ومبسطا وطبيعيا، لكنه دائما يخفي حقيقة ان الناس لازالوا عرضة للاغتراب، اغتراب اكثر قسوة من علاقات السيد -العبد، لأن النظام يشجعهم على الاعتقاد انهم يمارسون حرية الاختيار في علاقة العامل- رب العمل، بينما معظم العبيد يدركون انهم لم يكونوا احرارا.

يذهب ماركس مطولا في الجزء الاول لتطوير نظرية العمل في القيمة ويكشف بأن الربح او فائض القيمة يمكن خلقه فقط من خلال الاستغلال المنهجي المخفي للعمال. نقاشه في الفصل العاشر "يوم العمل" هو الاكثر قراءة لاولئك القراء الذين يرغبون تجنب التحليلات التقنية. الجزءان الثاني والثالث يتعاملان بكثافة مع توضيحات ماركس للامكانية التدميرية لدورة الاعمال والازمات الاقتصادية الناتجة عن عدم التوازن النقدي، بينما نقاشه لـ "الصيغة الثلاثية" The Trinitarian formula (3) في الجزء الثالث يعرض نقده الاكثر وضوحا للتوضيحات الاقتصادية الكلاسيكية للدخل المكتسب في المجتمع الرأسمالي.

انت لن تجد في رأس المال صورة مفصلة عن المجتمع الاشتراكي. ماركس لم يذهب كما فعل الاشتراكيون الطوباويون الذين اضاعوا وقتهم يحلمون بالتصاميم الساحرة. هذا في الحقيقة يمثل نقدا كبيرا للنظرية الاقتصادية القائمة. ولكن الكثير من رؤى ماركس حول الاشتراكية جاءت متضمنة ضمن نظريته في الاغتراب ونقده للترتيبات الاقتصادية للرأسمالية. اعتقد ماركس وبدون شك ان المجتمع الاشتراكي سيضع حدا للاغتراب والاستغلال والوهم عبر الغاء حقوق الملكية الخاصة، انتاج السلعة، اجور العمل، والنقود. انه سيسمح للانسان لبلوغ حريته وامكاناته القصوى. ماركس يتناول مستقبل الإمكانية لمجتمع اشتراكي غير مغترب كليا كمعطى، ويستخدم في رأس المال تلك الرؤية في نقده للرأسمالية. هو لا يختلف عن امتلاك الايمان الواضح والثابت في السماء في الحكم على منْ يشكل الإثم هنا على الارض. ماركس يستبدل الاشتراكية بالسماء والرأسمالية بالارض والاغتراب بالاثم. هو يستخدم مُثله اللااغترابية كمعيار للحكم وتقييم خصائص رأسمالية العالم الواقعي.

يقدم ماركس نظاما اقتصاديا راديكاليا مختلفا، باختصار هو الاشتراكية. انه سيكون نظاما مخططا كليا:

عملية الحياة في المجتمع، المرتكزة على عملية الانتاج المادي، لن تخلع قناعها الاسطوري حتى يتم التعامل معها كإنتاج بواسطة اناس مترابطون بحرية، ومنظمة بوعي من جانبهم طبقا لخطة موضوعة.

اذا كانت عبارات ثروة الامم شكلت النموذج الكلاسيكي للنظرية الاقتصادية، والدفاع عن المجتمع الحر، فان رأسمال كارل ماركس شكل الخيار الاكثر راديكالية. لا يمكن بالطبع التقليل من الاهمية التاريخية لرأس المال في الحركة الاشتراكية، وان رؤى رأس المال قد غيرت العالم.

لقد اثبت مسار الزمن ان رؤية سمث العامة هي الاكثر قبولا للظرف الانساني قياسا برؤية ماركس. نعتقد ان افضل طريقة لفهم رؤية سمث في "نظام الحرية الطبيعية" هي بإضافة ثروة الامم الى كتابه الأقل قراءة – نظرية العواطف الاخلاقية. لا يوجد هناك اثنان من سمث (الاقتصادي والفيلسوف الاخلاقي). هناك سمث واحد. ونفس الشيء ينطبق على ماركس. جهوده في رأس المال يمكن فهمها افضل في ضوء مخطوطاته عام 1844. رأس المال هو العمل الاكثر اهمية، هو عمل ماركس الاقتصادي الناضج، لكنه ايضا شيء ما اكثر من ذلك. انه يبني على رؤاه الفلسفية المبكرة. هو اخذ تلك الافكار كنقطة انطلاق وحاول جاهدا ايجاد تحليل نظري مفصل للرأسمالية كنظام اغترابي متناقض.

