غصن زيتون

رقية تاج

2016-01-18 01:10

كلما ضاقت به الدنيا، يلوذ بها حين توصد كل الأبواب في وجهه. تحميه وتظللّه وتمنحه بعض الطمأنينة في هذا العالم الصاخب.. ارتمى بين أحضانها وهو يلتقط أنفاسه من شدّة الركض..

لفّهم الصمت لوهلة قصيرة وقطعه صوت النسيم العابر بين الاوراق ورذاذ خفيف من المطر غسل عنه البركان الهائج الذي اعتمل في صدره طوال النهار.. أطلق العنان لدموعه بعد أن حبست عيناه والسماء المطر طويلا في ذلك الصباح الغائم..

بكى غضبا.. ألما.. أسفا.. فزعاَ وهو يستعيد ما عاشه من صدمات في يوم واحد!!

لم يكن يوما شخصا حسّاساً يتلوّى أمام الكلمات، لكن تلك الكلمة هزّته.. جرحته في الاعماق ولا زالت ترنّ في أذنه منذ ان تفوّه بها أحد الطلاب ورضيت بها بعض العيون..

كافر.. مشرك!!

***

لم يجد يوما أصدق من القلم في التعبير عن خواطره وما يجول في خلده في بضع وريقات..

الكتابة تؤنسه وتعطيه راحة كبيرة وتهدّئ من روعه..

أغمض عينيه قليلا.. ارتعشت أنامله، كان القلم عصيّا وخانته الكلمات التي تنزلق دوما من بين أصابعه كالماء الزلال!! غصّة عالقة في حلقه.. ومرارة لا تبرح ان تغادره وهو يتذكر تلك الكلمة التي وجّهت اليه بعد ان باح لأقرانه بعادته في كتابة رسائل ووضعها في أضرحة الأئمة والاولياء الصالحين!!

بلع ريقه.. ابتسم بحزن وهو يسترجع جوابه لهم عن الاستعانة بغير الله!! وقد ضاعت كلماته بين همهمات التلاميذ ولم يعره أحداَ أذنا صاغية..

هي رسائل الى الله.. سيوصلها الى السماء ساعي القلوب.. هو أقرب اليه منّا..

قدّيسون صفاهم الرب واصطفاهم لهذه المهمة!!

***

ضاقت عينا الجد وهي تتابع حركات حفيده الذي اختار مكانا قصيّا من البستان الصغير الذي انتقلوا اليه جديدا، افترش الأرض تحت أغصان شجرة زيتون اختارها أو ربما هي اختارته من بين بقية الاشجار وكاد الجلوس تحتها يصبح طقسا يوميا!!

تلألأت مئات النجوم التي ظنّ انها أفلت في عينيه الضيقتين ورؤيا قديمة لزوجته المتوفاة قد تجسدت أمامه حرفيا وهي جلوس أحد أبنائه تحت شجرة زيتون عملاقة!!

تنهد بعمق ورنا الى السماء المزدحمة بالغيوم..

هو يؤمن بقدسية آيات الله ومنها الغيث الذي يأتي بعد الحاجة اليه.. ارتفعت دعواته مع رائحة المطر والتراب واتحدت كلماته مع أجمل سمفونيات الكون، وسأل الله بأن يتحقق تأويل الحلم وهو ولد صالح من صلبه يمضي بنور العلم والايمان!!

***

كان جدّه كملاكه الحارس، يبعث فيه القوة كلما وهن.. يأخذ بيديه كلما شعر أنه تاه عن الطريق ويسعفه دوما بالرأي والمشورة..

ضحك حتى بانت نواجذه حين رأى الاوراق المتناثرة وتذكر هواية حفيده الذي كبر ولا يزال الطفل الصغير داخله الذي يكتب ويرسم ويودعها عند كل ضريح يزوره مع علمه بأنها ستتلف لاحقا!!

وكأنه قرأ أفكاره وحدس سبب حزنه فقال له:

(رب العالمين أقرب اليك من حبل الوريد يكفيه كلاما صادقا ومخلصا من القلب وكلمات بسيطة غير متكلفة هو يعلمها قبل ان تشرع في كتابتها.. استثمر أشعارك وخواطرك لشيء اخر.. للبشر الذين لايعلمون نواياك وما يعتمل في صدرك او يجول في خلدك).

(لماذا ينعتوننا بالشرك؟؟).

سأل بصوت حانق لا يشوبه شك، فصرح الايمان لم يهتز في قلبه، إذ روحه تشرّبت العشق الالهي منذ الصغر ولكنه يعوّل كثيرا على آراء جده في كيفية اجابة كل من يسأل.

(هناك من يخلق من الافتراضات حقائق!! يحكمون عليك بما يعتقد أنه رآه، يوجد فكر متطرف في كل دين وفي كل طائفة وفي كل مجتمع ويتأثر به البعض.

حاورهم ياولدي.. جاملهم ولاتداهن وداريهم ولاتنافق، دافع عن معتقداتك وعرّف الناس بها.. واحذر من ان يكون كل هدفك هو اثبات وجهة نظرك، بل ليكن نشدان الحقيقة، امتشق قلمك لهذا الهدف وسأكون مع كتبي عكازتك التي تتكئ عليها.. رسول الله وأهل بيته صرفوا وقتا طويلا في محادثة الناس ومناقشتهم والاحتجاج معهم حتى مع عبدة الاوثان والزنادقة فكيف بك مع مسلم تشترك معه بأغلب أصول وفروع الدين).

جادلهم بالتي هي أحسن.. عقيدة أهل البيت هي عقيدة رسول الله وشعارهم التوحيد والعبودية ونحن سائرون على ذات الطريق، نحن نزور الوسطاء لأننا نؤمن بأنهم يمهدون لنا الدرب الى الملكوت والوسائل أسباب أرادها الله وسنّها في نواميسه).

زفر بأسف وتابع (كل فكر متطرف يكفّر الاخر ويزهق أرواح بريئة يجب ان يحارب من كافة الاديان والمذاهب، التكفير والتخوين مرض متفشي في كل مكان، أصابتنا جميعا وتركنا عدونا المشترك.. ستصل رسائلك الى كل الناس عدا الأمّي الذي لا يحسن القراءة بل لم يعرف الأبجدية يوما وطالما لا يكون الاعتداء على الاخر جزء من هذه الرسالة!!).

***

تلقف احدى الاوراق وبعزيمة محارب بدأ لوحته.. لوّن الجزء الاعلى بلون الاحمر وفي أسفل الصفحة كان اللون الاسود.. وما بينهما وبلون الزيتون!! كتب وكتب وكتب وكان كل ماكتب..

الله أكبر!!

وبمهارة فنية عالية رسم في صفحة أخرى فسيفساء بألوان زاهية وكانت على شكل خريطة الوطن..

***

"أمرُّ على الديار ديار ليلى......أقبّل ذا الجدار وذا الجدار

وماحب الديار شغفن قلبي......ولكن حب من سكن الديار"

كانت تلك احدى رسائله لأصدقائه الذين سألوه بجدوى تقبيل الأضرحة!! وتبنى في ذلك أسلوب التروية.. كـ جدّه في شرح وتقريب الصورة الى الاذهان..

"خير لك أن تقضي وقتك بالسعي لإدخال نفسك الجنة، على السعي في إثبات ان غيرك سيدخل النار"

لم تكن هذه المقولة سوى رسالة قصيرة لنظير له في المذهب وذلك بعد أن سمع منه يوما أن كل الناس سيدخلون النار والجنّة خلقت لهم فقط!!

كتب أحدهم اليه (لماذا تبكون على الحسين الذي قتل قبل ألف عام؟).

وهل يقوى الورق على مايريد كتابته؟؟

قدّم له كتيبا باسم (ألم.. ذلك الحسين) قد بكى عند قراءته قبل سنوات حتى الصباح!! وأمل ان يقرأ السائل سبب الدموع والنحيب لأجل من ضحى بمهجته في سبيل انقاذ دين جده وشريعته السمحاء وقد كتب رسالته الخالدة بدمه قبل ألف عام!!

***

مرر أطراف أصابعه على الشجرة بلطف كمن يلمس لوحة فنية وتفرّس في وجه حفيده قائلا له: (شجرة الزيتون شجرة مباركة، معمرّة، دائمة الخضرة.. أعطاها الله قدسية خاصة ومكانة متميزة في جميع الاديان السماوية، هي شجرة السلام والخير والتواضع والبركة.. وهي تصمد في وجه الظروف البيئية القاسية كالجفاف فضلا عن أهمية ثمرتها التي أقسم الله بها في القرآن الكريم)..

ربت على كتفه واستأنف حديثه الذي سرعان ما برق في ذهن حفيده المتقّد أنه يرمي الى غايات اخرى.

(وهي تصلح زراعتها في اغلب مناطق أرضنا ولا تحتاج الى الكثير من الخدمات فهي تكتفي بما تجود به الامطار ولها قدرة هائلة على التكيّف، لكن كلما كانت الظروف مناسبة أكثر كانت جودة الزيتون أعلى تذكر جيدا انك ستنجح بزراعتها في كل مكان لكن بطريقة صحيحة!!).

(انثر بذورها وازرع شتلاتها واعتني بها واصبر.. فإنها تحتاج للنمو لعدة سنوات قبل ان تعطي ثمارها).

أطرق برأسه وقد شعر بعقدة انقباض في قلبه وهو يردد بأسى

(في سامراء قطع المجرمون شجرة عملاقة).

وضع يده على قلب حفيده وطرق عليه طرقات خفيفة

(لكن الجذور امتدت عميقا في الارض وهاهي تنمو من جديد بسواعد أبنائها).

***

سيشعر كل من يدخل الى تلك الواحة بظلال تلك الشجرة العظيمة التي تتدلى أغصانها لكل من يحب أن يحمل أحدها ويمضي في سبيل نشر الخير والايمان والسلام..

وافق أصدقاؤه على فكرة اصطحابه لهم لزيارة سبط رسول الله (ص) ومنهم من تشرّف بزيارته قبلا، ومنهم من أتى من باب الفضول وتأييدا لمقترح قُدم لهم وهو طرح أسئلة عشوائية للزوّار، ليتأكدون منهم عن القصد من وراء هذه الطقوس!!.

قبّل الجميع الباب الرئيسي للحرم المطهّر وتخلّوا عن فكرة الاسئلة التي وجدوا جوابها بمجرد الدخول.. واصطفوا كبنيان مرصوص لصلاة الزيارة قربة الى الله تعالى!!

التقط أحدهم غصنا ثم التقطت عيناه ومن بعدها عدسة كاميرته مجموعة فتيان مختلفين كما يبدو مصطفين للصلاة كأنهم بنيان مرصوص..

التقط الصورة بفخر وسيرسل الرسالة هذه المرة الى كل العالم!!

ذات صلة

التنمية المتوازنة في نصوص الإمام علي (ع)أهمية التعداد السكاني وأهدافهالموازنة في العراق.. الدور والحجم والاثرفرصة الصعود في قطار الثقافةموقع العراق في سياسة إدارة ترامب الجديدة