رأس المال كتاب يصعب قرائته في عدة اماكن، حين يغوص في النقاشات التقنية النظرية التي لم تعد ملائمة. في اماكن اخرى، نجده مثير للقراءة. يمكن للقارئ البدء بفهم الكيفية التي استولى بها ماركس على خيال الثوريين وكيف ان الماركسية ذاتها اصبحت برنامجا ايديولوجيا بكل ما تحمل من تناقضات ودوغمائيات والتباسات وأوهام.

The Nature and significance of Marx’s capital: A critique of political Economy, Library of Economics and Liberty

..........................................
الهوامش
(1) رفض ماركس كل الافكار التي سعت لإشتقاق القيمة (علاقة اجتماعية) من القيمة الاستعمالية (ظاهرة مادية). لأن السمة الاسطورية للسلعة لا تنشأ في الاصل من قيمتها الاستعمالية.رفض ماركس كل تلك الافكار التي فسرت طبيعة النقود وفق الخصائص التقنية المادية للذهب، كما صب جام غضبه على اولئك الذين سعوا لفهم رأس المال من الطبيعة التقنية لوسائل الانتاج. كل تلك الاخطاء تشترك بشيء واحد وهو انها فشلت في التمييز بين الدور التقني لوسائل العمل من جهة، وشكلها الاجتماعي من جهة اخرى. في ظل انتاج السلعة، تتخذ العلاقات بين الناس شكل علاقات بين "الاشياء". العلاقات الاجتماعية هي علاقات غير مباشرة تتوسط هذه الاشياء، والناس ببساطة "يمثلون" هذه الاشياء في مكان السوق. ماركس ينتقد الاقتصاديين السياسيين لأنهم يأخذون هذه الاشكال "كمعطى"(من الطبيعة) وليس كأشكال اجتماعية تبرز في ظل ظروف تاريخية محددة. هذه الاشكال ستختفي حتما عندما تبرز ظروف اجتماعية جديدة.
(2) يطرح ماركس تشابها بين عبادة الدين وعبادة السلعة، فمثلما يخضع الناس الى قداسة دين معين كذلك جميع السلع في ظل الرأسمالية تخضع لقداسة شيء واحد هو النقود. هذه النقود ليست مجرد وسيلة منظّمة وانما لها قوة اسطورية متجاوزة في ايجاد الاشياء. عبودية السلعة هو تصوّر للعلاقات الاجتماعية المشتركة في الانتاج، ليس كعلاقات بين الناس وانما كعلاقات اقتصادية بين النقود والسلع المتاجر بها في السوق. وبهذا فان عبودية السلعة تحوّل المظاهر الذاتية المجردة للقيمة الاقتصادية الى اشياء حقيقية موضوعية يعتقد الناس انها تنطوي على قيمة باطنية. ولهذا، نجد في المجتمع الرأسمالي، يُنظر للعلاقات الاجتماعية بين الناس الذين يصنعون السلعة وكل من له علاقة بإنتاجها كعلاقات اقتصادية بين الاشياء، بمعنى يتم تقييم السلعة بمقارنتها بسلعة اخرى. ولهذا فان تبادل السلع في السوق يحجب السمة الاقتصادية الحقيقية للعلاقات الانسانية بين العامل ورأس المال اثناء الانتاج.
(3) في هذه الصيغة الثلاثية (تضم ثلاثة عناصر) يتم التعبير عن الرأسمالية بإيجار الارض، واجور العمل، وفائدة رأس المال. يوضح ماركس كيف ان الاقتصاديين السطحيين صوروا العملية كعلاقة سبب ونتيجة، كما لو ان الارض كمصدر تنتج فعلا الايجار، والعمل ينتج فعلا الاجور، ورأس المال ينتج الفائدة: "في الصيغة الثلاثية يبدو ان رأس المال والارض والعمل كمصادر للفائدة والايجار والاجور، احدهم السبب بينما الاخر النتيجة". هذا يعني ان عملية تخصيص وتوزيع فائض القيمة تبدو ببساطة كإنتاج منعزل ومستقل للقيمة بواسطة فاعلين مختلفين في النظام الاقتصادي (العمال، مالكي الارض، الرأسماليون). رأس المال والارض والعمل يتجسدون كثلاثة مصادر مستقلة ومنفصلة ويبدو ايضا من هذه الثلاثة تبرز ثلاثة عناصر اخرى مختلفة من القيمة المنتجة. الارتباط الباطني بين هذه الفعاليات المتباينة في الظاهر يبقى مختفيا في صياغة الاقتصاديين الكلاسيك خاصة آدم سمث. تناولْ اي عنصر من الصيغة الثلاثية (الارض، العمل، رأس المال) بشكل منعزل عن العناصر الاخرى سيكون نسخة مشابهة لعمليات عبودية السلعة.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي